اعتبار القبض في الوقف
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
يعتبر في
الوقف القبض ولو كان مصلحة كالقناطير، أو موضع عبادة كالمساجد قَبضَه الناظر فيها ولو كان على طفل قبضه الولي كالأب والجدّ للأب أو الوصي ولو وقف عليه
الأب أو الجدّ صحّ لأنّه مقبوض بيده.
(ويعتبر فيه) أي في صحّته بعد تمام صيغته (القبض) من الموقوف عليه أو من في حكمه، بمعنى أنّ
الانتقال مشروط به، وقبله يكون العقد صحيحاً في نفسه لكنّه ليس بناقلٍ، فيجوز للواقف الفسخ قبله، بلا خلاف، كما في المسالك وغيره،
بل عليه
الإجماع فيه وفي التنقيح والغنية؛
وهو الحجّة، كالأصل، والمعتبرة المستفيضة، منها الصحيح الذي روته المشايخ الثلاثة : عن الرجل يوقف الضيعة ثم يبدو له أن يحدث في ذلك شيئاً؟ فقال : «إن كان أوقفها لولده ولغيرهم ثم جعل لها قيّماً لم يكن له أن يرجع فيها، فإن كانوا صغاراً وقد شرط ولايتها لهم حتى يبلغوا فيحوزها لهم لم يكن له أن يرجع فيها، وإن كانوا كباراً ولم يسلّمها إليهم ولم يخاصموا حتى يحوزوها عنه فله أن يرجع فيها لأنّهم لا يحوزونها وقد بلغوا».
والصحيح : في الرجل يتصدّق على ولد له وقد أدركوا، فقال : «إذا لم يقبضوا حتى يموت فهو ميراث، وإن تصدّق على من لم يدرك من ولده فهو جائز، لأنّ والده هو الذي يلي أمره» وقال : «لا يرجع في
الصدقة إذا ابتغى بها وجه الله عز وجل»
ونحوه غيره من المعتبرة.
وفي المسالك
أنّ الأصحاب فهموا من الصدقة فيها الوقف، ولذا استدلوا بها على بطلانه بموت الواقف. وفيها حينئذٍ بشهادة السياق دلالة على ما مرّ من اشتراط
القربة في الصحّة؛ لمفهوم قوله : «لا يرجع إذا ابتغى» وهو الرجوع مع عدم الشرط، وهو صريح في الاشتراط، إذ لولاه لما ساغ الرجوع مطلقا.
ومنها المروي في
إكمال الدين للصدوق، بسنده إلى محمّد بن جعفر الأسدي فيما ورد عليه عن
مولانا صاحب الزمان عليه السلام ، قال : «وأمّا ما سألت من الوقف على ناحيتنا وما يجعل لنا ثم يحتاج إليه صاحبه، فكلّ ما لم يسلّم فصاحبه بالخيار، وكلّ ما سلّم فلا خيار لصاحبه احتاج إليه أو لم يحتج، افتقر إليه أو استغنى» إلى أن قال : «وأمّا ما سألت عن أمر الرجل الذي يجعل لناحيتنا ضيعة ويسلّمها من قيّم يقوم بها ويعمرها ويؤدّي من دخلها خراجها ومئونتها ويجعل ما بقي من الدخل لناحيتنا، فإن ذلك جائز لمن جعله صاحب الضيعة قيّماً عليها، إنّما لا يجوز ذلك لغيره».
ثم قد عرفت فتوى الأصحاب ببطلانه بموت الواقف ومستندهم، خلافاً للتقي،
فقال بالصحّة مع
الإشهاد عليه قبل الموت وإن لم يقبض.
وهو شاذّ، كالمحكي عن ابن حمزة
: من عدم اشتراط القبض حيث جعل
النظارة لنفسه، ومع ذلك مستندهما غير واضح.
وهل موت الموقوف عليه كذلك، فيبطل بموته مطلقاً أم إذا لم يقبضه
البطن الثاني أيضاً؟ وجهان. أجودهما الأوّل؛ وقوفاً على ظواهر النصوص المتقدّمة، فإن الموقوف عليه المعتبر قبضه فيها إنّما هو البطن الأوّل، مع أن قبض البطن الثاني لا يؤثّر إلاّ في صحّته بالإضافة إليه، وإلاّ فهو بالإضافة إلى الأوّل باطل؛ لفقد شرطه فيه، ولا يتصور الصحّة
بالإضافة إليه وإن قبض لوجهين :
أحدهما : أن صحّة الوقف ليس معناها إلاّ صحّة ما جرى عليه الصيغة، وهو ليس إلاّ
الوقف عليهما دون الثاني خاصّة، فصحّته بالإضافة إليه خاصّة دون الأوّل غير ما جرى عليه العقد.
وثانيهما : أنّ الصحّة بالإضافة إليه خاصّة معناها بطلانه بالإضافة إلى الأوّل، فوجوده بالنسبة إليه كعدمه، فيكون الوقف حينئذٍ على معدوم مع عدم تبعيّته لموجود، ومجرّد التبعيّة للذكر تأثيره في الصحّة غير معلوم، مع أنّ
الأصل عدمها.
