الغصب
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
الغصب، هو الاستقلال باثبات اليد على مال الغير عدوانا؛ ولا يضمن لو منع المالك من
إمساك الدابة المرسلة؛ وكذا لو منعه من القعود على بساطه ويصح غصب العقار كالمنقول ويضمن بالاستقلال به؛ ولو سكن الدار قهرا مع صاحبها ففي
الضمان قولان، ولو قلنا بالضمان ضمن النصف؛ ويضمن حمل الدابة لو غصبها؛ وكذا
الأمة؛ ولو تعاقبت الأيدي على المغصوب فالضمان على الكل؛ ويتخير المالك؛ والحر لا يضمن ولو كان صغيرا لكن لو أصابه تلف بسبب الغاصب ضمنه؛ ولو كان لا بسببه
كالموت ولدغ الحية فقولان؛ ولو حبس صانعا لم يضمن اجرته؛ ولو انتفع به ضمن
اجرة الانتفاع؛ ولا يضمن
الخمر لو غصبت من
مسلم ويضمنها لو غصبها من
ذمي، وكذا
الخنزير؛ ولو فتح بابا على مال ضمن السارق دونه؛ ولو أزال القيد عن فرس فشرد او عن عبد مجنون فأبق ضمن؛ ولا يضمن لو أزاله عن عاقل.
اعلم أنّ الغصب كما هنا وفي
الشرائع واللمعة والدروس هو الاستقلال والاستبداد
بإثبات اليد على مال الغير عدواناً وظلماً، وهو قريب من معناه اللغوي الذي هو الأخذ ظلماً
.
وخرج بالاستقلال بإثبات اليد ما لا إثبات معه أصلاً كمنعه من ماله حتّى تلف كما يأتي، وما لا استقلال معه كوضع يده على ثوبه الذي هو لابسه، فإنّ ذلك لا يسمّى غصباً لغةً ولا عرفاً. وخرج بالمال الاستقلال باليد على غيره كالحرّ فإنّه لا يتحقّق فيه الغصبية جدّاً، فلا يضمن. وخرج بإضافة المال إلى الغير ما لو استقل بإثبات يده على مال نفسه عدواناً كالمرهون في يد المرتهن، والوارث على التركة مع
الدين على قول، فليس كلّ منهما بغاصب عرفاً وإن أثما وضمنا. وخرج بالعدوان إثبات المرتهن والوليّ
والوكيل والمستأجر والمستعير أيديهم على مال الراهن والمولّى عليه والموكّل والمؤجر والمعير.
ولانتقاض هذا التعريف في عكسه بما لو اشترك اثنان فصاعداً في غصبٍ بحيث لم يستقلّ كل منهما باليد، بُدّل الاستقلال فيه بالاستيلاء
ليشمله؛ لصدق
الاستيلاء فيه دون الاستقلال.
ولانتقاضه أيضاً بالاستقلال بإثبات اليد على مطلق حقّ الغير كالتحجير وحق
المسجد ونحوه مما لا يعدّ مالاً مع كون الغصب فيه متحقّقا عرفاً بُدّل المال فيه بمطلق الحق
؛ ليشمله.
فتلخّص من ذلك أنّ الأجود في تعريفه: أنّه الاستيلاء على حق الغير عدواناً.
وأمّا إبدال العدوان بغير حقّ؛ ليتناول التعريف من ترتّبت يده على يد الغاصب جاهلاً بالغصب، ومن سكن دار غيره غلطاً، أو لبس ثوبه خطأً فإنّهم ضامنون ولم يدخلوا في التعريف بدون التبديل المذكور. فمردود؛ لعدم صدق الغصب عرفاً على شيء من ذلك جدّاً، والحكم بالضمان فيها لم يكن وجهه في الغصب منحصراً؛ لعدم التلازم بينهما إجماعاً، ولذا قالوا: إنّ أسباب الضمان غير منحصرة فيه
.
مع أنّ الغصب من الأفعال المحرّمة بدليل
العقل والآيات المتكاثرة
والسنة المستفيضة، بل المتواترة، وإجماع الأُمّة المحقّق والمحكيّ في كلام جماعة
إلى حدّ الاستفاضة، فلو صدق الغصب عليها حقيقةً لاستلزم حرمتها مع أنّها مقطوع بعدمها.
