شهادة القاذف
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
ولا تقبل
شهادة القاذف مع عدم
اللعان أو البيّنة، وتقبل شهادته لو تاب وإن لم يسقط عنه
الحدّ، وحدّ توبته أن يكذب نفسه.
ولا تقبل شهادة القاذف مع عدم
اللعان أو البيّنة؛ بالآية الكريمة «وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً»
.
والإجماع الظاهر والمحكي في كلام جماعة
. والنصوص المستفيضة التي سيأتي إلى جملة منها الإشارة.
وتقبل شهادته لو تاب وإن لم يسقط عنه
الحدّ، بلا خلاف، بل عليه إجماعنا كما في
التحرير والتنقيح.
والأصل فيه بعده
الآية الكريمة والنصوص المستفيضة، منها زيادةً على ما يأتي إليه الإشارة القريب من الصحيح بحمّاد المجمع على تصحيح ما يصح عنه
: عن الرجل يقذف الرجل فيجلد حدّا، ثم يتوب ولا يعلم منه إلاّ خيراً، تجوز شهادته؟ قال: «نعم، ما يقال عندكم؟» قلت: يقولون توبته فيما بينه وبين الله تعالى، ولا تقبل شهادته أبداً، فقال: «بئس ما قالوا، كان أبي (علیهالسّلام) يقول: إذا تاب ولم يعلم منه إلاّ خيراً جازت شهادته»
.
والقوي بالسكوني: «ليس يصيب أحد حدّا فيقام عليه ثم يتوب إلاّ جازت شهادته»
.
كذا رواه
الكليني،
والشيخ أيضاً لكن في نسخةٍ، ورواه في أُخرى بزيادة: «إلاّ القاذف، فإنّه لا تقبل شهادته، إنّ توبته فيما بينه وبين الله تعالى»
.
وفي هذه الزيادة منافاة لما ذكره الأصحاب في المسألة؛ لكنها على تقدير صحتها مع خلوّ نسخة
الكافي عنها الذي هو أضبط من
التهذيب، سيّما مع اختلاف نسخه هنا وموافقة بعضها لنسخته كما مضى موافقة
للتقية، كما يستفاد من الرواية السابقة، فلتحمل عليها، سيّما مع كون
الراوي من قضاة العامّة.
وبالجملة: لا شبهة في المسألة، سيّما مع عدم الخلاف فيها.
وإن اختلف في حدّ توبته أي القاذف بعد الاتفاق على اعتبار إكذاب نفسه فيها، كما صرّح به في
الغنية، ويستفاد من
الخلاف، حيث قال: من شرط التوبة من
القذف أن يكذب نفسه، وحقيقة ذلك أن يقول: كذبت فيما قلت. هذا هو الذي يقتضيه مذهبنا؛ لأنّه لا خلاف بين الفرقة أنّ من شرط ذلك أن يكذب نفسه، وحقيقة الإكذاب أن يقول: كذبت فيما قلت
.
وقريب منه كلامه في
المبسوط، حيث قال: واختلفوا في كيفية إكذابه نفسه، قال قوم: أن يقول: القذف باطل حرام، ولا أعود إلى ما قلت. وقال بعضهم:
التوبة إكذابه نفسه، وحقيقة ذلك أن يقول: كذبت فيما قلت.
وروى ذلك في أخبارنا، والأوّل أقوى؛ لأنّه إذا قال: كذبت فيما قلت، ربما كان كاذباً؛ لجواز أن يكون صادقاً في الباطن وقد تعذّر عليه تحقيقه، فإذا قال: القذف باطل حرام، فقد أكذب نفسه
. انتهى.
وما اختاره فيه من كيفية الإكذاب اختاره
الحلّي؛ للتعليل الذي ذكره، واختاره
الفاضل في
الإرشاد والتحرير
والمختلف والقواعد، وولده في شرحه
، لكن على تفصيل هو أنّه إن كان في قذفه كاذباً فحدّ توبته إكذاب نفسه، وإن كان صادقاً فحدّها أن يقول: أخطأت؛ جمعاً بين النصوص الآتية الدالة على أنّ حدّها إكذاب نفسه بقول مطلق، وما مرّ من التعليل في كلام الشيخ، الراجع حاصله إلى حرمة
الكذب، فلا يمكنه التكذيب مع صدقه، فعليه بدله إن يخطأ نفسه.
