ميراث الغرقى والمهدوم عليهم
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
ذهب
الفقهاء إلى أنّ من شروط إرث شخص من آخر العلم بحياة الوارث عند موت المورّث؛ لأنّ معنى الإرث
انتقال مال المورّث بموته إلى الوارث، ولا يتمّ ذلك إلّا ببقائه بعد المورّث ولو بزمان قصير، فإذا حصل
الاشتباه ولم يحرز ذلك بأن شكّ في المتقدّم والمتأخّر بعد
إحراز أصل التقدّم، أو شكّ في أصل التقدّم انتفى العلم بالشرط، فلا يمكن الحكم بالإرث الذي هو مشروط بالعلم بحياة الوارث؛
لامتناع العلم بالمشروط مع الجهل بالشرط.
وبناءً على هذا ينتفي
الإرث فيما علم تقارن موت المتوارثين، أو حصل الاشتباه في تقدّم موت أحدهما على الآخر،
إلّا أنّهم استثنوا من ذلك بعض الحالات وقالوا فيها بتوريث كلّ من المشتبهين من الآخر- بشروط تأتي- ولو لم يحرز الشرط، وهذه الحالات كما يلي:
۱- فيما إذا تحطّمت سفينة في عرض
البحر وغرق من عليها، أو انهدم بيت على جماعة فماتوا ولم يعلم من مات منهم أوّلًا، وقد اتّفقوا على خروج الحالتين من
الأصل المتقدّم؛ لورود النصّ عليهما بخصوصه.
۲- فيما إذا اشتعلت النار ومات في الحريق مجموعة من الناس بينهم صلة رحم أو التحموا مع العدوّ في قتال، أو كان موتهم بسبب وباء أو طاعون.
۳- فيما إذا ماتوا بغير سبب خارجي بأن ماتوا حتف أنفهم، وقد اختلفوا في إلحاقها بالحالتين الاوليين أم لا؟ وسبب اختلافهم هنا هو اختلافهم في أنّ موجب الإرث في الغرقى والمهدوم عليهم هل هو الغرق و
الانهدام أو الاشتباه الذي حصل بسبب ذلك في تقدّم موتهم وتأخّره؟ ولو ثبت أنّ السبب هو الاشتباه وذكر الغرق والانهدام في النصوص من جهة أنّه مثال لذلك فيعمّ الحكم ويشمل كلّ موت جماعي ولو كان بغير الغرق؛ لأنّ الاشتباه قد يحصل بسبب هذه الامور أيضاً، وإذا لم يثبت أنّ السبب هو الاشتباه وجب الجمود على ما في النص ولا يتعدّى إلى غيره؛ لأنّا لا نحيط بمقاصد الشارع وأغراضه.
وإليك تفصيل الصور المذكورة:
اتّفق الفقهاء على أنّ الغرقى والمهدوم عليهم يتوارثون بعضهم من بعض إذا لم يعلم تقارن موتهم، وهذه الصورة هي
القدر المتيقن ممّا خرج عن الأصل المتقدّم.
قال العماني: «يرث الغرقى والهدمى عند
آل الرسول عليهم السلام ».
ويدلّ عليه النصوص:
منها: صحيحة
عبد الرحمن بن الحجّاج ، قال: سألت
أبا عبد اللَّه عليه السلام عن القوم يغرقون في السفينة أو يقع عليهم البيت فيموتون فلا يعلم أيّهم مات قبل صاحبه، قال: «يورّث بعضهم من بعض، كذلك هو في
كتاب علي عليه السلام ».
ومنها: صحيحته الثانية عنه عليه السلام أيضاً، قال: سألته عن بيت وقع على قوم مجتمعين فلا يدرى أيّهم مات قبل، قال: «يورّث بعضهم من بعض»، قلت: فإنّ
أبا حنيفة أدخل فيها شيئاً، قال: «وما أدخل؟» قلت: رجلين أخوين، أحدهما مولاي والآخر مولى لرجل، لأحدهما مائة ألف درهم، والآخر ليس له شيء، ركبا في السفينة فغرقا، فلم يدر أيّهما مات أوّلًا، كان المال لورثة الذي ليس له شيء، ولم يكن لورثة الذي له المال شيء، قال: فقال أبو عبد اللَّه عليه السلام: «لقد سمعها، وهو هكذا».