وحيث قد عرفت اعتبار الاستقلال أو الاستيلاء في الغصب ظهر لك الوجه بعد ملاحظة
الأصل أيضاً أنّه لا يضمن أحد وإن أثم لو منع المالك من
إمساك الدابّة المرسلة فتلفت، لا عينها ولا منفعتها زمن المنع.
وكذا لا يضمنهما لو منعه من القعود على بساطه والسكنى في داره فتلفا؛ لما عرفت من الأصل، وعدم صدق الغصب الموجب للضمان بالإجماع بناءً على فقد جزئه المفهوم منه لغةً وعرفاً هنا، وهو إثبات اليد.
قيل: ويشكل بأنّه لا يلزم من عدم الغصب عدم الضمان؛ لعدم انحصار السبب فيه، بل ينبغي أن يختصّ ذلك بما لا يكون المانع سبباً في تلف العين بذلك بأن اتفق تلفها مع كون السكنى غير معتبرة في حفظها، والمالك غير معتبر في مراعاة الدابّة كما يتّفق لكثير من الدور والدوابّ، أمّا لو كان حفظه متوقّفاً على سكنى الدار وركوب الدابّة لضعفها أو كون أرضها مسبعة مثلاً فإنّ المتّجه الضمان؛ نظراً إلى كونه سبباً قويّاً مع ضعف المباشر
. وهو حسن، وفاقاً لجماعة من المتأخّرين كما في
المسالك والكفاية واختاراه أيضاً، لا لما ذكر من أنّ عدم الغصب لا يلزم منه عدم الضمان لاحتماله بسبب آخر؛ لنفيه بالأصل المتقدّم، ولذا سُلّم عدم الضمان في صورة عدم سببيّة المانع للتلف.
بل لأنّ نفي احتمال سببيّة سبب آخر في الضمان بالأصل، إنّما يتوجّه حيث لا يمكن إثباته بدليل آخر أقوى منه وأخصّ، وهو في صورة سببيّة المانع وضعف المباشر ممكن؛ لعموم: «لا ضرر ولا إضرار في
الدين»
بناءً على صدق الإضرار بمنع المانع في هذه الصورة عرفاً، فيتوجّه ضمانه حينئذٍ جدّاً. ومن هنا يتوجّه الحكم بضمان نقص القيمة السوقية للمتاع إذا حصل بمنع المالك عن بيعه ولو مع بقاء العين وصفاتها. وذكر القائل المتقدّم هنا أنّه لم يضمن قطعاً؛ لأنّ الفائت ليس بمال، بل اكتسابه
.
وهو كما ترى؛ لاتّحاد وجه الحكم بالضمان هنا وفيما مضى، وهو صدق الإضرار المنفيّ شرعاً، وليس فيه ما يقتضي تخصيص الضرر المنفيّ بما يكون متعلّقه مالاً، ولعلّه لذا قوّى
الشهيد في بعض فتاويه الضمان في الجميع
، وإنّ قوّى في الدروس عدم الضمان مطلقاً
، وفاقاً للمشهور كما في المسالك والكفاية
.
ويصحّ أي ويتحقّق ويتصوّر غصب العقار كالمنقول بلا خلاف بيننا، بل في ظاهر الكفاية والمسالك أنّ عليه
الإجماع منّا ومن أكثر العلماء
؛ لأنّ المعتبر منه الاستقلال بإثبات اليد أو الاستيلاء، وتحقّقهما ممكن في العقار كغيره.
ومن ثمّ أمكن قبضه في
البيع ونحوه ممّا يعتبر فيه القبض، وهو لا يتحقّق بدون الاستقلال بإثبات اليد عليه، فليكن هنا كذلك.
هذا مضافاً إلى الخبر: «من غصب شبراً من الأرض طوّقه الله تعالى من سبع أرضين إلى
يوم القيامة»
.
وفي آخر: «من خان جاره شبراً من الأرض جعله الله تعالى طوقاً في عنقه من تخوم الأرض السابعة حتّى يلقى الله عزّ وجلّ يوم القيامة مطوّقاً إلاّ أن يتوب ويرجع»
.