وهو حسن إن صحّ التعليل، وفيه نظر؛ إذ حاصله ومبناه الفرار من الكذب، وهو يحصل
بالتورية، واعتبارها أقرب إلى النصوص مما ذكره من التصريح بالتخطئة، وأنسب بالحكمة المطلوبة
للشارع من الستر؛ لما في التصريح بالتخطئة من التعريض بالقذف أيضاً، فإفساده أكثر من إصلاحه.
وبهذا صرّح جماعة ومنهم
الشهيد في
الدروس وقال في تضعيفه زيادةً على ذلك: وبأنّ الله تعالى سمّى القاذف الذي لا يأتي بالشهود كاذباً
.
وتنبّه لهذا الفاضل في التحرير، فقال بعد ذكر مختاره: وقيل: يكذب نفسه مطلقاً، ثم إن كان صادقاً ورّى باطناً. والأوّل أقرب، والثاني مروي وإن كان ليس بعيداً من الصواب؛ لأنّه تعالى سمّى القاذف كاذباً إذا لم يأت بأربعة شهداء على الإطلاق، لأنّه كاذب في حكم الله تعالى وإن كان صادقاً
. انتهى.
ومنه يظهر صحة القول المحكي في كلامه وميله إليه؛ وهو مختار
الصدوقين والعماني، والشيخ في
النهاية والماتن هنا وفي
الشرائع، والشهيدين في الدروس والمسالك،
والفاضل المقداد في التنقيح وغيره
.
والظاهر أنّه المشهور بين المتأخّرين، بل المتقدّمين أيضاً؛ وقد عرفت دعوى
ابن زهرة عليه
الإجماع، ونفي الشيخ الخلاف عنه في الخلاف ناسباً له إلى مقتضى
المذهب، ولكنه صار فيه أيضاً إلى مختاره في المبسوط معلّلاً بما مرّ فيه، وقد عرفت ما فيه.
وبالجملة: عبارته ظاهرة في نفي الخلاف الذي هو كإجماع ابن زهرة حجة على اعتبار إكذاب نفسه. وظاهره وحقيقته كما اعترف به يقتضي المصير إلى ما عليه الماتن وغيره.
ونحوهما
إطلاق المعتبرة المستفيضة، ففي النبوي: «توبة القاذف إكذاب نفسه»
.
وفي
الصحيح: عن المحدود إن تاب تقبل شهادته؟ فقال: «إذا تاب، وتوبته أن يرجع مما قال ويكذب نفسه عند
الإمام (علیهالسّلام) وعند المسلمين، فإذا فعل فإنّ على الإمام أن يقبل شهادته بعد ذلك»
.
وفي القريب منه: عن القاذف بعد ما يقام عليه الحدّ ما توبته؟ قال: «يكذب نفسه» قلت: أرأيت إن أكذب نفسه أتقبل شهادته؟ قال: «نعم»
.
وظاهرها حصول
التوبة بمجرد الإكذاب. وفيه إشكال، بل الظاهر عدمه إلاّ بعد التوبة والندامة حقيقةً، كما ذكره بعض المحققين
، ودلّ عليه المرسل: عن الذي يقذف المحصنات تقبل شهادته بعد
الحدّ إذا تاب؟ قال: «نعم» قلت: وما توبته؟ قال: «يجيء ويكذب نفسه عند الإمام ويقول: قد افتريت على فلانة، ويتوب مما قال»
.
ولعلّه ظاهر الأصحاب أيضاً.
ويمكن حمل الروايات السابقة عليه بدعوى ورودها مورد الغالب من أنّ المكذب نفسه يكون في الحقيقة تائباً حقيقة غالباً.
وظاهر
المرسل كالصحيح المتقدم عليه اعتبار كون الإكذاب عند الإمام، وبه صرّح العماني
وجماعة
، وزاد الأوّل: وعند جماعة من المسلمين. ويظهر من
الإيضاح والتنقيح والصيمري عدم الخلاف في اعتبار ذلك؛ حيث قالوا: وعلى الأقوال كلها لا بدّ من إيقاع ذلك عند من قذف عنده، وعند الحاكم الذي حدّه، فإذا تعذّر ففي ملأ من الناس
.
ومرادهم من الأقوال، الأقوال المتقدمة في تفسير إكذاب نفسه التي منها ما عليه الماتن وأكثر المتأخّرين من تفسيره بمفاده الحقيقي.
