الخمر
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
لتصفح عناوين مشابهة، انظر
الأطعمة والأشربة (توضيح) .
وهو الذي يبعد العقل عن الواقع ويخفيه.
سمّيت خمراً؛ لأنّها تخمر العقل وتستره، أو لأنّها تركت حتّى أدركت واختمرت، أو لأنّها تخامر العقل، أي تخالطه.
وهي ما أسكر من
عصير العنب ،
وربّما تطلق على غيره من الأنبذة المسكرة.
والكلام في أحكامها ضمن العناوين التالية:
يحرم شرب الخمر،
بلا
خلاف فيه بين
المسلمين ،
بل هو من ضروريّات دينهم على وجه يدخل مستحلّه في الكافرين.
ويدلّ عليه من الكتاب قوله تعالى: «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ»،
وهي تدلّ على التحريم من عدّة وجوه ذكرها بعض الفقهاء.
وقد يستدلّ عليه بثلاث آيات اخر أيضاً،
وهي قوله تعالى: «وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً»،
وقوله تعالى: «قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَفْعِهِمَا»،
وقوله: «لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى».
ونسب إلى
السيّد المرتضى وجماعة
الاستدلال أيضاً بقوله تعالى: «قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ»
بناءً على أنّ المراد بالإثم الخمر.
وأمّا الأخبار فهي كثيرة جدّاً قد تبلغ حدّ التواتر
:
منها: ما روي عن
النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: «كلّ مسكر خمر، وكلّ مسكر حرام».
ومنها: عنه صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً أنّه قال: «كلّ شراب أسكر فهو خمر».
ومنها: ما عن
جابر ، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: «ما أسكر كثيره فقليله حرام»،
وغير ذلك.
انقلاب الخمر خلّاً إمّا أن يكون بنفسه أو بعلاج، فإن انقلب من قبل نفسه وبلا علاج حلّ شربه
بلا خلاف،
بل عليه
الإجماع .
ودليله عموم أدلّة حلّ الخلّ،
وأنّ الأحكام تابعة للأسماء حلّاً وحرمة وطهارة ونجاسة، والتحريم إنّما تعلّق بما هو خمر،
وأمّا ما انقلب خلّاً فقد خرج من أن يكون خمراً.
مضافاً إلى الأخبار المستفيضة من
الصحاح وغيرها الصريحة في ذلك
:
منها: ما رواه
عبيد بن زرارة عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام أنّه قال: «إذا تحوّل عن اسم الخمر فلا بأس به».
وإن انقلب الخمر خلّاً بعلاج فالمشهور بين الفقهاء حلّ شربه أيضاً،
ونفى
الشهيد الثاني عنه
الخلاف في الجملة،
بل ادّعى بعض الفقهاء عليه
الإجماع .
وتدلّ عليه الأخبار، وهي على طائفتين:
ما دلّ على حلّيتها بالتبدّل بالانقلاب مطلقاً، كصحيحة
عليّ بن جعفر عن
أخيه : عن الخمر يكون أوّله خمراً، ثمّ يصير خلّاً، قال: «إذا ذهب سكره فلا بأس».
وموثّقة عبيد عن أبي عبد اللَّه عليه السلام في الرجل إذا باع عصيراً فحبسه السلطان حتّى صار خمراً، فجعله صاحبه خلّاً؟
فقال عليه السلام: «إذا تحوّل عن اسم الخمر فلا بأس به».
ما دلّ على حلّيتها إذا انقلبت بالعلاج، نحو ما رواه
أبو بصير عن
أبي عبد الله عليه السلام في الخمر تعالج بالملح وغيره لتحوّل خلّاً؟ قال: «لا بأس بمعالجتها».
وما رواه
ابن المهتدي ، قال: كتبت إلى
الرضا عليه السلام: جعلت فداك، العصير يصير خمراً، فيصبّ عليه الخلّ وشيء يغيّره حتّى يصير خلّاً، قال: «لا بأس به».
وحسنة
زرارة عن
الإمام الصادق عليه السلام، قال: سألته عن الخمر العتيقة تجعل خلّاً، قال: «لا بأس».
