ما یصح فیه الإقطاع
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
أمّا
إقطاع التمليك فيصحّ من
الإمام في كلّ ما يكون ملكاً له كالأنفال، ومنها:
الأراضي الموات ورؤوس الجبال وصفايا الملوك والخمس وغنائم الحروب التي ليست بإذنه؛ لأنّه راجع إليه يصرفه فيما يراه صالحاً لُامور المسلمين وللولاية، فيصحّ منه إقطاعه أيضاً، وقد دلّت على ذلك بعض الروايات:
منها: ما رواه
حفص بن البختري عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «
الأنفال ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، أو قوم صالحوا، أو قوم أعطوا بأيديهم، وكلّ أرض خربة وبطون الأودية، فهو لرسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، وهو للإمام من بعده يضعه حيث يشاء».
ومنها: ما ورد من أنّ
النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعطى فدك الذي لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب
لفاطمة عليها السلام بأمر من اللَّه عزوجل، كما في رواية
علي بن أسباط عن
أبي الحسن الرضا عليه السلام،
وقد سبق نقلها.وغيرها من الروايات.
وكذلك يصحّ إقطاع ما يمكن تملّكه بالإحياء كالمعادن الباطنة وإن قيل بعدم كونها من الأنفال؛ لكونها تملك
بالإحياء ، فيمكن للإمام أن يقطع شيئاً منها لكي يملكه المقطع له بالإحياء، فيكون الإقطاع كالتحجير موجباً لحقّ
الاختصاص كما تقدّم.والمعادن الباطنة في العرف الفقهي: كلّ معدن لا ينجز بشكله الكامل إلّابالعمل، كالذهب الذي لا يصبح ذهباً إلّابالعمل والتطوير.
وهي نوعان؛ لأنّ المادّة المعدنيّة من هذا القبيل قد توجد في أعماق الأرض بشكل لا يمكن الوصول إليها بدون حفر وجهد كبير، وقد توجد قريباً من سطح الأرض إلّاأنّها تحتاج إلى عمل وعلاج
لإنجازها .
أمّا النوع الأوّل الذي هو من قبيل الذهب والفضّة والنحاس والرصاص التي لا تظهر إلّابالعمل فيها والمؤونة عليها ويحتاج الوصول إليها إلى الحفر في أعماق الأرض، فقد ذكر الفقهاء أنّه يجوز للإمام إقطاعه، وإذا أحياه المقطع له ملكه وصار أحقّ به،
وقد ادّعي نفي الخلاف
فيه، ويظهر من بعض
الإجماع عليه.وذكر
السيّد الشهيد الصدر قدس سره في كتاب اقتصادنا تحقيقاً يفيد توضيح هذا المدّعى، وقد ذكر رأي المشهور في المعادن الباطنة أنّها تملك بالإحياء؛ مستندين في ذلك إلى أنّ
اكتشاف المعدن بالحفر لون من ألوان الإحياء، والمواد الطبيعيّة تملك بالإحياء، كما أنّه اسلوب للحيازة، والحيازة تعتبر سبباً لتملّك الثروات الطبيعيّة على اختلافها.