ومنها قول المبسوط والخلاف
والسرائر المشار إليه في العبارة بقوله:
وفيه قول آخر متكلف من الجهات التي مرّت مع زيادة عليها نشير إليها هنا، وهي استلزامه اطراح النصوص المتقدمة المعتبرة أسانيدها طرّاً مع عدم الباعث عليه عند الشيخ وأمثاله أصلاً عدا التعليل المتقدم، وهو على تقدير صحته يقتضي الاقتصار في مخالفتها على صورة صدقه في القذف خاصّة لا مع كذبه فيه أيضاً.
ولذا إنّ الفاضل الموافق لهما من حيث التعليل في الصورة الأُولى خالفهما في الصورة الثانية تفادياً من طرح الروايات بالكلية، وهو وإن خلص بذلك من هذا الاعتراض، إلاّ أنّه وقع فيما هو أمرّ منه، وهو أنّه إحداث قول ممنوع منه؛ إذ الأقوال في المسألة التي وصلت إلينا من قدمائنا اثنان كما هو ظاهر العبارة وغيرها.
ولكن حكى هو في المختلف وولده في الإيضاح وغيرهما عن
ابن حمزة قولاً ثالثاً، وهو أنّه إن كان صادقاً قال: الكذب حرام، ولا أعود إلى مثل ما قلت، وأصلح، وإن كان كاذباً قال: كذبت فيما قلت
.
وهو وإن أشبه التفصيل الذي ذكراه، لكن يفترق عنه من وجه آخر، كما لا يخفى على من تدبّره، ولذا جعلاه قولاً آخر مقابلاً لما اختاراه.
وهذا القول وإن اشترك مع باقي الأقوال عدا المشهور في الضعف والقصور، إلاّ أنّه أقرب إلى النصوص، وأبعد عن التعريض بالقذف اللازم من قول الفاضل وولده.
ووجه ضعفه عدم صراحة قوله: والكذب
حرام. إلى آخر ما ذكره، في صورة
الصدق في إكذاب نفسه، وإنّما غايته الظهور الضعيف القريب من الإشعار الغير المتبادر من إكذاب النفس الوارد في النصوص.
وبالجملة: فالمذهب ما عليه المشهور.
ثم إنّ ظاهر العبارة ونحوها من عبائر الجماعة كفاية التوبة بمجردها في قبول
الشهادة، كما هو ظاهر
إطلاق النصوص المتقدمة، ولكن الآية اشترطت الإصلاح بعد التوبة، وفسّره الأكثر بالاستمرار عليها ولو ساعة.
قال
فخر الإسلام: وهذا المعنى متفق عليه، وإنّما الخلاف في الزائد عليه وهو إصلاح العمل، فقال ابن حمزة: يشترط مطلقاً، أي في الصادق والكاذب. ولم يشترطه الشيخ في النهاية مطلقاً. وقال في المبسوط: يشترط في الكاذب لا الصادق. وهو اختيار ابن إدريس. احتجّ المصنف بأنّ الاستمرار على التوبة إصلاح والأمر المطلق يكتفى فيه بالمسمى، ولم يشترط في الرواية المتقدمة، بل علّق قبول الشهادة على التوبة وإكذاب نفسه. وفيه نظر؛ لحمل المطلق على المقيد مع اتحاد
القضية. انتهى.
وظاهره الميل إلى قول ابن حمزة؛ لما ذكره من حمل مطلق الرواية على الآية المقيّدة.
وهو حسن، إلاّ أنّ الإشكال في تعيين المراد من الإصلاح، هل هو إصلاح العمل، أو إصلاح الحال والنفس بمنعها عن ظهور ما ينافي
العدالة؟ لكلٍّ وجه، فالتبادر للأوّل، والإطلاق للثاني. ولعلّه أظهر؛ لأصالة الإطلاق مع الشك في
التبادر المقيّد له ببعض الأفراد، ومع ذلك أشهر.
وربما يشير إليه الخبر القريب من الصحيح الذي مرّ في أوّل البحث المتضمن لقوله (علیهالسّلام): «إذا تاب ولم يعلم منه إلاّ خيراً جازت شهادته» فتدبّر.
هذا كله في التوبة عن القذف، وأمّا عن غيره فينبغي القطع بكفايتها عن إصلاح العمل؛ لعموم: «التوبة يجبّ ما قبلها»
: «والتائب من
الذنب كمن لا ذنب له»
.
مع اختصاص الآية
المشترطة للإصلاح بتوبة القاذف خاصّة.
نعم إن توقّفت على أداء حقوق الله تعالى أو الناس لزمه أداؤها تحصيلاً لها، وإلاّ فلا توبة له جدّاً.
رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدّلائل، الطباطبائي، السيد علي، ج۱۵، ص۲۷۳-۲۸۰.