وفي ثالث: «من أخذ أرضاً بغير حقّ كُلّف أن يحمل ترابها إلى
المحشر»
.
خلافاً لبعض
العامة، فقال: لا يمكن غصبه بل إنّما يضمن بالانهدام فإذا دخل وانهدم ضمن المهدوم
.
وضعفه ظاهر، مع عدم الدليل عليه.
واعلم أنّه إنّما يضمن بمجرّد الاستقلال به أي: بالعقار، بإثبات اليد عليه ولو بأن يستولي عليها ويتسلّم مفاتيحها من دون أن يزعج المالك ويخرجه منها، على ما يقتضيه
إطلاق العبارة ونحوها، وبه صرّح جماعة كالمسالك والكفاية
.
خلافاً للعلاّمة فاعتبر مع ذلك الدخول والإزعاج
.
ووجهه غير واضح؛ لصدق الغصب بدونهما بمجرّد الاستقلال والاستيلاء عرفاً، ألا ترى أنّه لو كان المالك غائباً يتحقّق الغصب ولا إزعاج أصلاً، وكذا لو استولى مع المالك صار غاصباً ولو في الجملة مع أنّه لا إزعاج فيه بالمرّة، فظهر أنّ الاعتبار باليد والاستقلال بلا شبهة.
قيل: ولعلّ المراد به عدم قدرة المالك على تصرّفه فيما هو بيده وتصرّفه، بمعنى أنّه لم يمكّنه من ذلك وإن كان جالساً معه، فإنّه حينئذٍ يكون وجوده وعدمه سواء
.
وهو حسن.
ولو سكن الغاصب الدار قهراً مع صاحبها ففي
الضمان قولان مبنيّان على الاختلاف في تعريف الغصب بأنّ المعتبر فيه الاستقلال فلا يضمن، أو الاستيلاء فيضمن، وحيث قد عرفت أظهرية الثاني ظهر لك توجّه الضمان كما عليه الأكثر وفاقاً
للشيخ، ونبّه على الأكثرية شيخنا في المسالك
وصاحب الكفاية.
هذا مع إمكان تصحيح هذا القول على تقدير اعتبار الاستقلال أيضاً كما هو ظاهر جمع، منهم:
الشهيدان في الدروس
والروضة، والفاضل المقداد في التنقيح، قال فيه بعد تعليل عدم الضمان بعدم استقلال يد الغاصب؛ لأنّه إنّما يحصل برفع يد المالك ولم يرفع: وفيه نظر؛ لأنّه إن أراد باستقلال اليد عدم المشاركة فهو باطل وإلاّ لزم عدم الضمان على شخصين اشتركا في غصب شيء واحد، وإن أراد به إثباته على وجه يرتفع به يد المالك فهو مصادرة على المطلوب؛ لأنّ ذلك غير المتنازع فيه
.
ولو قلنا بالضمان ضمن النصف عيناً وقيمةً، كما إذا كان له شريك في الغصب. وإطلاق العبارة ونحوها من عبائر الجماعة يقتضي عدم الفرق في ضمانه النصف بين وحدة المالك وتعدّده.
ويحتمل تخصيصها بالصورة الأُولى والرجوع في الثانية إلى الضمان بالنسبة، فلو كان اثنين لزمه الثلث، وثلاثة لزمه الربع، وأربعة لزمه الخمس.
واستقربه في
التنقيح إلحاقاً للمفروض بما لو تعدّد الغاصب، وقال بعد ذلك: والتحقيق يقتضي الضمان على نسبة ما استولى عليه واستقلّ به، إن نصفاً فنصفاً، وإن ثلثاً فثلثاً، وهكذا
.
وهو جيّد.
وعلى القول بالضمان لا بُدّ من التقييد بكونه متصرّفاً في النصف مثلاً بحيث يمنع المالك من أنواع التصرّفات فيه كالبيع
والهبة وأمثالهما، لا مجرّد السكنى. وكونِ شركته على الإشاعة من غير اختصاص بموضع معيّن، أمّا معه فالمتجه ضمانه كائناً ما كان.
