الاعتكاف في المسجد الجامع
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
إنّما اختلف
الفقهاء في أنّه هل يشترط
مسجد معيّن
للاعتكاف كالمساجد الخمسة أم يمكن الاعتكاف في المسجد الأعظم أو
الجامع أو المسجد الذي تنعقد فيه الجماعة؟ وفيه قولان يأتي فيما يلي.
ذهب الفقهاء إلى أنّ الاعتكاف لا يقع إلّا في مسجدٍ وادّعي عليه
الإجماع بقسميه،
قال تعالى: «وَلَا تُبَاشِرُوهُنَ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ»،
ولو صحّ الاعتكاف في غير المسجد لم يكن للتقييد فائدة؛ لأنّ
الجماع في الاعتكاف مطلقاً
حرام ، ولأنّ الاعتكاف لبث هو قربة، فاختصّ بمكان
كالوقوف .
وإنّما اختلفوا في أنّه هل يشترط مسجد معيّن أم لا؟ وفي المسألة أقوال:
الاختصاص بأحد المساجد الأربعة أو الخمسة.
فقال جماعة: يشترط أن يكون في أحد المساجد الأربعة،
وهي:
المسجد الحرام ،
ومسجد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم،
ومسجد الكوفة ،
ومسجد البصرة ، وعليه أكثر علمائنا.
بل
المشهور بين علمائنا،
بل ادّعي عليه الإجماع.
قال
الشيخ الطوسي : «و(الشرط) الراجع إلى البقعة هو أن يكون الاعتكاف في مساجد مخصوصة وهي أربعة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ومسجد الكوفة، ومسجد البصرة، ولا ينعقد الاعتكاف في غير هذه المساجد؛ لأنّ من شرط المسجد الذي ينعقد فيه الاعتكاف أن يكون صلّى فيه
نبيّ أو إمام
عادل جمعة بشرائطها».
وأبدل
علي بن بابويه مسجد البصرة
بالمدائن حيث، قال: «لا يجوز الاعتكاف إلّا في المسجد الحرام،
ومسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ومسجد الكوفة، ومسجد المدائن».
وقال ابنه
أبو جعفر الصدوق : «اعلم أنّه لا يجوز الاعتكاف إلّا في خمسة مساجد: في المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ومسجد الكوفة، ومسجد المدائن، ومسجد البصرة».
وضابط المشهور أنّه كلّ مسجد جمّع فيه نبيّ أو وصيّ نبيّ جماعة، فالمسجد الحرام ومسجد النبيّ جمّع فيهما رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، ومسجد الكوفة ومسجد البصرة جمّع فيهما
علي عليه السلام.
واستدلّ عليه:
أوّلًا: بأنّ الاعتكاف حكم شرعي ويرجع في مكانه إلى
الشرع ، وأيضاً هو طريقة
الاحتياط وبراءة الذمّة ؛ لأنّه لا يحصل له اليقين إلّا بأن يعتكف في المواضع التي عيّنت.
وثانياً: بالأخبار:
منها: ما عن
عمر بن يزيد قال: قلت:
لأبي عبد اللَّه عليه السلام: ما تقول في الاعتكاف
ببغداد في بعض مساجدها، فقال: «لا اعتكاف إلّا في مسجد جماعةٍ، قد صلّى فيه إمامٌ عدلٌ
صلاة جماعةٍ ، ولا بأس أن يُعتكف في مسجد الكوفة والبصرة ومسجد المدينة ومسجد
مكّة ».
ومنها: ما رواه في
المقنعة ، حيث قال:
روي أنّه «لا يكون (الاعتكاف) إلّا في مسجدٍ جمع فيه نبيّ أو وصيّ نبيّ» قال: وهي أربعة مساجد: المسجد الحرام جمّع فيه
رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، ومسجد المدينة جمّع فيه رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام، ومسجد الكوفة ومسجد البصرة جمّع فيهما
أمير المؤمنين عليه السلام.
ونسب إلى والد
الصدوق أنّه ذكر (مسجد المدائن) بدل مسجد البصرة.
والذي يمكن أن ينحلّ إلى قولين: الاختصاص بالمسجد الأعظم أو
الجامع أو المسجد الذي تنعقد فيه الجماعة أو الجماعة الصحيحة على اختلاف تعابيرهم.
فظاهر جماعة جوازه في كلّ مسجد جامع،
وعبّر
الشيخ المفيد : ب «المسجد الأعظم»،
إلّا أنّ الظاهر إرادة الجامع منه في مقابلة مسجد
السوق والمحلّة والقبيلة ونحوها من المساجد التي لم يجتمع فيها المعظم من أهل البلد، ولا اعدّت لذلك.
وإليك بعض عباراتهم:
قال
المحقّق الحلّي : «الرابع: المكان، فلا يصحّ إلّا في مسجد جامع».
وقال
المحقق الكركي : «الأصح
جواز فعله فى كلّ مسجد جامع».
وقال
المحقق العراقي : «الأقوى جوازه في كلّ مسجد تتعبّد فيه جماعة».