وفي قبال ذلك توجد بعض الأخبار الظاهرة في عدم الحلّ في صورة العلاج كموثّقة أبي بصير، قال: سئل عن الخمر يجعل فيها الخلّ؟ فقال: «لا، إلّاما جاء من قبل نفسه».
وموثّقته الاخرى: عن الخمر يصنع فيها الشيء حتّى تحمّض؟ قال عليه السلام: «إن كان الذي صنع فيها هو الغالب على ما صنع فلا بأس به».
وقد حمل بعض الفقهاء هذه الأخبار على الكراهة.
ثمّ إنّ للعلاج عدّة حالات:
كما لو عالجها بالتدخين، أو مجاورة شيء، ونحو ذلك، وفي هذه الصورة ادّعى
المحقّق النراقي ظهور عدم الخلاف في الحلّية؛ لصدق الاسم وعموم أكثر الأخبار.
العلاج بشيء يدخل في الخمر فيستهلك فيه كالملح القليل ونحوه، وفي هذه الصور المشهور أنّه يحلّ؛
لعموم بعض الأخبار وخصوص بعضها الآخر، حيث إنّ المصبوب فيها ينقلب إلى الخمر أوّلًا غالباً، ثمّ المجموع ينقلب خلّاً.
واستشكل
المحقّق الأردبيلي في ذلك بأنّ المصبوب قد تنجّس بنجاسة عارضية بالخمر، ولا دليل على ارتفاع النجاسة العارضية.
واجيب عنه بأنّه لم ينجس بعد انقلابه إليها من جهتين: الذاتية والعرضية؛ لأنّ النجاسة الخمرية أمر واحد.
وفي هذه الصورة اختار جماعة من الفقهاء حلّيته،
بل نسب إلى المشهور ذلك،
بل ظاهر بعضهم
الإجماع عليه.
لكنّ
الشهيد الثاني استوجه القول بعدم الحلّ، واستدلّ عليه بأنّ الشيء المعالج به قد تنجّس ولا مطهّر له، وإنّما يطهر الخمر بالانقلاب، وهو غير متحقّق في ذلك الجسم الموضوع فيها.
واجيب عنه بإمكان اغتفار ذلك كما في الآنية؛ نظراً إلى عموم الأدلّة.
وذكر المحقّق الأردبيلي منشأً آخر للإشكال في الطهارة والحلّ مع العلاج بما له جسم يبقى، وهو اختصاص الأدلّة بما لا يبقى، مثل الخلّ لقرينة ذكره.
وفي هذه الحالة ذهب بعض الفقهاء إلى أنّه لم يطهر بالانقلاب.
وقد بنى بعضهم ذلك على تضاعف النجاسة، وأنّ النجاسات العينية قابلة للاشتداد،
وما دلّ على طهارة الخمر وحلّها بالانقلاب ظاهر في الخمر التي كانت حرمتها ونجاستها أصلية، لا ما إذا مازجها متنجّس ومحرّم آخر.
واستدلّ له أيضاً
باستصحاب النجاسة بعد عدم الدليل على الطهارة؛ لاختصاص النصوص بالخمر.
واختار بعضهم الحلّية والطهارة، مجيباً عن تضاعف النجاسة، أوّلًا: بأنّ الخمر من النجاسات العينية، وهي غير قابلة للتنجيس ثانياً، وإنّما نجاستها هي النجاسة الخمرية.
وثانياً: بأنّا حتى إذا قلنا بتنجس الخمر بالملاقاة نقول هنا بالطهارة والحلّ؛
لإطلاق النصوص حيث دلّت على طهارة الخلّ المنقلب من الخمر مطلقاً؛ وذلك لأنّ مقتضى إطلاق ما دلّ على جواز أخذ الخمر للتخليل عدم الفرق بين أخذها من يد
المسلم أو
الكافر الذي لا يتحفّظ عليها من سائر النجاسات.
ثمّ إنّه إذا مزج الخمر بالخلّ، فتارة يتحقّق ذلك بصبّ الخلّ الكثير في الخمر القليل، واخرى بالعكس، فهنا مسألتان:
الاولى: ما لو صبّ خمر قليل على الخلّ الكثير بحيث استهلك فيه، فقد اختار
الإسكافي والشيخ الحلّ إذا صار ذلك الخمر خلّاً،
واشترط الشيخ عزل مقدار من الخمر لمعرفة الانقلاب،
بينما اكتفى الإسكافي بمضيّ المدّة اللازمة لحصول الانقلاب.
