الطهارة بالانتقال
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
من المعاني التي استعمل
الفقهاء فيها كلمة
الانتقال في التحوّل المعنوي هو ما ذكروه في باب المطهّرات، من أنّ النجس إذا انتقل إلى جسم طاهر وصار جزءً من المنتقل إليه يشمله حكم الثاني ويحكم بطهارته، كانتقال دم
الإنسان أو غيره ممّا له نفس سائلة إلى جوف ما لا نفس له كالبعوض والقمّل أو السمك، حيث ذكر جملة من الفقهاء في ضمن المطهّرات الانتقال بهذا المعنى.
وتفصيل ذلك أنّ الانتقال قد يكون بصورة أنّ النجس المنتقل تنقطع إضافته الأوّلية عن المنتقل عنه، وتتبدّل إلى
إضافة ثانويّة إلى المنتقل إليه، كما في
امتصاص البعوضة لدم الإنسان، فالدم المنتقل إلى جسم البعوضة لا يسمّى بعد انتقاله إلى داخل جوفها دم إنسان، بل يدعى بدم البعوضة؛ لصيرورته جزءً من بدنها بالتحليل، ولا يمكن إضافته إلى الإنسان إلّابنحو من التجوّز.
وهذه الصورة هي
القدر المتيقّن من كلام الفقهاء الذين حكموا بسببيّة الانتقال للطهارة.
وقد يقال بأنّ ملاك الطهارة في هذه الصورة هو صدق
الاستحالة ، وهي سبب للطهارة مغايرٌ للانتقال.
ويرد عليه أنّ الانتقال هذا ليس من الاستحالة في شيء؛ لأنّه يعتبر في الاستحالة تبدّل الحقيقة إلى حقيقة اخرى مغايرة للُاولى، والحقيقة الدموية في المثال المذكور لم تتبدّل بحقيقة اخرى، بل تبدّلت الإضافة فحسب، فأصبح دم حيوان لا نفس له، ومقتضى عموم ما دلّ على طهارة دمه أو إطلاقه هو الحكم بطهارته.
وقد يكون الانتقال بصورة اخرى: وهي أن ينتقل النجس إلى حيوان طاهر من دون أن تنقطع إضافته الأوّلية إلى المنتقل عنه، ولا تصحّ إضافته إلى المنتقل إليه، كما إذا انتقل دم الإنسان إلى بعوضة، وقبل صيرورته جزءً منها ضُربت البعوضة وخرج الدم منها، فإنّ الخارج منها حينئذٍ هو دم الإنسان، ولا يقال: إنّه دم البعوضة؛ لأنّ البعوضة في ذلك الوقت ليست إلّا ظرفاً للدم الممتصّ من الإنسان.
ولا شبهة حينئذٍ في نجاسة ذلك الدم؛ لأنّه ممّا له نفس سائلة. وما تبدّل إنّما هو فقط المكان وليس حقيقة المنتقل؛ لعدم حصول تحوّل في الإضافة، فمقتضى عموم ما دلّ على نجاسة دم الإنسان أو إطلاقه هو الحكم بالنجاسة.
وهناك صورة ثالثة وهي: أن ينتقل النجس إلى حيوان طاهر، ولكنّه يكون بحيث يصحّ أن يضاف إلى كلّ من المنتقل عنه والمنتقل إليه إضافة حقيقيّة؛ لجواز
اجتماع الإضافات المتعدّدة على شيء واحد؛ لعدم التنافي بينها، ولكون الإضافة أمراً خفيف المؤونة، وتصحّ بأدنى مناسبة، فهل يحكم بطهارة الدم المنتقل آنذاك أم لا؟ فيه كلام.
وقد فصّل
السيّد الخوئي البحث في ذلك بأنّ نجاسة دم المنتقل عنه وطهارة دم المنتقل إليه إمّا أن تثبتا بدليل لبّي من
إجماع أو سيرة، وإمّا أن تثبتا بدليل لفظي
اجتهادي ، وإمّا أن تثبت إحداهما باللبّي وثانيتهما باللفظي.
فإن ثبت كلّ منهما بالأدلّة اللبّية فلا إشكال في عدم
إمكان اجتماعهما في ذلك المورد؛ لاستحالة
اتّصاف الشيء الواحد بالنجاسة والطهارة الفعليتين من جهتين، ولابدّ معه من مراجعة
الأصل العملي ، من قاعدة الطهارة، أو
استصحاب النجاسة.
