المتعاقدان في الإجارة
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
لا شكّ أنّ المؤجر والمستأجر طرفان وركنان في عقد
الإجارة كما هو في كافّة عقود
المعاوضة . والبحث عن المتعاقدين يقع ضمن ما يلي.
يشترط للمتعاقدين في عقد الإيجار الشروط العامة كما في سائر المعاوضات، وهي:
۱- فعليّة
الإرادة والقصد
أو
الالتزام بالمضمون المعاملي لينعقد العقد، وهذا من الشرائط العقلية التي لا تنعقد الإجارة بدونه.
۲- أن تكون الإرادة بالاختيار- أي بلا
إكراه - فإذا وقع عن إكراه بطل.
۳- أن تكون الإرادة ممّن له
الولاية على
التصرف سواء كان أصيلًا- أي مالكاً- أو
مأذوناً من قبله أو ولياً عليه، فتخرج بذلك معاملات
الصبي غير
المميّز والسفيه والعبد والمحجور عليه
لمرض أو
دين أو
جناية .
إلّا أنّه وقع البحث عن تطبيقات لبعض هذه الشروط في عقد الإجارة يأتي توضيحها.
۱- تصح إجارة الصبي المميّز ماله أو نفسه- بناءً على صحة عباراته- إذا أذن له وليّه قبل العقد أو أجازه فيما بعد،
وهناك من حكم بصحة عقد الصبي المميّز بإذن الولي مطلقاً، وهناك من فصّل بين عقده في مال غيره بإذن المالك فيصح، وعقده في مال نفسه فلا يصح حتى بإذن الولي، إلّا إذا كان
وكيلًا أو مأذوناً في مجرد
إنشاء الصيغة.
۲- لو آجر الوليّ الصبيَّ أو آجر ماله مدّة لا تزيد على
بلوغه ورشده مع حصول
الغبطة والمصلحة صحَّ، إلّا أنّه وقع الكلام بينهم في فرضين:
الأوّل: إجارته الصبيَّ أو ماله مدّة يعلم بلوغ الصبيّ قبل انقضائها.
الثاني: إجارته له مدّة لا يعلم بلوغه فيها، إلّا أنّه اتفق ذلك قبل
انقضاء الإجارة.
فقد اختلفت أقوال الفقهاء فيه:
ذهب
الشيخ إلى
بطلان الإجارة بعد البلوغ وقال: «إذا آجر الأب أو الوصي الصبيّ أو ماله صحّ ذلك كما يصحّ بيع ماله، فإذا بلغ وقد بقي من مدّة الإجارة بعضها كان له
فسخها فيما بقي، وقيل: إنّه ليس له ذلك وهو الأقوى. ومتى آجر الوصيّ صبيّاً أو شيئاً من ماله مدّة يتيقن أنّه يبلغ قبل مضيها مثل أن يكون للصبيّ أربع عشرة سنة فآجره ثلاث سنين فإنّه يبلغ باستكمال خمس عشرة سنة فإنّ السنة الواحدة يكون العقد صحيحاً وما زاد عليه يكون باطلًا، ومتى آجره مدّة لا يتيقن أنّه يبلغ قبل مضيّها... فيكون العقد صحيحاً، وإذا بلغ وكان رشيداً كان له الفسخ»
وتبعه
الكيدري على ذلك، ولعلّه لعدم وجود مجيز في الحال بالنسبة إلى ما بعد البلوغ
بناءً على اعتباره. بينما قال
العلّامة في غير
الارشاد والمحقق
والشهيد الثانيين
بصحة الإجارة بعد البلوغ، لكن مع ثبوت
الخيار للصبيّ؛ إذ زمان الولاية هو ما قبل الكمال فيكون العقد بالنسبة إلى ما بعده
فضولي .
هذا ولكن ذهب بعضهم إلى لزوم الإجارة، نظراً إلى أنّ المستفاد من أدلّة
الولاية أنّها قبل البلوغ مطلقة غير مقيّدة بشيءٍ غير المصلحة، فللوليّ قبل البلوغ ما للمولّى عليه لو كان بالغاً مع مراعاة المصلحة، فيكون البلوغ غاية للولاية لا قيداً لما فيه الولاية.
الأوّل: ما أفاده
المحقق النجفي وغيره التفصيل بين ما إذا كانت الإجارة بعد البلوغ في مصلحة لازمة للصبيّ حال صباه فتلزم، وبين ما إذا كانت في مصلحة مستمرة إلى ما بعد بلوغه فلا تلزم بعده.