ولو كان قويّاً مستولياً وصاحب الدار ضعيفاً بحيث اضمحلّت يده معه احتمل قويّاً ضمان الجميع.
ولو انعكس الفرض بأن ضعف الساكن الداخل على المالك عن مقاومته، ولكن لم يمنعه المالك مع قدرته ضمن الساكن
أجرة ما سكن خاصّة؛ لاستيفائه منفعته بغير إذن مالكه.
هذا مع حضور المالك، وأمّا مع غيبته فلا شبهة في ضمانه العين أيضاً؛ لتحقق
الاستيلاء حينئذٍ جدّاً.
ويضمن حمل الدابّة لو غصبها، وكذا غصب
الأمة الحامل غصب لحملها بلا خلاف أجده ظاهراً؛ لأنّه مغصوب
كالأُمّ، والاستقلال باليد عليه حاصل بالتبعية لها.
وليس كذلك حمل المبيع فاسداً حيث لا يدخل في البيع؛ لأنّه ليس مبيعاً فيكون أمانةً في يد المشتري؛ لأصالة عدم الضمان، ولأنّ تسلّمه بإذن البائع.
مع احتمال الضمان؛ لعموم: «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي»
مع الشك في صدق
الأمانة عليه. وبه قطع الماتن في الشرائع
.
قالوا: فإن أسقطت الحمل وبقيت الأمّ لزمه تفاوت ما بين قيمتها حاملاً وحائلاً، وإن تلفت بعد الوضع أُلزم بالأكثر من قيمة الولد وقيمتها حاملاً إن اعتبرنا الأكثر، وإلاّ فقيمة يوم التلف
.
واعلم أنّه لا خلاف في أنّه لو تعاقبت الأيدي على المغصوب فالضمان على الكل سواء علموا بالغصب جمعياً أم جهلوا أم بالتفريق؛ لتحقّق التصرّف في مال الغير بغير إذنه الموجب للضمان؛ لعموم قوله (علیهالسّلام): «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» وإن انتفى
الإثم عن الجاهل بالغصب.
وحينئذ يتخيّر المالك في تضمين من شاء منهم العين والمنفعة، أو تضمين الجميع بدلاً واحداً بالتقسيط وإن لم يكن متساوياً؛ لأنّ جواز الرجوع على كلّ واحد بالجميع يستلزم جواز الرجوع بالبعض.
وكذا له تقسيط ما يرجع به على أزيد من واحد وترك الباقين؛ لما ذكر. ويرجع الجاهل منهم بالغصب إذا رجع عليه المالك على من غرّه فسلّطه على العين أو المنفعة ولم يُعلِمه بالحال، وهكذا الآخر إلى أن يستقرّ الضمان على الغاصب العالم وإن لم تتلف العين في يده.
هذا إذا لم يكن يد من تلفت في يده يد ضمان
كالعارية، وإلاّ لم يرجع على غيره.
ولو كانت أيدي الجميع عاريةً تخيّر المالك في الرجوع عليهم أو بعضهم، واستقرّ الضمان على من تلفت في يده فيرجع غيره عليه لو رجع المالك عليه دونه، وكذا يستقرّ المنفعة على من استوفاها.
والحرّ لا يُضمن بالبناء للمفعول بالغصب عيناً ولا منفعةً مطلقاً ولو كان صغيراً؛ للأصل، وعدم صدق الغصب عليه عرفاً؛ لأنّ متعلّقه فيه ما كان مالاً كما مضى، وهو ليس بمال مطلقاً. لكن لو أصابه تلف بسبب الغاصب من نحو
الجناية على نفسه أو طرفه مباشرةً أو تسبيباً ضمنه إجماعاً، كما يأتي في محلّه في كتاب الجنايات إن شاء الله تعالى.
ثم إنّ عدم الضمان في غير هذه الصورة إجماعيّ في الكبير مطلقاً، والصغير إذا كان تلفه
بالموت الطبيعي من قبل الله تعالى، كما في الروضة والتنقيح
. ولو كان لا من قبل الله تعالى و لا بسببه أي الغاصب كالموت بافتراس السبع ولدغ الحيّة ونحو ذلك فقولان
للمبسوط، ينشئان مما مرّ، ومن أنّه سبب الإتلاف، وأنّ الصغير لا يستطيع دفع المهلكات عن نفسه، وعروضها أكثريّ فمن ثَمّ رجّح السبب.
