التوبة بعد الإقرار
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
من الواضح أنّ العقوبة التي تكون راجعة إلى حقوق الناس لا تسقط بالتوبة بعد
الإقرار ، كما في مثل حدّ القذف، وكذلك القصاص والديات.
أمّا العقوبة التي ترجع إلى الحقّ العام، وهو ما يصطلح عليه في
الفقه بحقّ اللَّه تعالى، فكذلك لا تسقط إذا انضمّت البيّنة إلى الإقرار وحصلت التوبة بعدهما؛ لإطلاقات أدلّة العقوبة التي لا مقيّد لها في هذه الحال،
أمّا لو لم تكن هناك بيّنة فقد ذكر بعض الفقهاء أنّ الحدّ يسقط حينئذٍ؛
ولعلّ المستند في ذلك صحيحة
عبد الله بن سنان عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «السارق إذا جاء من قبل نفسه تائباً إلى اللَّه عزّوجلّ، تردّ سرقته إلى صاحبها، ولا قطع عليه»،
على أساس أن لا خصوصية في السرقة.
واورد عليه بأنّ
احتمال الخصوصية وارد، فلا يتعدّى عن مورد السرقة إلى سائر حقوق اللَّه تعالى.
وأيضاً لا يدلّ تعبير (جاء) على الإقرار أو المجيء إلى الحاكم، وإلّا لكان ينبغي أن يذكر ذلك، وإنّما المقصود بقرينة الذيل أنّه جاء إلى المسروق منه ليردّ عليه سرقته، فتكون الرواية ناظرة إلى حكم آخر، لا إلى حكم الإقرار.
نعم، وقع بحث آخر في ثبوت الحقّ للحاكم في العفو عن
العقوبة في حقوق اللَّه إذا كان الذنب ثابتاً بالإقرار دون ما إذا كان ثابتاً بالبيّنة
والشهادة، وقيّد المشهور ذلك بوقوع التوبة من المذنب بعد الإقرار،
لكن وقع بينهم فيه خلاف من جهة اخرى، وكانت لهم في ذلك أقوال:
ما نسب إلى المشهور
من أنّ
الإمام مخيّر بين إقامة الحدّ عليه، والعفو عنه حسب ما يراه من المصلحة في ذلك من غير فرق بين الرجم والجلد، تاب أو لم يتب.
وقد استدل له ببعض الأخبار التي منها:
رواية
طلحة بن زيد عن
جعفر عليه السلام قال: «حدّثني بعض أهلي أنّ شابّاً أتى
أمير المؤمنين عليه السلام فأقرّ عنده بالسرقة، قال: فقال له
علي عليه السلام : إنّي أراك شابّاً لا بأس بهبتك، فهل تقرأ شيئاً من القرآن؟ قال: نعم، سورة
البقرة ، فقال: قد وهبت يدك لسورة البقرة، قال: وإنّما منعه أن يقطعه؛ لأنّه لم يقم عليه بيّنة».
وقد يستشكل في
الاستدلال بها تارةً من حيث إنّها تحكي عن قضاء أمير المؤمنين عليه السلام ولعلّه حكم خاص به عليه السلام، واخرى باختصاصها بالسرقة ولا يحرز شمولها لغيرها. واجيب بأنّ ظاهر التعليل بعدم قيام البيّنة ينفي هذين الاختصاصين.
ما نسب إلى المشهور أيضاً من أخذ قيد التوبة في عفو الحاكم، فيكون موضوع العفو مركّباً من جزءين: الإقرار والتوبة.
هذا، ولكن الناظر في الأخبار السابقة يجد خلوّها عن قيد التوبة رأساً؛ ولذلك استدلّ له
السيّد الطباطبائي باتّفاق الفقهاء على ذلك، فإنّه بعد اعترافه بأنّه ليس في شيء من الأخبار
اعتبار التوبة، قال: «ولعلّ اتّفاقهم عليه كافٍ في تقيّدها بها».
وذهب
السيّد الخوئي إلى أنّ الحكم بتخيير الإمام بين
إقامة الحدّ على المقرّ وبين العفو عنه ليس مقيّداً بتوبة المقرّ بعد الإقرار كما قيّده المشهور؛ لعدم الدليل عليه، بل الإمام مخيّر في ذلك إذا ثبت الحكم بالإقرار، سواء تاب المقر أم لا.
ولكن هذا المقدار من البيان إنّما يكفي عند القائل بالإجماع؛ ولذلك اعترض عليه السيّد الخوئي بعدم تمامية
الإجماع ، وأنّ مقتضى إطلاق ما دلّ على جواز عفو الإمام عدم الفرق بين توبة المقرّ وعدمها.
وقرّب بعض الفقهاء المعاصرين أخذ قيد التوبة بأنّ هناك تعارضاً قائماً بين
إطلاق حقّ العفو عن المجرم حتى لو لم يتب، وبين ما دلّ على أنّ حدّ اللَّه لا يعطّل ولا يضيّع، وأنّ من عطّله قد عاند اللَّه سبحانه، فهذه النصوص آبية عن التخصيص إلّا مع وجود نكتة ثبوتية تفرض خروج المورد تخصّصاً لا تخصيصاً، والحكم الذي نحن فيه من باب التخفيف، ولابدّ للتخفيف من أن يقوم على أساس تغيّر ثبوتي من المجرم تجاه الجريمة، ألا وهو التوبة، فالناظر في مجموع الروايات يفهم أنّ إقرار المجرم الذي يأتي برجليه إلى الحاكم درجة من التوبة، وهنا إذا رأى الحاكم منه التوبة والصلاح عفا عنه إذا أراد، وإلّا أجرى الحدّ عليه.
هذا كلّه في غير حدّ السرقة، أمّا فيه فهل يسقط أم لا؟ فيه قولان:
تخيير الإمام بين
إجراء الحدّ عليه والعفو عنه بالنحو الذي مرّ.
عدم سقوط الحدّ عنه بوجهٍ.
وتفصيل ذلك كلّه في محلّه.
الموسوعة الفقهية، ج۱۶، ص۱۱۸- ۱۲۱.