الثاني: ما أفاده
المحقق الاصفهاني التفصيل بين إجارة ما يملكه الصبيّ من الأعيان فتلزم مطلقاً، وبين إجارة الصبيّ نفسه فلا تلزم بعد بلوغه؛ ولعلّه لأنّ
التصرف في أموال الصبيّ مشمول لأدلّة الولاية على الصبيّ، بخلاف إجارة نفسه بعد البلوغ فانّه يكون من قبيل الولاية على الكبير لا الصغير.
واستثنى
المحقق النائيني من ذلك ما إذا توقف شيء من المصلحة الفعلية على ذلك.
ففيه عدة أقوال:
۱- لزوم الإجارة بعد البلوغ مطلقاً، وهو مختار الشيخ في
الخلاف قال: «إذا آجر الأب أو
الوصي الصبيّ أو شيئاً من ماله مدّة صحت الإجارة بلا خلاف، فإن بلغ الصبيّ قبل انقضاء المدّة كان له ما بقي، ولم يكن للصبي فسخه... دليلنا: أنّ العقد على عين الصبيّ أو على ماله وقع صحيحاً بلا خلاف، فمن ادعى أنّ له الفسخ بعد بلوغه فعليه الدلالة»
وكذا جماعة من الفقهاء
كالقاضي والحلي والكيدري،
وذلك إمّا لوقوع الاجارة من أهلها في زمان لم يعلم لها منافٍ فيه فتستصحب،
- ولهذا يفصّل بين صورة العلم بحصول البلوغ في المدّة
والجهل به- أو لأنّ المستفاد من أدلّة الولاية- كما مرّ- أنّ للولي ما للمولّى عليه لو كان بالغاً مع مراعاة المصلحة فيكون البلوغ قيد للولاية لا لما فيه الولاية.
۲- إنّ للصبيّ الخيار بعد البلوغ مطلقاً، ذهب إليه العلّامة
وجملة من الفقهاء- كالمحقق والشهيد الثانيين-
كما قالوا به في الفرض الأوّل أيضاً، وذلك لأنّ الولاية تابعة للصغر وقد زال فتزول الولاية، والجهل لا مدخليّة له في تغيير حكم الموضوع واقعاً.
ويأتي فيه التفصيلان المتقدمان أيضاً.
لا خلاف كما لا إشكال في
محجورية السفيه بالنسبة إلى تصرفاته المالية كما هو مقتضى قوله تعالى: «فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ»
ومقتضى طائفة من
الروايات .
إنّما الاشكال في صحة تصرفه في نفسه كما لو آجرها مثلًا من دون إذن وليّه، ففي ذلك قولان:
۱- الجواز، ونفوذ تصرفاته من دون حاجة إلى
إذن وليّه أو
إجازته ، وهذا هو المنسوب إلى المشهور.
۲- عدم الجواز.
أمّا منشأ الخلاف فيرجع البحث فيه إلى جهتين:
الجهة الاولى: والبحث فيها صغروي، من حيث إنّ إجارة السفيه نفسه هل تعدّ تصرفاً في ماله أو أنّها ليست تصرفاً كذلك بل هي تحصيل للمال فحسب
؟
الجهة الثانية: والبحث فيها كبروي، وهو أنّ المستفاد من أدلّة الحجر هل ينحصر في حجر السفيه بالنسبة إلى تصرفاته المالية، أم أنّ المستفاد منها اشتراط الرشد وعدم السفه في مطلق التصرفات، بل لعلّ التصرف في النفس والعمل أهم من التصرف في ماله الخارجي
؟
لا إشكال، كما لا خلاف في أنّ
المفلّس محجور بالنسبة إلى أمواله الموجودة حال الحكم عليه بالحجر، فليس له التصرف فيها ببيع أو إجارة ونحوهما، فالمسألة
إجماعية .
ويستفاد ذلك من الروايات أيضاً.
نعم يجوز له التصرف في المستثنيات من أمواله الموجودة كدار سكناه مثلًا.
وأمّا بالنسبة للأموال التي يكتسبها بعد الحكم عليه بالتفليس ففي محجوريته عنها خلاف وإشكال.
وقد وقع البحث عند
الفقهاء في صحة إجارة المفلّس نفسه لعمل أو خدمة، فهل يحكم عليها بالصحة أو أنّها ملحقة باجارة الأموال في المحجوريّة؟
حكم جماعة من الفقهاء
بالجواز، بل نسب ذلك إلى المشهور،
إلّا أنّ بعض الفقهاء ذهب إلى عدم جواز الإجارة إلّا بإذن من الديان خصوصاً في
الكسوب المتمكّن من أداء
الدين .