وقوّى هذا في
الخلاف والقواعد والمختلف والدروس
، ويعضدهم الخبر: «من استعار حرّا صغيراً فعيب ضمن»
بناءً على أنّ
الاستعارة أهون من الغصب. لكنّه بعد الإغماض عن سنده شاذّ لا قائل بإطلاقه، ومع ذلك
كفتوى الجماعة بالضمان في المسألة موافق لرأي
أبي حنيفة، كما عن الخلاف وفي
التذكرة، ومع ذلك تعليلهم المشار إليه غير صالح للحجّية، وتخصيص
أصالة البراءة القطعية.
فالمسألة إمّا الأظهر فيها عدم الضمان كما هو الأشهر بين
الطائفة على ما صرّح به في المسالك والكفاية
، أو محل تردّد كما هو ظاهر المتن والإرشاد
، ولكن ربما يستوحش منه.
ويعضد القول بالضمان ملاحظة أنّ فتح باب عدم الضمان في مثله يفضي إلى الحيل لقتل الناس بأن يخلّيه ويدعه في مسبعة ومضيعة، وأنّ الضمان يناسب عدوانه ويقابل بفعله الشنيع. وهو مع ما فيه من أنّه استبعاد محض جارٍ في الكبير أيضاً، ولذا قيل: إنّ الظاهر عدم الفرق بين الكبير المجنون والطفل الغير المميز الغير القادر على الدفع عن نفسه وهو مثل الحيوان. بل الظاهر عدم الفرق بينهما وبين الكبير إذا حبس بحيث لا يقدر على الخلاص منه، ثم حصل في الحبس شيء أهلكه مثل لدغ الحيّة أو غيره؛ لاشتراك العلّة المتقدّمة، فإنّ الكبير مع عدم قدرته على دفع الحيّة والعقرب إذا لم يره في الحبس لظلمته كالطفل، بل وكالحيوانات التي لا شعور لها
، انتهى.
ولكنّ الأكثر خصّوه بالصغير فلا يمكن أن يستدلّ لهم بهذا التعليل.
ولو حبس صانعاً حرّا زماناً له اجرة عادةً لم يضمن أُجرته إذا لم يستعمله، قالوا: لأنّ منافع الحرّ لا تدخل تحت اليد تبعاً سواء كان قد استأجره لعمل قد اعتقله ولم يستعمله، أم لا.
نعم لو كان قد استأجره مدّة معيّنة فمضت زمن اعتقاله وهو باذل نفسه للعمل استقرّت الأُجرة؛ لذلك، لا للغصب، بخلاف الرقيق؛ لأنّه مال محض ومنافعه كذلك.
وظاهرهم القطع بعدم الضمان في صورته، وبه صرّح في الكفاية
. فإن تمّ إجماعاً، وإلاّ ففيه مناقشة حيث يكون الحابس سبباً مفوّتاً لمنافع المحبوس؛ لقوّة الضمان فيه، لا للغصب؛ بل لإيجابه الضرر عليه المنفيّ.
وعليه نبّه الفاضل
المقدس الأردبيلي في الشرح، قال بعد تقوية الضمان: لدفع المفاسد، ولدفع ضرر عظيم، فإنّه قد يموت هو وعياله من
الجوع، ولا يكون في ذلك مانع، مع كونه ظالماً وعادياً؛ ووجودِ ما يدلّ على جواز التعدي بما اعتدى، وجزاء
السيئة سيئة،
والقصاص، ونحو ذلك، فتأمّل. انتهى
. وتبعه خالي العلاّمة دام ظلّه في حواشيه عليه، قال بعد تقوية ما ذكره الشارح: وبالجملة إن ثبت إجماع أي على ما ذكره
الأصحاب وإلاّ فالأمر كما ذكره
أي الشارح.
أقول: ويحتمل قويّاً اختصاص ما ذكره الأصحاب بصورة عدم استلزام الحبس التفويت كما فرضناه، بل الفوات خاصّةً. وربما يستفاد ذلك من التذكرة حيث إنّه مع تصريحه بما ذكره الأصحاب قال في عنوان البحث: منفعة بدن الحرّ تضمن بالتفويت لا بالفوات
، انتهى، فتأمّل.
