الخروج من مكة بعد عمرة التمتع
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
وإذا دخل مكة بنية
عمرة التمتع لم يجز له أن يجعلها مفردة، ويخرج من
مكة لأنه صار مرتبطا بالحج.
(وإذا دخل) المحرم (مكة متمتعاً) بالعمرة إلى الحج وفرغ من أفعالها (كره له الخروج) منها (لأنّه) أي ما أتى به من
الإحرام للعُمرة (مرتبط بالحج) وجزئه كما مرّ، مضافاً إلى خصوص الصحيح هنا : «أو ليس مرتبطاً بالحج؟! لا يخرج حتى يقضيه».
ونحوه في النهي عن الخروج قبل القضاء الصحاح : «ليس له أن يخرج من مكة حتى يحجّ»،
والخبران : «لا يخرج حتى يحرم بالحج»،
وظاهرها التحريم، كما عن
الوسيلة والمهذّب والإصباح وموضع من النهاية والمبسوط،
وعزي إلى المشهور.
خلافاً للحلّي والشيخ في
التهذيب وموضع آخر من الكتابين
فيكره، وتبعهما الفاضلان هنا وفي التذكرة و
المنتهى وموضع من التحرير.
ولعلّه للأصل، وظاهر الصحيح في متمتّع يريد الخروج إلى
الطائف قال : «يهلّ بالحجّ من مكّة، وما أُحبّ أن يخرج منها إلاّ محرماً، ولا يجاوز الطائف إنها قريبة من مكّة».
فإنّ «لا أُحبّ» كالصريح في الكراهة، وأظهر دلالةً عليها مِن «ليس له» على
التحريم في الأخبار السابقة، مع أنه صريح في جواز الخروج بعد الإحرام قبل قضاء الحج.
ونحوه في ذلك صحيحان آخران، في أحدهما : رجل قضى متعته وعرضت له حاجة أراد أن يمضي إليها، قال : «فليغتسل وليهلّ بالإحرام بالحج وليمض في حاجته في حاجته، فإن لم يقدر على الرجوع إلى مكة مضى إلى
عرفات ».
وفي الثاني : «من دخل مكة متمتعاً في
أشهر الحج لم يكن له أن يخرج حتى يقضي الحج، فإن عرضت له حاجة إلى
عسفان أو إلى الطائف أو إلى ذات عرق خرج محرماً ودخل ملبّياً، فلا يزال على إحرامه، فإن رجع إلى مكة رجع محرماً ولم يقرب البيت حتى يخرج مع الناس إلى منى» الخبر.
وتلك الصحاح ظاهرة في المنع إلى أن يقضي الحج ويكمّله، ومقتضاه عدم
الاكتفاء بالخروج محرماً، فيصرف ظاهرها إلى صريح هذه، إلاّ أن يجمع بينهما بحمل القضاء في الصحاح على ما يعمّ الدخول في
الإحرام ، كما في الخبرين بعدها، لكنّهما قاصراً السند، ومع ذلك فيتعيّن تقييد إطلاقهما بحال الضرورة كما فصّلته الصحيحة الأخيرة، وحمل القضاء في الصحاح على ذلك في غاية البُعد.
بل الأظهر في الجمع بينهما أن يبقى القضاء فيها على حاله، ويقيد إطلاقها بصورة
الاختيار ، ويحمل الاكتفاء بالإحرام في هذه الصحاح على حال الضرورة وحصول الحاجة، كما هو مورد أكثرها، والمطلق منها يقبل التقييد بها، للصحيحة المفصّلة المتقدمة، وهي أوضح شاهد على هذا الجمع، حيث اشترط فيها في جواز الخروج ولو محرماً عروض الحاجة، وصرَّح قبله بالمنع عن الخروج حتى يقضي الحج ويكمّله، كالصحاح السابقة.
وقريب منها المرسل : «المتمتّع محتبس لا يخرج من مكّة حتّى يخرج إلى الحج، إلاّ أن يأبق غلامه أو تضلّ راحلته فيخرج محرماً، ولا يجاوز إلاّ على قدر ما لا يفوته عرفة».
وبالجملة : فمقتضى الجمع بين هذه الأخبار المعتبرة بعد ضمّ بعضها ببعض المنع عن الخروج عن مكّة اختياراً حتّى يقضي الحج ويكمّله، إلاّ مع الضرورة، فيخرج محرماً إلى ما يفوت معه عرفة، كما في المرسلة، ونحوها الأخبار المرخَّصة للخروج محرماً، لاختصاصها بالأماكن القريبة منها، بل اشترط ذلك في الصحيحة الأخيرة. وكلّ هذه الأخبار متّفقة في المنع مطلقاً أو من غير ضرورة من غير تفصيل فيها بين ما إذا خرج ودخل في الشهر الذي أُحرم فيه للعمرة أو غيره. فما ذكره الماتن هنا وفي
الشرائع ،
وتبعه الفاضل في القواعد وغيره،
من الجواز في الأول مطلقاً ولو من غير كراهة لقوله : (ولو خرج وعاد في شهره) الذي اعتمر فيه (فلا حرج) مطلقاً ولو من غير ضرورة.