ومنشأ الاختلاف تارة من حيث الصغرى وأنّ أعمال المفلّس هل تعدّ مالًا له بحيث يكون مالكاً لعمله بالفعل أم لا؟
واخرى من حيث الكبرى، وأنّ المستفاد من الأدلّة هل هو المحجورية بالنسبة لما يعدّ مالًا له بالفعل في الخارج، أم يعم تصرفه في أعماله أيضاً؟
لا يجوز
للعبد إجارة نفسه أو ماله- بناءً على ثبوت ملكيته له- إلّا بإذن مولاه أو إجازته؛ لأنّه مملوك لمولاه، فيكون تصرفه في مال الغير، فلا يصح إلّا بإذنه أو إجازته.
وكأنّه مورد التسالم من غير خلاف فيه ولا إشكال.
وإن لم يجز مولاه قبل
العتق توقّف لزوم العقد على إجازة العبد بعد العتق؛ لأنّه من قبيل من باع ثمّ ملك. ولا يقاس على مثل المفلّس بعد رفع الحجر عنه؛ لأنّ العبد لم يكن مالكاً حين التصرف بخلاف المفلّس.
يجوز للمولى إجارة عبده بلا إشكال كما لا إشكال في صحة عتقه بعد إجارته،
إنّما وقع الخلاف في أمرين:
الأوّل: لزوم الإجارة أو جوازها بعد العتق.
الثاني: هل أنّ
نفقة العبد بين العتق وانقضاء مدة الإجارة على المستأجر أو المؤجر، أو هي على العبد؟
فلا إشكال
في بقاء حكم الإجارة فيه على حالها، وأنّ العبد
مكلّف بالعمل على طبق العقد، وليس له
الرجوع على المولى
بأُجرة مثل عمله بعد العتق؛ لاستلزام ملك الرقبة ملك منافعها المستقبلية أيضاً،
وحينئذٍ فتمليكها نافذ؛ إذ لا يؤثر العتق إلّا في تحرير رقبة العبد مع بقاء
منفعته المملوكة بالإيجار للغير، فيكون
كبيع العبد بعد الإيجار، حيث تنتقل
الرقبة إلى الغير مسلوبة المنفعة.
وقد يستدلّ على صحة الإجارة- مضافاً إلى مقتضى القاعدة-
بفحوى الروايات
الدالّة على جواز استثناء مدة من العمل بعد العتق للمالك؛ لعدم الفرق عرفاً بين
استيفائه للعمل بنفسه أو من خلال تمليكه للغير بالإيجار.
والظاهر أنّ المسألة إجماعية
وإن حكي احتمال القول بالبطلان
وضمان المولى للمستأجر،
وكذا رجوع العبد على سيده بأُجرة مثل عمله بعد العتق
إلّا أنّ الظاهر عدم كونه قولًا لأحد من الفقهاء كما قال
المحقق النجفي : «لم تبطل الإجارة أيضاً، للعموم، وإن حكي عن
إيضاح النافع أنّه قال: وربّما قيل: ببطلانها فيضمنها السيد للمستأجر، إلّا أنّ الظاهر كونه لبعض
الشافعية لا لأحد من أصحابنا الذين أطبقوا على عدم بطلانها بالبيع، إلّا أن يكون قد باعه على المستأجر فإنّ بعضهم استشكل فيه أو خالف، وحينئذٍ تستوفى المنفعة التي تناولها العقد من العبد الذي يجب
الوفاء بها إن كان مكلّفاً، ولا يرجع العبد على مولاه بأُجرة مثل عمله ومنفعته بعد العتق».
لا ريب في ثبوت نفقة العبد بقية مدة الإجارة على المستأجر أو المؤجر مع اشتراط ذلك، وأمّا مع عدم الاشتراط ففيه اختلاف بينهم على أقوال:
إنّ النفقة في كسبه إن تمكّن من
الاكتساب لنفسه في غير زمان الخدمة، وإن لم يتمكن فمن
بيت المال ، ومع التعذّر فهي من
الواجبات الكفائي ة الواجبة على عامة
المسلمين ، فإن تعذر ففي كسب العبد.
فيستدلّ له بصدق عنوان
الفقير على العبد
العاجز عن الاكتساب في غير زمان الخدمة؛ لأنّه وإن كان قادراً على تحصيل النفقة تكويناً إلّا أنّ عمله يكون مملوكاً للمستأجر، فلا يعدّ واجداً للنفقة لا بالفعل ولا بالقوّة، فتكون نفقته في بيت المال المتكفّل بامور المسلمين، وعلى تقدير عدمه فهو كسائر الفقراء الذين يجب على المسلمين
الإنفاق عليهم حفظاً للنفس المحترمة من
الهلاك .
أخذ النفقة من بيت المال أو من
الزكاة ابتداءً، فإن تعذّر فهو من الواجبات الكفائية، وإلّا صرفت النفقة عليه بقصد الرجوع مع الإمكان،
نظراً إلى أنّ الإنفاق على هذا العبد المعتق يكون من موارد الصرف في الرقاب؛ لكونه تحريراً لعمل الرقبة، وحيث لا يشترط في ذلك الفقر فلا يشترط في الصرف عليه عدم تمكّنه من التكسّب لنفسه مع خدمته للمستأجر.