وقال
السيد الحكيم : «ويكون المتحصّل من جميعها (الأخبار) جواز الاعتكاف في المساجد الأربعة وإن لم تنعقد فيها جماعة، وكلّ مسجد تنعقد به الجماعة الصحيحة».
وقال
السيد الخوئي : «أن يكون في أحد المساجد الأربعة: مسجد الحرام، ومسجد المدينة، ومسجد الكوفة، ومسجد البصرة، أو في المسجد الجامع في البلد،
والأحوط استحباباً - مع الإمكان- الاقتصار على الأربعة».
ويستدلّ على ذلك
بالأخبار المستفيضة :
منها: ما عن
أبي الصباح الكناني عن أبي عبد اللَّه عليه السلام، قال: سئل عن الاعتكاف في
رمضان في العشر الأواخر، قال: «إنّ
عليّاً عليه السلام كان يقول: لا أرى الاعتكاف إلّا في المسجد الحرام، أو في مسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، أو في مسجد جامع».
ومثله خبر
داود بن سرحان .
ومنها: ما عن
علي بن غراب عن أبي عبد اللَّه عن أبيه عليهما السلام قال: «المعتكف يعتكف في المسجد الجامع».
ومنها: ما عن
ابن سنان عن أبي عبد اللَّه عليه السلام- في حديث- قال: «لا يصلح العكوف في غيرها- يعني: غير
مكّة - إلّا أن يكون في مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم أو في مسجد من مساجد الجماعة».
ومنها: ما عن
يحيى بن العلاء الرازي عنه عليه السلام أيضاً: «لا يكون اعتكاف إلّا في مسجد جماعة».
ومنها: ما عن
الحلبي عنه عليه السلام أيضاً قال: سئل عن الاعتكاف، قال: «لا يصلح الاعتكاف إلّافي المسجد الحرام، أو
مسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، أو مسجد الكوفة، أو مسجد جماعةٍ وتصوم ما دمت معتكفاً».
ونسب إلى
ابن أبي عقيل أنّه قال:
«الاعتكاف عند
آل الرسول عليهم السلام لا يكون إلّا في المساجد، وأفضل الاعتكاف في المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم،
ومسجد الكوفة ، وسائر الأمصار مساجد لجماعات».
واحتجّ على ذلك بعموم قوله تعالى: «وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ».
اتّفق الفقهاء على أنّ المسجديّة والجامعيّة تُعلم بالعلم الوجداني أو الشياع المفيد للعلم أو
البيّنة أو حكم
الحاكم أو نحو ذلك.
لكن اختلفوا في الاكتفاء
بخبر العدل الواحد ، فرأى بعضهم الاكتفاء، بناءً على أنّ خبر الواحد حجّة في الموضوعات مطلقاً كالأحكام، إلّا أن يقوم الدليل على خلافه.
واستشكل بعضهم على
الاكتفاء ، بناءً على عدم
حجّيته في الموضوعات.
ولو فرض تعدّد الجامع في البلد الواحد ذهب جملة من
الفقهاء إلى جواز الاعتكاف في كلّ منها.
ويلحق بالمساجد حيطانها التي من جانبها
وآبارها التي فيها وسطوحها
ومنائرها ومنابرها ومحاريبها وسراديبها -
كبيت الطشت في الكوفة- ونحو ذلك ممّا هو مبنيّ على الدخول ما لم يعلم الخروج، بخلاف سنائدها ونحوها ممّا هو مبنيّ على الخروج ما لم يعلم دخولها، والإضافات إلى الجوامع حكمها حكمها مع اتّخاذها.
لكن اختار
الشهيد الأول عدم دخول السطح في مسمّاه.
لو اعتكف فبان عدم المسجديّة أو الجامعيّة بعد الاعتكاف بطل اعتكافه، ولا يصلحه لحوقهما؛ إذ العبرة بالواقع ولا أثر للاعتقاد الذي هو خيال محض والمشروط ينتفي بانتفاء شرطه.
لا تلحق
المراقد المشرّفة بالمساجد هنا، وكذا
رواقها وإن كان متّخذاً
للعبادة ، لا لإحكام البناء.
لكن قال
كاشف الغطاء : «ولا في رواقها، إلّا إذا كان معدّاً للعبادة».
وحضرة
مسلم بن عقيل وهاني ونحوهما ليست من مسجد الكوفة على الظاهر.
المعروف أنّه لا يجوز الاعتكاف في
الكعبة ؛ لعدم كونها مسجداً، واحتمل بعض الجواز فيها.
جميع بقاع مسجد الاعتكاف على حدّ سواء للمعتكف، بل لا يبعد عدم اعتبار خصوص بعضها وإن خصّصه المعتكف.
نعم، قد يقال باعتباره لو خصّصه
الوليّ كحاكم الشرع على إشكال فيه.