منظور فيه؛ لمخالفته الأخبار المتقدّمة أجمع، مع عدم وضوح شاهد عليه عدا المُرسل : سأل
أبا جعفر عليه السلام في عشر من شوّال، فقال : إنّي أُريد أن أُفرد عمرة هذا الشهر، فقال : «أنت مرتهن بالحج» فقال له الرجل : إنّ المدينة منزلي، ومكّة منزلي، ولي بينهما أهل، وبينهما أموال، فقال : «أنت مرتهن بالحج» فقال له الرجل : فإنّ لي ضياعاً حول مكّة وأُريد الخروج إليها؟! فقال : «تخرج حلالاً وترجع حلالاً إلى الحج».
وإطلاقه بجواز الدخول حلالاً وإن شمل ما لو دخل في غير الشهر الذي اعتمر فيه، إلاّ أنّه لمّا علم بالدليل أنّه لا بدّ من الإحرام إذا مضى شهر قيّد بما إذا دخل في الشهر. وعليه ينص الموثّق كالصحيح : عن المتمتّع يجيء فيقضي متعته ثمّ يبدو له الحاجة فيخرج إلى
المدينة وإلى ذات عِرق وإلى بعض المعادن، قال : «يرجع إلى مكّة بعُمرة إن كان في غير الشهر الذي تمتّع فيه؛ لأن لكل شهر عمرة، وهو مرتهن بالحج».
والمرُسل
والرضوي
: «إذا أراد المتمتّع الخروج من مكّة إلى بعض المواضع فليس له ذلك؛ لأنّه مرتبط بالحج حتّى يقضيه، إلاّ أن يعلم أنّه لا يفوته الحج، وإن علم وخرج وعاد في الشهر الذي خرج فيه دخل مكّة محلاًّ، وإن دخلها في غير ذلك الشهر دخل محرماً». ونحوهما الصحيح الآتي.
وعلى هذا فيكون قوله عليه السلام: «ويرجع حلالاً» كناية عن وجوب الرجوع في الشهر الذي اعتمر فيه، ونهياً له عن
إفراد العمرة وإن سأل الرخصة فيه، وإنّما خصّ عليه السلام الرخصة له في ذلك بمورد السؤال الأخير دون الأول لكونه ممّا يمكن فيه الرجوع إلى مكّة في الشهر الذي اعتمر فيه، لقربه منها، وكونه في حواليها، دون مورد الأول، لكونه بين مكّة والمدينة، ويبعد فيه ذلك غايته. ويؤيّده ما قيل من أنّ الظاهر أنّ المنع عن الخروج لارتباط العمرة بالحج واتصالها به من غير تخلّل عمرة أُخرى بينهما، فإذا لم يفتقر إليه لم يمنع عنه.
وفيه نظر، أمّا أوّلاً : فلضعف (سند) المرسل من وجوه. وأمّا ثانياً : فلاختصاصه كالأخبار بعده على تقدير دلالتها على
الرخصة في الخروج من غير إحرام بحال الضرورة أو صُورة العلم بأنّه لا يفوته الحج، وشيء منهما غير مذكور في العبارة، بل ظاهرها جواز الخروج في الصورة المفروضة فيها ولو مع الاختيار وعدم العلم بالرجوع إلى مكّة في الشهر الذي أُحرم فيه.
وبالجملة : فهذه الأخبار وما قبلها الواردة بالجواز كلّها مختصة بحال الضرورة، عدا الرضوي وما طابقه، فإنهما مطلقان، لكن ينبغي تقييدهما بالضرورة ، للصحيحة المفصّلة المتقدمة. ومع ذلك صحاحها مشترطة في الخروج معها الإحرام ، وظاهر أكثرها التحريم من دونه. إلاّ ما تضمّن منها لفظه الكراهة في الخروج من دونه تصرفها عن ظاهرها إلى الجواز مع الكراهة ؛ لأنها صريحة أو كالصريحة في الجواز من غير إحرام لكن مع الكراهة ، وبها تجبر المرسلة المتقدمة المجوّزة للخروج في الضرورة ، فما ذكره الماتن لا بأس به إلاّ أنه ينبغي تقييده بحال الضرورة.