ومنها: رواية
محمّد بن قيس عن
أبي جعفر عليه السلام قال: «قضى
أمير المؤمنين عليه السلام في رجل و
امرأة انهدم عليهما بيت فماتا ولا يدرى أيّهما مات قبل، فقال: يرث كلّ واحد منهما زوجه كما فرض اللَّه لورثتهما».
ومنها: رواية
محمّد بن مسلم عنه عليه السلام أيضاً، في رجل سقط عليه وعلى امرأته بيت، قال: «تورّث المرأة من الرجل، ويورّث الرجل من المرأة».
ومنها: رواية
عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن القوم يغرقون أو يقع عليهم البيت؟ قال: «يورّث بعضهم من بعض».
وغيرها من النصوص الدالّة صراحة على توارث كلّ من الفريقين من الآخر مع الاشتباه في أصل تقدّم الموت أو من هو المتقدّم.
وذلك كالموت بسبب القتل أو الحرق أو الطاعون وغيره، وعبارات الفقهاء في ذلك مختلفة، حصرها
السيد العاملي في ثلاث طوائف
:
وهو صريح المفيد و
الحلبي وسلّار و
ابن حمزة وغيرهم،
وممّن اختاره من المعاصرين الإمام الخميني والسيد الخوئي والشهيد الصدر.
قال
الشيخ المفيد : «إذا غرق جماعة يتوارثون أو انهدم عليهم جدار، أو وقع عليهم سقف فماتوا، أو قتلوا في المعركة ونحو هذا ولم يعرف حالهم في خروج أنفسهم، وهل كان ذلك في حالة واحدة أو أحوال، ولم يعلم أيّهم مات قبل صاحبه، ورّث بعضهم من بعض».
وقال
أبو الصلاح : «إذا مات جماعة في وقت واحد ورّث كلّاً منهم مستحقّوا ميراثه، وإن علم ترتّب موتهم حكم في تركاتهم بحسبه، وإن لم يعلم ذلك من حالهم لهدم أو غرق أو قتل (في) معركة أو غير ذلك ورّث بعضهم من بعض».
وقال ابن حمزة: «إذا غرق اثنان أو أكثر دفعة أو احترقوا أو هدم عليهم أو قتلوا لم يخل حالهم من ثلاثة أوجه: إمّا يعلم موتهم في حالة واحدة، أو تقدّم موت بعضهم على بعض، أو لا يعلم شيء من ذلك، ويجوز تقديم موت كلّ واحد منهم على الآخر... والثالث: يورّث كلّ واحد منهما من صاحبه».
واستدلّ لهم بأنّ علّة التوارث في الغرقى هي حصول الاشتباه في تقدّم موت أيٍّ منهم على الآخر، وهو حاصل في كلّ موت جماعي، فيثبت
الإرث ؛ لأنّ وجود العلّة يستلزم وجود المعلول.
وفهم بعض الفقهاء علّية الاشتباه من بعض النصوص حيث إنّ الراوي عمّم الحكم إلى غير مورد السؤال، وصدّقه
الإمام عليه السلام على ذلك.
قال السيد العاملي: «حجّة الأوّلين وهم الملحقون بالسببين غيرهما من الأسباب... أنّ العلّة هي القتل لسببٍ مع الاشتباه أو العلّة مطلق الاشتباه، ويدلّ على ذلك ما رواه المحمّدون الثلاثة عن
عبد الرحمن بن الحجّاج الثقة... عن أبي عبد اللَّه عليه السلام، قال: سألته عن بيت وقع على قوم مجتمعين فلا يدرى أيّهم مات قبل، فقال: «يورّث بعضهم من بعض»، قلت: إنّ أبا حنيفة أدخل فيها شيئاً، قال: «وما أدخل؟» قلت: رجلين أخوين أحدهما مولاي والآخر مولى لرجل، لأحدهما مائة ألف درهم والآخر ليس له، ركبا في السفينة فغرقا... (فلم يدر أيّهما مات أوّلًا... قال: فقال أبو عبد اللَّه عليه السلام: «لقد سمعها، وهو هكذا» ).
وجه
الاستدلال (بها) أنّ الراوي إنّما سأل أوّلًا عن الهدمى فلمّا أجابه عليه السلام فهم طرد الحكم في الغرقى وأقرّه الإمام عليه السلام على ذلك».