ويظهر الفرق بين المقامين فيما لو حبسه مدّةً لها أُجرة عادةً، فإن كان لو لم يحبس لحصّلها كان حبسه سبباً لتفويتها فيضمن هنا كما ذكراه. وإن كان لو لم يحبس لم يحصّلها أيضاً لم يكن حبسه سبباً لتفويتها، وهذا مراد الأصحاب في حكمهم بنفي الضمان فيه كما احتملناه من كلامهم. ولا شبهة فيه، كما لا شبهة في أنّه لو انتفع به باستخدامه ضمن اجرة الانتفاع مع أنّه لا خلاف فيه.
ولا تضمن
الخمر لو غصبت من مسلم أو كافر متظاهر وإن كان قد اتّخذها للتخليل؛ إذ لا قيمة لها في
شرع الإسلام. لكن هنا يأثم الغاصب ويجب عليه ردّها مع بقاء عينها.ولو تخلّلت ردّها خَلاًّ؛ لأنّها مملوكة على هذا الوجه، فلا يزول ملكها بانتقالها إلى الصفة المحلّلة، بل تتأكّد.
وإن تلفت عينها عند الغاصب فإن كان بعد التخليل لزمه الخلّ، وإن كان قبله أثم وسقط عنه الضمان في المشهور، كما في المختلف والمسالك
وغيرهما؛ لأنّ حق الإمساك لا يوجب الضمان.
خلافاً
للإسكافي فحكم له بقيمتها خلاًّ؛ لأنّ له حقّ اليد فكان عليه الضمان بإتلاف حقّه، ولا يصحّ الضمان بالمثل، فيضمن بالقيمة ويجب الخلّ؛ لأنّه أقرب إلى العين.
ويضعّف بأنّ فيه تدافعاً؛ لأنّ جعلها حينئذٍ قيميّةً يقتضي إيجاب القيمة كيف كان، فلا وجه للانتقال إلى الخلّ وإن كان أقرب.
ولا فرق في إطلاق العبارة وغيرها من عبائر الجماعة، بل صريح بعضها بين كون الغاصب مسلماً أو كافراً، وبالإجماع على عدم الضمان مطلقاً في الأوّل صرّح
الفاضل في التذكرة
، وظاهرها عدم الخلاف فيه كذلك في الثاني. وبه أيضاً يضعّف مختار الإسكافي.
ويضمنها الغاصب مطلقاً مسلماً كان أو كافراً لو غصبها من ذمّي مستتر بلا خلاف بيننا، بل عليه في ظاهر المبسوط والتذكرة إجماعنا
؛ لأنّها مال بالإضافة إليه وقد أقرّ عليه، ولم يجز مزاحمته فيه.
ثم إن كان الغاصب مسلماً لزمه قيمتها عند مستحلّيها قولاً واحداً كما في المسالك
، وفي ظاهر التذكرة أنّ عليه إجماعنا
؛ لتعذّر إلزامه بالمثل شرعاً وإن كان بحسب القاعدة مثليّا.
وإن كان الغاصب كافراً ففي إلزامه بالمثل أو القيمة وجهان: من أنّه مال مملوك لهم وهو مثليّ فيضمن بمثله؛ إذ لا مانع منه هنا. ومن أنّه يمتنع في شرع الإسلام الحكم بثبوت الخمر في ذمّة أحد، وإن كنّا لا نعترضهم إذا لم يتظاهروا بها، فامتنع الحكم بالمثل لذلك فوجب الانتقال إلى القيمة، كما لو تعذّر المثل في المثليّ.
ولعلّ هذا أقوى وفاقاً لأكثر أصحابنا، بل عليه في ظاهر التذكرة إجماعنا
.
خلافاً
للقاضي في أحد قوليه فاختار الأوّل
. ونقله في التذكرة عن أبي حنيفة
.
وكذا الحكم في
الخنزير إلاّ أنّ ضمان قيمته حيث يجب واضح؛ لأنّه قيميّ حيث يملك.