والقول بأن الظاهر أن المنع عن الخروج لارتباط العمرة بالحج واتصالها به من غير تخلّل عمرة أُخرى بينهما إلى آخره ، لا يمنع تقييد الجواز بالضرورة والكراهة بعد ما دلّت عليهما الأخبار المعتبرة ، وربما كان الوجه في اعتبارهما
احتمال أن لا يمكنه بعد الخروج العود إلى مكة.
وممّا ذكر يظهر تطرّق النظر أيضاً في إطلاق ما ذكره الماتن بقوله : ( وكذا ) لا حرج ( لو أُحرم بالحج وخرج بحيث إذا أزف ) وقرب ( الوقوف عد إلى عرفات ) بل ينبغي تقييده بحال الضرورة ؛ لما عرفت من اتفاق الأخبار كلّها بعد ضمّ بعضها إلى بعض على اعتبارها. وبالجملة : فالذي يظهر من الجمع بين الأخبار المنع عن الخروج اختياراً مطلقاً ، وجوازه إلى ما لا يفوت معه الوقوف بعرفة مع
الكراهة من غير إحرام ، وبدونها معه.
وإطلاقها كالعبارة والفتاوي يعمّ صورتي كون العمرة المتمتع بها إلى الحج واجبة أو مندوبة، ولذا قال جماعة بأن في هذه الأخبار دلالةً على وجوب إتمام المندوب بالشروع فيه.
أقول : مضافاً إلى قوله سبحانه (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ) الآية.
(ولو خرج لا كذلك) بأن خرج غير محرم بالحج ،
(وعاد في غير الشهر) الذي اعتمر فيه (جدّد عمرة) أُخرى (وجوباً) لما مضى من الأخبار؛ مضافاً إلى الصحيح : فإن جهل فخرج إلى المدينة أو إلى نحوها بغير إحرام، ثم رجع في إبّان الحج في أشهر الحج يريد الحج، فيدخلها محرماً أو بغير إحرام؟ فقال : «إن رجع في شهره دخل مكة من غير إحرام، وإن دخل في غير الشهر دخل محرماً» - قلت : - فأي الإحرامين والمتعتين متعة، الأُولى أو الأخيرة؟ قال : «الأخيرة وهي عمرته وهي المحتبس بها التي وصلت بحجته».
ومنه يظهر المستند في قوله : (ويتمتع بالأخيرة دون الاولى) مضافاً إلى عدم الخلاف فيه ولا في سابقه وإن اختلفوا في حصول
الإثم بالخروج في الجملة، أو مطلقاً، أو عدمه مع الكراهة أو بدونها، والمختار ما قدّمنا. وفي
احتياج العمرة الأُولى حيث صارت مبتولة إلى
طواف النساء وعمده وجهان. أحوطهما الأول وإن كان الثاني بظاهر إطلاق النص والفتاوي أوفق، مضافاً إلى الأصل، وعدم دليل صالح على وجوبه هنا عدا
الإطلاق ، والمتبادر منه العمرة المبتولة
ابتداءً ، لا المنقلبة إليها قهراً شرعاً.
وحيث خرج ودخل في الشهر الذي اعتمر فيه فلا ريب في جواز الدخول من غير إحرام؛ لما عرفت من الأخبار المستفيضة (بل في أكثرها
الأمر بالدخول إلى مكة محلاًّ) وظاهرها الوجوب، لكن في الموثق كالصحيح، المتقدم
بعد ما مرّ : قلت : فإنه دخل في الشهر الذي خرج فيه؟ قال عليه السلام : «كان أبي عليه السلام مجاوراً هاهنا فخرج يتلقّى بعض هؤلاء، فلمّا رجع بلغ ذات عرق، أحرم من ذات عرق بالحج ودخل وهو محرم بالحج». وظاهره جواز الإحرام بالحج من غير مكة، وباستحبابه صرّح جماعة، منهم الفاضل في المنتهى و
التذكرة ،
والشهيد في
الدروس كما قيل،
لكن ظاهره التردد فيه كالمنتهى، وفيه بعد الفتوى بالاستحباب ونقل الرواية : هذا قول الشيخ واستدلاله، وفيه إشكال، إذ قد بيّنّا أنه لا يجوز إحرام الحج للمتمتع إلاّ بمكة.
أقول : مضافاً إلى عدم بلوغه قوة المعارضة للأخبار في المسألة الظاهرة في الوجوب كما عرفته، مع أنه متضمن نقل فعل عنه عليه السلام، وهو يحتمل وجوهاً منها التقية، كما ربما يشعر به سياقها، كما لا يخفى على من تأمّله وتدبّره. فإذاً المتوجه عدم الجواز.
رياض المسائل، ج۷، ص۲۱۶- ۲۲۳.