وأمّا النوع الثاني من المعادن الباطنة فأيضاً يصحّ فيه إقطاع تمليك إذا كانت في الأراضي الموات؛ لأنّها ليست من المعادن الظاهرة؛ لأنّ المقصود منها لا يظهر إلّا بالعمل، فهي بحكم الموات يصحّ فيها إقطاع التمليك، وتكون ملكاً لمن أحياها.بل المستفاد من كلمات الفقهاء في الأرض المالحة التي لو سيق إليها الماء ظهر ملحها أنّها أيضاً ممّا يصحّ فيها الإقطاع؛ لعدم كونها ظاهرة بالفعل، وإنّما تظهر بالعمل، وذلك بسقيها بالماء حتى يظهر فيها الملح رغم أنّ الملح في سائر الموارد يكون من المعادن الظاهرة.ومن هنا يتّضح اختلاف حكم الأرض المملحة عن حكم نفس الملح الذي هو من المعادن الظاهرة، فإنّ
الشيخ الطوسي ذكر أوّلًا أنّ المعادن الظاهرة- ومن جملتها الملح- لا تملك بالإحياء، وليس للسلطان أن يقطعه لأحد، بل الناس كلّهم فيه سواء يأخذون منه قدر حاجتهم، ثمّ قال: «وإذا كان في الساحل بقعة إذا حفرت
وانساق إليها الماء ظهر لها ملح فإنّ هذا في حكم الموات؛ لأنّه لا ينتفع إلّا
باستحداث شيء فيملك بالإحياء ويصير بالتحجير عليه أولى، وللسلطان أن يُقطعها، فإذا حصل واحد منها صار أحقّ بها من غيره».
وكذلك ذكر المحقّق الحلّي فقال: «ولو كان إلى جانب المملحة أرض موات إذا حفر فيها بئر وسيق إليها الماء صار ملحاً، صحّ تملّكها بالإحياء...ولو أقطعها الإمام صحّ».
وقد اختلف الفقهاء في حكم المعادن الظاهرة، فالمشهور
أنّه ليس للإمام إقطاعها لأحد إقطاع تمليك؛ لأنّ الناس كلّهم فيها شرع سواء، يأخذون منها قدر حاجتهم،
وقد ادّعي نفي الخلاف في ذلك.
وتردّد في ذلك المحقّق الحلّي فإنّه بعد أن ذكر أنّ المعادن الظاهرة لا تملك بالإحياء والتحجير قال: «وفي جواز إقطاع السلطان المعادن والمياه تردّد، وكذا في اختصاص المقطع بها».
واستشكل فيه العلّامة أيضاً في موضع من القواعد.
وقد ذُكر في وجه التردّد أنّه من عموم ولايته المستفادة من قوله تعالى: «أَولَى بِالمؤمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ»،
وغيره.وكونها من الأنفال في خبر
إسحاق بن عمّار الذي سئل فيه أبو عبد اللَّه عليه السلام عن الأنفال، فقال: «هي القرى التي قد خربت» - إلى أن قال-: «والمعادن منها»،
وغيره.
ومن أنّ مورد الإقطاع الموات باعتبار كونه كالتحجير، ومن المعلوم أنّ المعادن لا تندرج فيه؛ لما هو المشهور من كون الناس فيها سواء، فلا وجه لإقطاعها حينئذٍ.
واستدلّ بعض الفقهاء على عدم جواز الإقطاع بما روي عن الأبيض بن حمّال،وفيه: «الأبيض بن حمّالالمأربي».
قال: استقطعت رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم معدن الملح الذي بمأرب فأقطعنيه، فقيل: إنّه بمنزلة الماء العِدّ (يعني أنّها لا تنقطع ولا تحتاج إلى عمل)، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: «فلا إذاً».
فإنّه لمّا أظهر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم كون المعدن ظاهراً حيّاً منع من إقطاعه، فيدلّ على منع إقطاع المعادن الظاهرة.
هذا كلّه بناءً على أنّ المعادن الظاهرة من المشتركات العامة، وأمّا بناءً على كونها للإمام وأنّها مختصّة به- كما ذهب إليه بعض الفقهاء
- فحينئذ يجوز له إقطاعها للتمليك على القاعدة.
كما أنّه احتمل بعض جواز إقطاعها حتى بناءً على أنّها من المشتركات، لكن بشرط عدم تضرّر المسلمين بذلك؛
لما تقدّم من إطلاق أدلّة ولاية الإمام في كلّ ذلك حسب ما تقتضيه المصلحة العامّة.وتحقيق الكلام في حقيقة المعادن الظاهرة في مصطلح (معدن).