وأمّا إذا ثبت أحدهما باللفظي وثبت الآخر باللّبي فلابدّ من رفع اليد عن عموم الدليل اللفظي أو إطلاقه بقرينة الإجماع- مثلًا- وحمله على مورد آخر.
هذا فيما علم شمول الإجماع لمورد الاجتماع، وإلّا فيؤخذ بالقدر المتيقّن- وهو غير مورد الاجتماع- ويرجع فيه إلى الدليل اللفظي من
إطلاق أو عموم.
وأمّا إذا ثبت كلّ منهما بدليل لفظي، فإن كان أحدهما بالإطلاق والآخر بالوضع والعموم فقد بيّنا في محلّه أنّ الدلالة الوضعيّة متقدّمة على الإطلاق... وإذا كان كلاهما بالإطلاق فلا محالة يتساقطان، ويرجع إلى مقتضى
الأصل العملي.
ولو ثبت كلاهما بالعموم فهما متعارضان، ومعه لابدّ من الرجوع إلى المرجّحات إن وجدت، وإلّا فيحكم بالتخيير بينهما على ما هو المعروف بينهم.
وأمّا على مسلكنا فلا مناص من الحكم بتساقطهما والرجوع إلى الأصل العملي، وهو استصحاب نجاسة الدم المتيقّنة قبل الانتقال، وهذا هو المعروف عندهم، إلّا أنّه يبتني على جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة، وقد ناقشنا فيه في محلّه؛ لأنّه مبتلى بالمعارض دائماً، ومعه تصل النوبة إلى قاعدة الطهارة، وبها يحكم بطهارة الدم في مفروض الكلام.
هذا كلّه إذا علمنا حدوث الإضافة الثانوية وعدم
انقطاع الإضافة الأوّلية، وأمّا لو شككنا في ذلك فلا يخلو إمّا أن يعلم بوجود الإضافة الثانوية لصدق أنّه دم البق أو البرغوث- مثلًا- ويشكّ في انقطاع الإضافة الأوّلية وعدمه، وإمّا أن يعلم بقاء الإضافة الأوّلية لصدق أنّه دم الإنسان- مثلًا- ويشكّ في حدوث الإضافة الثانويّة، وإمّا أن يشكّ في كلتا الإضافتين، وهذه صور ثلاث:
أمّا الصورة الاولى فإن كانت الشبهة مفهوميّة، كما إذا كان الشكّ في سعة مفهوم الدم- أي دم الإنسان مثلًا- وضيقه من غير أن يشكّ في حدوث شيء أو
ارتفاعه ، فلا مانع من التمسّك بإطلاق ما دلّ على طهارة الدم المنتقل إليه أو عمومه، ولا يجري استصحاب بقاء الإضافة الأوّلية.
وأمّا إذا كانت الشبهة موضوعية، كما إذا بنينا على بقاء الإضافة الأوّلية حال النصّ والانتقال، كما أنّ الإضافة الثانويّة موجودة، فإنّه على ذلك يشكّ في أنّ الدم الذي أصاب ثوبه أو بدنه هل أصابه بعد الانتقال ليحكم بطهارته لأنّه دم البقّ، أو أنّه أصابه حال مصّه ليحكم بنجاسته، فلا مانع من استصحاب بقاء الإضافة الأوّلية.
وأمّا الصورة الثانية فلا إشكال فيها في الحكم بنجاسة الدم، بلا فرق في ذلك بين جريان الاستصحاب في عدم حدوث الإضافة الثانوية- كما إذا كانت
الشبهة موضوعية - وبين عدم جريانه، كما إذا كانت الشبهة مفهوميّة، وذلك لعموم ما دلّ على نجاسة دم المنتقل عنه أو إطلاقه، حيث لا معارض له.
وأمّا الصورة الثالثة فإن كانت الشبهة مفهوميّة لم يكن فيها مجال لاستصحاب الحكم أو الموضوع في شيء من الإضافتين، فيرجع حينئذ إلى قاعدة الطهارة، وأمّا إذا كانت الشبهة موضوعيّة فلا مانع من استصحاب بقاء الإضافة الأوّلية، أو استصحاب عدم حدوث الإضافة الثانوية والحكم بنجاسة الدم.
وتفصيله في محلّه.
الموسوعة الفقهية، ج۱۸، ص۱۸-۲۲.