ونفى عنه العلّامة البعد في المختلف، وقال في بيان وجهه: «ونجاسة الخلّ تابعة للخمرية، وقد زالت، فتزول النجاسة عنه كما في الخمر إذا انقلبت».
واستوجهه
الشهيد الثاني ، وذكر أنّ المسألة داخلة في العلاج، فلو جوّزناه وحكمنا بطهارته مع بقاء العين المعالج بها فلابدّ من الحكم بالطهارة في المسألة؛ لأنّ الخلّ لا يقصر عن تلك الأعيان المعالج بها، إلّاأنّ إثبات الحكم بالنصّ لا يخلو من إشكال.
وكذا ستوجهه
السبزواري والفاضل الهندي فيما إذا كان للخلّ مدخلية في الانقلاب لدخوله في مطلق العلاج.
واجيب عنه بأنّ المتبادر من العلاج بقاء الخمر على خمريّتها، ووضع فيها ما يعالجها، ويقلّبها بالخلّ مع قلّة ما يعالج به، وعدم جعل ما يعالج به إيّاها من جنسه في الحال، فإنّ ذلك ما يفهم من العلاج؛ إذ لا يقال لذلك: إنّه جعله خلّاً بعلاج، ومثل ذلك لا يفهم من الروايات وإن قلنا بفهم طهارة الخمر بالعلاج منها مع بقاء ما يعالج به.
ثمّ إنّ الشيخ حمل قول
أبي عبد اللَّه عليه السلام في رواية
أبي بصير : «لا بأس إذا لم يجعل فيها ما يقلبها»
على ما إذا جعل فيه ما يغلب عليه، فيظنّ أنّه خلّ ولا يكون كذلك، مثل القليل من الخمر يطرح عليه كثير من الخلّ، فإنّه يصير بطعم الخلّ، فلو كان كذلك لم يجز استعماله.
لكنّ
المحقّق الآبي ذكر أنّ في التأويل تعسّفاً مع بعده عن المذهب،
واستبعده الفاضل المقداد أيضاً.
وقال
الشهيد الأوّل : «ولو حَمَل (
الشيخ الطوسي ) ذلك على النهي عن العلاج- كما رواه- استغنى عن التأويل».
وفي قبال ذلك ذهب كثير من الفقهاء إلى التحريم والنجاسة،
حتّى نسبه السبزواري في
الكفاية إلى أنّه المشهور بين المتأخّرين،
بل استظهر
العاملي من بعضهم دعوى
الإجماع عليه.
ويمكن أن يستدلّ له بأنّ الخلّ صار نجساً بوقوع الخمر فيه، ولا دليل على طهارته بعد ذلك ولا إجماع،
مضافاً إلى استدلال بعضهم
بإطلاق روايتي
أبي بصير في اشتراطهما عدم غلبة المعالج به في نفي البأس عن العلاج، ومفهومه ثبوت البأس مع عدم تحقّق الشرط، لكنّ
النراقي منع الاستدلال بهما.
المسألة الثانية: وهي ما لو صُبّ خلّ قليل على خمر كثير، فقد نسب إلى الشيخ القول بالحلّية والطهارة،
ومال إليه
الأردبيلي وغيره؛
لإمكان دخوله في مطلق العلاج، ولخبر
عبد العزيز المتقدّم.
واستوجهه
الفاضل الهندي إلّاإذا لم يكن للخلّ مدخلية في الانقلاب.
هذا، ولكن اختار العلّامة القول بعدم الحلّ،
وهو المنسوب إلى الأشهر.
قال
المحقّق النجفي : «فلا يطهر ولا يحلّ بمجرّد الاستهلاك من دون انقلاب واستحالة قطعاً، بل وإجماعاً... استصحاباً لحكم الخمر ونجاسة الخلّ به».
ويظهر من السيّد في
الانتصار أنّه مذهب الإماميّة.
وهو ظاهر كلّ من قال بعدم جواز استعمال الخلّ لو وقع فيه شيء من الخمر إلّا أن يصير الخمر خلّاً.
الموسوعة الفقهية، ج۱۴، ص۱۳۸-۱۴۵.