وأمّا الأرض الخراجيّة- وهي الأرض التي فتحت بيد المسلمين عنوة، وهي ملك للمسلمين قاطبة يصرف خراجها في مصالحهم- فلا يجوز فيها إقطاع تمليك لرقبتها؛ لأنّها ملك للمسلمين،
ولكن يجوز إقطاع قطعة منها لشخص خاصّ إقطاع
استغلال ، ولا تخرج بذلك عن كونها خراجيّة؛ لأنّ معناه كون خراجها له لا خروجها عن الخراجيّة.
واختار
السيّد الخوئي عدم الجواز؛ لدلالة الأخبار الكثيرة
على أنّ الأراضي الخراجيّة للمسلمين، فلا يجوز لأحد أن يتولّى التصرّف عنهم إلّا الإمام عليه السلام أو من كان مأذوناً من قبله.
وتفصيل ذلك في مصطلح (خراج).
وأمّا المنافع المشتركة أو المشتركات العامّة- وهي ما يشترك فيه الناس انتفاعاً مثل الطرق والشوارع والأسواق والمساجد والوقوف المطلقة كالمدارس والمساكن ونحوها- فقد ذهب أكثر الفقهاء- بل نسب إلى المشهور بين الأصحاب
- إلى عدم جواز إقطاع هذه المواضع لأحد بخصوصه؛
نظراً إلى أنّها معدّة لمرافق المسلمين العامّة، فلا معنى لإقطاعها؛
لأنّ الناس فيها شرع سواء.
ولم يخالف في ذلك إلّا العلّامة الحلّي في
التذكرة حيث ذهب إلى جواز إقطاع الرفاق، فقال: «هو (إقطاع الرفاق): أن يقطعه موضعاً يجلس فيه من الطريق الواسعة ورحاب الجوامع ومقاعد الأسواق، ويجوز ذلك إذا لم يضرّ بالمارّة والمصلّين؛ لأنّ ذلك لمرافق المسلمين، والجالس يرتفق بذلك
ببيع وشراء وغير ذلك».
واحتمله أيضاً المحقّق الثاني.
ونوقش فيه بأنّ جواز إقطاع ما لا يتضرّر به المارّة إن كان
لاحتمال أنّ ذلك الموضع من الطريق باقٍ على حكم الموات، فيدفعه أنّ الطريق قد احيي طريقاً وتعلّق به حقّ المستطرقين بأجمعه وإن اتّفق في بعض الأزمنة عدم الضرر على المارّة، ولكن ذلك لا يجعله مواتاً.
هذا، ويمكن أن يقال: إنّ مقتضى عموم ولاية الحاكم جواز ذلك هنا أيضاً، مضافاً إلى أنّ عدم كونه مواتاً قد يمنع عن جواز إقطاعه إقطاع تمليك لا جواز إقطاعه
للارتفاق ؛ تنظيماً لذلك بين المسلمين أو لمصلحتهم، وحينئذٍ فيجوز ذلك.وفائدة الإقطاع فيها- بناءً على القول به- أنّه إذا قام من موضعه المقطع له لم يكن لغيره الجلوس فيه، بخلاف ما إذا كان أحرزه بالسبق، فإنّه إذا قام بطل حقّه.
وأمّا المباحات العامّة كمشارع المياه فقيل: إنّه لا يجوز للإمام أيضاً أن يقطع أحداً مشارع الماء فيجعله أحقّ بها من غيره،
وقد ادّعي نفي الخلاف في ذلك.
ولكن المحقّق الحلّي قد تردّد في جواز ذلك.
وقد ذكر في وجه التردّد أنّ الإمام أولى بالتصرّف؛ نظراً إلى عموم ولايته فيجوز له ذلك، ومن أنّ الناس فيها شرع سواء، فلا يصحّ اختصاصها بشخص خاصّ.
وقد تقدّم أنّ مقتضى عموم ولاية
الحاكم جواز الإقطاع للتمليك في ذلك أيضاً فضلًا عن إقطاع ارتفاق.
الموسوعة الفقهية، ج۱۶، ص۱۴۳-۱۴۹.