واعلم أنّ العبارة ظاهرها اشتراط القبض في الصحّة، وربما يعبّر بما يدلّ على اشتراطه في اللزوم، كما في
الغنية والشرائع واللمعة،
إلاّ أن في المسالك
: لا خلاف في
الاشتراط في الصحة، وأوّل عبائر الكتب المزبورة إليها. والنصوص السابقة لا تدلّ إلاّ على جواز الرجوع قبله، وهو لا ينافي الصحّة، لكن الحكم بها قبله مع عدم دليل عليها من إجماع أو روايةٍ مشكل، بل مقتضى الأصل الحكم بعدمها، فيكون شرطاً في الصحّة لا اللزوم.
مضافاً إلى الإجماع المنقول، وظهور الصحيحة الثانية وما في معناها في ذلك، حيث حكم فيها برجوعه بالموت ميراثاً، فتأمّل جدّاً.
وتظهر الفائدة في النماء المتخلّل بينه وبين العقد، فيحكم به للواقف على الأوّل، وللموقوف عليه على الثاني.
ثم قد صرّح الأصحاب بعدم اشتراط فوريّة القبض. وهو كذلك، والصحيحة المتقدّمة فيه صريحة.
واعلم أنّه لا خلاف في سقوط اعتباره في بقية الطبقات؛ لأنّهم يتلقّون الملك عن الأوّل وقد تحقّق الوقف ولزم بقبضه، فلو اشترط قبضهم لانقلب
العقد اللازم إجماعاً، كما في المسالك وغيره
جائزاً.
ثم لو وقف على الفقراء أو الفقهاء فلا بدّ من نصب قيّم لقبض الوقف، والنصب إلى الحاكم.
قيل
: والأقرب جوازه للواقف مطلقا، سيّما مع فقد الحاكم ومنصوبه، وربما كان في الصحيحة الأُولى دلالة عليه؛ لقوله : «إن كان أوقفها لولده أو لغيرهم ثم جعل لها قيّماً لم يكن له أن يرجع» ونحوه الرواية الأخيرة.
(ولو كان) الوقف على (مصلحة) عامّة (كالقناطير، أو موضع عبادة كالمساجد) قالوا : (قَبضَه الناظر فيها) أي في تلك المصلحة، فإن كان لها ناظر شرعي من قبله تولّى القبض؛ لما مرّ من الخبر، وإلاّ فالحاكم، لما يأتي.
وأطلق بعضهم
في القبض في نحو المساجد والمقبرة بصلاة واحدة ودفن واحد فيها.
وقيّده آخر
بوقوع ذلك بإذن الواقف؛ ليتحقّق
الإقباض الذي هو شرط صحّة القبض.
وقيّده ثالث
بوقوعهما بنيّة القبض أيضاً، فلو أوقعا لا بنيته كما لو أوقعا قبل العلم بالوقف، أو بعده قبل
الإذن فيهما، أو بعدهما لا بقصد القبض، إمّا للذهول عنه، أو لغير ذلك لم يلزم.
قالوا : هذا إذا لم يقبضه الحاكم الشرعي أو منصوبة، وإلاّ فالأقوى
الاكتفاء به إذا وقع بإذن الواقف؛ لأنّه نائب المسلمين، وهو حسن.
(ولو كان) الوقف (على طفل) أو مجنون (قبضه الولي) لهما (كالأب والجدّ للأب) بلا خلاف فيهما.
(أو الوصي) لأحدهما مع عدمهما، على الأقوى؛ لمفهوم التعليل في الصحيحة الثانية.
خلافاً للماتن في
الشرائع وغيره،
فتردّدا فيه؛ لما ذكر، ولضعف يده وولايته بالإضافة إلى غيره. ويضعّف بما مرّ، وضعف اليد وقوّتها لا
أثر له في ذلك بعد ثبوت أصل
الولاية .
(ولو وقف عليه) أي على الطفل ومن في معناه (الأب أو الجدّ) له (صحّ) ولزم ولم يحتج إلى إقباضٍ من أحد، بلا خلاف؛ للصحيح الثاني المتقدّم وما بعده، فإنّهما مع ما فيهما من التعليل المشار إليه في قوله : (لأنّه مقبوض بيده) نصّان في المقام كالصحيح الأوّل. وإطلاقهما كالعبارة وكثير من عبائر الجماعة يقتضي الاكتفاء بقبضهما وإن تجرّد عن نية القبض عنهما، واحتمل بعضهم
اعتبار ذلك.
قيل : وفي معناه ما لو كان الموقوف تحت يد الموقوف عليه بوديعة أو عارية أو نحوهما؛ لصدق القبض.
وفيه نظر، سيّما إذا كان مجرّداً عن نيّته بعد الوقف، فإنّ ظواهر النصوص المتقدّمة اعتبار
التسليم ، وليس بحاصل. نعم، ربّما يومئ إليه الاكتفاء في بعضها بسبق قبض الولي الواقف له وكونه في يده قبله، فلا بأس به. ولو كان القبض واقعاً بغير إذن الواقف، كالمقبوض بالغصب والشراء الفاسد، ففي الاكتفاء به نظر، ولعلّ العدم هنا أظهر.
رياض المسائل، ج۱۰، ص۹۷- ۱۰۲.