لو شكّ في موضع أنّه جزء من المسجد أو من مرافقه لم يجر عليه حكم المسجد؛
لأنّ عنوان المسجدية أمر حادث لابدّ من
إحرازه في ترتيب الأحكام بعلم أو علمي ولو يد المصلّين، وإلّا فمع الشكّ في موضع أنّه جزء منه أم لا، كمخزن في المسجد يجعل فيه الأثاث لم يعلم أنّه جزء أو وقف بعنوان آخر، فالمرجع أصالة العدم.
ولو كثر المعتكفون فضاق المسجد عن اللبث فيه لم يجز التناوب لكلّ واحد يوم.
صرّح الفقهاء بأنّه لا فرق في اشتراط كون الاعتكاف في المسجد بين الرجل والمرأة، فيستويان في ذلك،
بل قد نفي عنه الخلاف،
بل ادّعي عليه
الإجماع .
واستدلّوا عليه
بقاعدة الاشتراك وإطلاق النصوص، فإنّها خالية عن التقييد بالرجل، بل صرّح بذلك في بعضها، كصحيح
داود ابن سرحان عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام- في حديث- قال: «... ولا ينبغي للمعتكف أن يخرج من المسجد إلّا لحاجة لابدّ منها، ثمّ لا يجلس حتى يرجع، والمرأة مثل ذلك».
وخالف بعض المذاهب الاخرى في ذلك، فجوّزوا لها الاعتكاف في مسجد بيتها.
مكان الاعتكاف- وهو المسجد- مباح لمن أراد الاعتكاف فيه ونحوه، وعليه فلا مجال للبحث عن اشتراط
إباحة المسجد لوضوح إباحته.
لكن وقع البحث فيما لو غصب مكاناً من المسجد سبق إليه غيره بأن أزاله وجلس فيه
بنيّة الاعتكاف أو جلس على فراش
مغصوب ، فهل يبطل الاعتكاف بهذا النحو من الغصب أم لا؟
ذهب بعض الفقهاء إلى
البطلان ،
قال
الشيخ جعفر كاشف الغطاء : «لو غصب مكاناً من المسجد أو جلس على فراش مغصوب فالأقوى البطلان».
وجماعة منهم إلى عدم البطلان.
واستدلّ عليه بأنّ الجلوس أمر والمكث أمر آخر، وإن كانا متلازمين خارجاً فإنّ حرمة أحدهما لا تسري إلى الآخر بوجه، فيبقى المكث الذي يتقوّم به الاعتكاف على ما كان عليه من الإباحة.
وجمع منهم بين متأمّل في المسألة ومحتاط.
أمّا الجلوس على أرض المسجد المفروش بتراب مغصوب، فلو أمكن إزالته فحكمه حكم الفراش المغصوب.
وأمّا إذا لم يمكن إزالته- كما لو صبّ فيه من السمنت ونحو ذلك بحيث لا يقبل القلع ولا يمكن الردّ إلى المالك- فذهب بعضهم إلى جواز الجلوس عليه فيصحّ الاعتكاف، قال الشيخ جعفر كاشف الغطاء: «لو وضع في المسجد تراب أو فراش مغصوب ولا يمكن نقله، فلا مانع من الكون عليه»،
واختاره المحقق النجفي في نجاة العباد.
واستدلّ عليه بأنّ المنع تعطيل للمسجد ومنع
للمسلمين عن حقّهم، وهو ضرر منفي.
واستشكل فيه- مع إمكان منع كون ذلك ضرراً- بأنّ التصرّف بغير
إذن المالك ضرر أيضاً، فعموم حرمة التصرّف بغير إذن المالك محكّم.
ويستدلّ عليه أيضاً بأنّه في حكم التالف في أنّه لا ينتفع به، فيخرج بذلك عن الماليّة والملكيّة. نعم، يبقى
حق الاختصاص للمالك، فلا يجوز لأحد مزاحمته في الاستفادة منها. وأمّا عدم جواز التصرّف فيها بغير الإذن فغير ثابت؛ لأنّ ذلك موقوف على ثبوت الملكيّة، والمفروض أنّها منتفية.
وعليه فلا مانع من الجلوس على أرض المسجد أو الحرم المفروش بآجر أو سمنت مغصوب، ولا يغلق باب المسجد بذلك، فلا يجب الخروج، فإنّ ذلك كلّه ليس إلّا
تصرّفاً في متعلّق حقّ الغير، ولا دليل على
حرمته ، وإنّما الحرام التصرّف في أموال الناس لاحقوقهم، وإنّما الثابت عدم جواز
المزاحمة مع الملّاك، ولا مزاحمة في أمثال المقام.
وأمّا إذا كان المعتكف لابساً لثوب مغصوب أو حاملًا له حين اعتكافه فهل يبطل بذلك اعتكافه أو لا؟
ذهب بعض
الفقهاء إلى أنّه لا يبطل الاعتكاف.
واستدلّ عليه بأنّ اللبس والحمل حرامان مستقلّان وكلاهما أجنبيّان عن المكث الاعتكافي وإن كانا متقارنين له خارجاً، فلا تسري الحرمة منهما إليه، بل كلّ يبقى على حكمه.
الموسوعة الفقهية، ج۱۴، ص۴۴۳-۴۵۱.