واعلم أنّه كما يوجب الغصب الضمان كذلك الإتلاف يوجبه أيضاً بلا خلاف؛ ولعلّه لحديث: لا ضرر ولا إضرار
.
ولا فرق في المتلف بين كونه عيناً أو منفعةً. وهو قد يكون بالمباشرة وإيجاد علّة التلف كالأكل، والحرق،
والقتل، ونحو ذلك، وبالسبب وفعل ملزوم العلّة كحفر البئر. وإذا اجتمعا قدّم المباشر بلا خلاف ظاهر، بل ظاهرهم
الإجماع عليه، وبه صرّح المقدس الأردبيلي قال: وكأنّه مجمع عليه
.
وذلك كما لو سعى إلى ظالم بآخر فأخذ ماله، أو فتح بابه على مال فسرق أو دلّ السرّاق إلى مال فسرقوه، فإنّ في جميع هذه المسائل ضمن المباشر الذي هو الظالم السارق دونه أي دون السبب. قالوا: لأنّه أقوى.
وفيه نظر، فإنّ القوّة لا تدفع
الضمان عن السبب بعد وجود ما يقتضي ضمانه أيضاً، وهو ما مرّ من
حديث نفي الضرر. ولا امتناع في الحكم بضمانهما معاً وتخيّر المالك في الرجوع إلى أيّهما شاء كالغصب. فلولا الإجماع الظاهر المعتضد بالأصل لكان القول بضمانهما كترتّب الأيدي في الغصب في غاية الحسن.
وعلى هذا نبّه خالي العلاّمة دام ظلّه في حاشيته على
شرح الإرشاد، إلاّ أنّ ظاهره سلّمه الله المصير إليه، أو بقاؤه في شباك التردّد من دون أن يقطع بما ذكره الأصحاب، ولعلّه لتوقّفه في فهم الإجماع، وتردّده في قبول حكايته من ناقله؛ لعدم قطعه به.
وهو حسن، ولكن الإجماع ظاهر، فالمصير إلى ما ذكره الأصحاب متعيّن إلاّ مع قوّة السبب كالمكره، والملقي للحيوان في المسبعة لو قتله السبع؛ لاتّفاقهم أيضاً على هذا الاستثناء.
ولذا قالوا: لو أزال القيد عن فرس ونحوه فشرد، أو عن عبد مجنون فأبق أو قفص طائر فطار ضمن المزيل، ونفى الخلاف في جميع ذلك في المبسوط
في الجملة، وعليه كذلك في ظاهر التذكرة إجماع
الإماميّة. ويحتج لضمانه زيادةً عليه بما مرّ من حديث نفي الضرر.
ويبقى الإشكال في الحكم بنفي الضمان عن المباشر لو كان؛ لثبوت ضمانه وإن ضعف بعموم على اليد، ولا مانع من اجتماع الضمانين كما مرّ. ولكن المخرج عن هذا الإشكال كالمخرج عن الإشكال الأوّل بناءً على انعقاد الإجماع في الظاهر على اختصاص الضمان بالسبب القويّ دون المباشر.
ومما ذكرنا يظهر الوجه فيما حكموا به من غير خلاف يعرف من أنّه لا يضمن لو أزاله أي القيد عن عبد عاقل بناءً على قوّة المباشر أي هو العبد؛ لأنّ له اختياراً صحيحاً فذهابه محال عليه؛ إذ لا يتوقّع منه الفرار، بخلاف المجنون.
قيل: هذا إذا لم يكن آبقاً، وإلاّ ففي ضمانه وجهان: من أنّه بعقله يحال عليه الفعل. ومن أنّ إطلاقه وقد اعتمد المالك ضبطه إتلاف عليه فكان كحلّ المجنون والبهيمة. انتهى
.
وهذا ظاهر في عدم الإجماع على الحكم في
الآبق، وعليه فالوجه الثاني متعيّن؛ لما مرّ من عموم ما دلّ على ضمان السبب، وإنّما خرج عنه في محلّ الإجماع به، وهو مفقود في المقام بمقتضى الفرض.
رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدّلائل، الطباطبائي، السيد علي، ج۱۴، ص۵-۵۲.