واورد على هذين الوجهين بأنّه لا يشمل عنوان (في الرقاب) لمطلق التصرف على العبد حتى بعد تحريره، ومجرد بقاء عمله على الحالة السابقة لا يصيّره
رقاً .
كما لا يصدق عنوان الفقير هنا؛ إذ الموضوع لجواز الصرف من بيت المال من كان فقيراً مع قطع النظر عن الصرف عليه، وهذا العبد ليس كذلك لتمكنه من التكسّب بارتفاع وجوب الخدمة عنه.
ثبوت النفقة في كسبه مطلقاً وإن كان ذلك منافياً للخدمة،
كما قال في
الجواهر في فرض انتهاء الأمر إلى أخذ النفقة من كسب العبد: «ولو قيل باحتساب مقدار اجرة المثل أو
قيمة ما اكتسبه في ذمّة العبد للمستأجر لكان حسناً، بل لا بدّ من القول به مع فرض الانحصار في ذلك؛ لعدم بيت المال، ضرورة تقدم النفقة على كلّ واجب في الذمّة ولو للغير».
والدليل عليه هو أنّه لمّا كان حفظ النفس المحترمة مقدماً على كلّ واجب وهو متوقف على الكسب فإنّه يكسب لنفسه بمقدار الضرورة ويستثنى ذلك عن الخدمة الواجبة.
وجوبها على المعتِق،
فإن تعذّرت قيل: هي في بيت المال، ثمّ على الناس كفاية، ثمّ على العبد ولو بالتصرف في مال الغير.
وقيل: هي في كسبه مع التعذّر من المعتِق؛
لأنّ المولى قد استوفى منافعه بالإجارة، فكأنّه باقٍ على ملكه، وانّه من عياله فيجب عليه نفقته.
وبيانه أنّ المستفاد من أدلّة وجوب النفقة كون نفقة العبد مدة خدمته لمولاه- حتى بعد العتق- على المولى، من قبيل ما رواه
الصدوق باسناده عن أبان، قال:
«إنّ
عليّاً عليه السلام أعتق
أبا نيزر وعياضاً ورباحاً وعليهم عمالة كذا وكذا سنة، ولهم رزقهم وكسوتهم بالمعروف في تلك السنين».
ثبوتها في كسبه لو تمكن من ذلك في غير زمان الخدمة، وإلّا فهي على المسلمين كفاية؛
لعدم كون الإنفاق على هذا العبد من المصالح النوعية الراجعة إلى نوع المسلمين المعدّ له بيت المال، كما أنّ حال المولى بعد العتق حال غيره من الناس، ومجرد استيفاء منافعه لا يقتضي إجراء أحكام بقائه في ملكه بالنسبة إلى هذا الأثر، ولا يمكن لهذا العبد التكسّب لنفسه لكون منافعه للغير، والنفقة إنّما تتقدم على سائر الديون إذا كان للمديون مال، والحال أنّ منافع هذا العبد مملوكة للغير، فلا جرم يصير العبد المزبور بمنزلة العاجز ذاتاً على نفقته، فتجب حينئذٍ على المسلمين كفاية.
ثمّ إنّه بناءً على ثبوت النفقة في كسبه مطلقاً أو ثبوتها عليه في بعض الأحوال يقع البحث في بعض الموارد:
۱- هل يضمن العبد المعتق ما فوّته على المستأجر جرّاء عمله واكتسابه لتحصيل النفقة أم لا؟ صرّح المحقق النجفي بضمان العبد للمستأجر؛
لكونه نظير
الأكل في المخمصة الذي لا ينافي
الضمان .
وفي
التحرير : «أنّ الأقرب احتساب ذلك الزمان على المستأجر على إشكال».
وإن هو نفى البعد عن كونها على المولى.
۲- أنّه على فرض عدم ضمانه للمستأجر هل تصح الإجارة بالنسبة للمقدار الذي يكتسب فيه العبد لنفسه؟
ذهب
السيد الخوئي وغيره
إلى بطلان الإجارة بالنسبة إلى ذلك المقدار؛ إذ ببلوغها ذلك الحدّ تحرم الخدمة على العبد ويجب التكسّب لنفسه، وهذا يكشف عن عدم
القدرة على
التسليم وعدم ملكية المؤجر بالنسبة إلى ذاك المقدار فتبطل الإجارة فيه، فللمستأجر أن يراجع المؤجر ويطالبه باسترجاع ما يعادل هذه المنفعة من الاجرة.
الموسوعة الفقهية، ج۴، ص۶۵-۷۴.