واورد عليه بأنّ العلّة أمرها هنا بيد الشارع بأن ينصّ عليها، ولا يوجد نصّ إلّا في الغرقى والمهدوم عليهم، فيحتمل
اختصاص العلّة بهما
باعتبار خصوصيّة فيهما تخفى علينا دونه؛ لأنّه محيط بجميع الامور.
وأيضاً لم يظهر أنّ الراوي فهم
اتّحاد الحكم من النصوص لكلّ سبب؛ لأنّه يحتمل أن يكون غرض الراوي التعريض بأبي حنيفة بأنّه زاد في الشرع أمراً لا يحقّ له ذلك.
قيل: إنّه مذهب الأصحاب،
وإليه ذهب جمهور المتأخّرين
- منهم العلّامة في بعض كتبه
وولده
والشهيدان
وغيرهم
- لأنّ الإرث على أساس
الأصل المتقدّم مشروط بالعلم بحياة الوارث حتى يمكن الحكم له بالملك، وما دام لم يحرز الشرط لا يمكن الحكم بالمشروط، خرج عنه الغرقى والمهدوم عليهم بالنصّ و
الإجماع ، ولا دليل على خروج غيرهما، فيبقى على حكم الأصل.
كما عليه المحقّق والعلّامة في بعض كتبهما،
ويظهر ذلك أيضاً من
الفاضل المقداد و
ابن فهد ،
فإنّهما اكتفيا بذكر القولين ولم يرجّحا شيئاً من أدلّتهما.
وهناك رأي رابع ذهب إليه
السيد الحكيم : وهو العمل بالقرعة؛ لمعرفة المتقدّم من المتأخّر فيما إذا علم بعدم التقارن، وإلّا فلا توارث.
ادّعى بعض الفقهاء عدم الخلاف،
بل الإجماع
على عدم ثبوت التوارث إذا كان موت المتوارثين بحتف
الأنف ؛ لما روى
ابن القدّاح عن
الإمام الصادق عن أبيه عليهما السلام، قال: «ماتت
امّ كلثوم بنت
علي عليه السلام وابنها زيد بن عمر بن الخطّاب في ساعة واحدة، لا يدرى أيّهما هلك قبل، فلم يورّث أحدهما من الآخر، وصلّى عليهما جميعاً».
وهل يختصّ ذلك بصورة العلم بتقارن موتهما أو يشمل صورة الشكّ بالاقتران والتقدّم؟
استظهر السيد العاملي من كلمات جماعة من الفقهاء- منهم الشيخ المفيد و
الشيخ الطوسي - بأنّ
انتفاء الحكم إنّما يكون فيما علم بالتقارن دون ما اشتبه فيه الحال، حيث إنّ الشيخ المفيد قيّد انتفاء التوارث بما إذا كان موتهما في وقت واحد، وحصر الشيخ الطوسي وغيره لدى تعليلهم لصورة المسألة ثبوت التوارث فيما يشتبه فيه الحال بأنّه أيّهما مات من قبل.
قال الشيخ المفيد: «إذا مات جماعة يتوارثون بغير غرق ولا هدم في وقت واحد لم يورّث بعضهم من بعض».
وقال الشيخ الطوسي: «متى ماتا حتف أنفهما لم يورّث بعضهما من بعض... لأنّ ذلك إنّما يجوز في الموضع الذي يشتبه الحال فيه، فيجوز تقديم موت أحدهما على صاحبه».
هذا، ولكن ادّعى
الشهيد الثاني الإجماع على عدم التوارث في صورة الاشتباه،
ويلوح ذلك من صاحب الجواهر أيضاً،
وممّن صرّح بنفي الحكم السيد الحكيم فيما يحتمل تقارن موتهما، إلّا أنّه استقرب توريث الذي جهل تاريخ موته بعد العلم بتاريخ موت الآخر، وفي صورة الجهل بتاريخ موتهما قال: يعمل بالقرعة،
ولكن اجيب عن الإجماع بأنّه غير ثابت،
وعن خبر القدّاح بأنّه ضعيف مع مخالفته لبعض الاصول.
ولعلّه لأجله صرّح
الإمام الخميني و
السيد الخوئي بعموم الحكم لكلّ مشتبه حتى صورة الموت
حتف الأنف .
•
شروط توريث الغرقى ، يشترط في توريث الغرقى والمهدوم عليهم وأمثالهم- بناءً على تعدية الحكم إليهم- شروط،
وهي كما يلي.
الموسوعة الفقهية، ج۹، ص۳۸۱- ۳۹۱.