حقيقة الإجارة
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
تعرّض
الفقهاء لحقيقة
الإجارة عند بحثهم عن تعريفها، وقد ذكروا لها تعاريف مختلفة على ما سيأتي قريباً.
وإنّما نشأ اختلاف تعابيرهم في تعريفها من الاختلاف في حقيقة الإجارة وماهيّتها، والمقصود هنا تشخيص ما هو المنشأ الاعتباري في موارد
عقد الإجارة.
ومن المعلوم أنّه بحث ثبوتي غير مربوط باستعمال مادة الإجارة وبلغةٍ دون لغة،
بل يرد حتى في
الإجارة المعاطاتية التي لا لفظ فيها ولا استعمال أصلًا، فيقع الكلام في جهتين:
مفاد الإجارة هل هو تمليك
المنفعة أم لا؟
ذكر المشهور أنّ حقيقة الإجارة تمليك منفعة بعوض،
وليس المراد من التمليك ما هو فعل الواحد بل التمليك العقدي
الذي يكون في طول الإيجاب والقبول.
وهذا هو الموضوع للآثار من الصحة واللزوم ونحو ذلك، فلا حاجة إلى العدول من ذلك إلى تعريف الإجارة ب «أنّها عقد ثمرته نقل المنافع بعوض».
وفي قبال ذلك أنكر بعض المحقّقين أن تكون حقيقة الإجارة التمليك؛ للاستشكال في إمكان تخريجها على القواعد، ولعدم معقوليّة ملك المنفعة، أو غير ذلك، وعرّفها بعضهم بأنّها عبارة عن جعل العين بالاجرة وهي اضافة خاصة بين العين الموجرة والمستأجرة في قبال إضافة الملكية.
وآخر بأنّها تمليك العين في جهة خاصة في قبال البيع الذي هو تمليك من جميع الجهات من دون تقييدها بجهة خاصة.
وثالث بأنّها تسليط على العين لغرض
الانتفاع في مدة مخصوصة.
وذكروا في وجه المناقشة على تمليك المنفعة وجوهاً:
أنّ الإجارة إن كانت بمعنى تمليك المنفعة لاقتضى ذلك صحة اضافتها إلى المنفعة، فيقال: (آجرتك منفعة الدار) مع أنّها لا تضاف إلّا إلى الأعيان، وتتعلق بالعين التي لها منفعة، وبذلك امتازت عن أكثر العقود
كالبيع والصلح وغيرهما. فإنّ هذه المفاهيم قائمة بموضوعاتها وتقتضي
التصرف فيها، بخلاف الإجارة فإنّها قائمة بذي المنفعة وتقتضي التصرف في المنفعة لا العين، فلو بني على حصول تمليك المنفعة في الإجارة فليس هو عين الإجارة بل مسبب عنها وأثر لها، فالمناسب حينئذٍ أن يقال: إنّها جعل العين موضوعاً للأجر بنحو يقتضي تمليك المنفعة لا أنّها عين تمليك المنفعة.
واجيب أوّلًا: أنّ هذا خلط بين مجالين:
مجال المنشأ المعاملي في باب الإجارة ثبوتاً، وأنّه تمليك المنفعة أو التسليط على العين، وهذا هو البحث عن حقيقة الإجارة ثبوتاً كعقد من العقود من دون اختصاص بلغة دون لغة. والآخر هو البحث عن مدلول مادة الإجارة في اللغة العربية، وأنّه هل يكون بمعنى
التمليك أم بمعنى آخر؟
وأنّه كيف يضاف إلى العين فيقال: آجرتك الدار؟ وهذا بحث لغوي لا دخل له في تشخيص حقيقة عقد الإجارة.
وثانياً: أنّ تمليك المنفعة يكون من خلال تعلّقه بالعين، فإنّا لا ندّعي أنّ مفهوم الإجارة هو التمليك المطلق بل حصة خاصة منه، وهي المتعلّقة بالمنفعة، فالتقييد بها مأخوذ في مادة الإجارة، وما هذا شأنه لا مناص من تعلّقه بالعين فكأنّه قبل تمليك منفعة العين.
أنّ المنفعة غير قابلة للمملوكية، إمّا لأنّها معدومة حال الإجارة والمعدوم لا يملك،
وإمّا لأنّ النفع والانتفاع حيثية قائمة بالمستأجر، فلا يكون ملكاً للموجر حتى يمكن تمليكه له، فالإجارة عبارة عن تمليك العين في جهة خاصة.
واجيب: بأنّ المراد من المنفعة الفائدة الموجودة في العين المستأجرة، وهي حيثية قائمة بها كما سيأتي في حقيقة المنفعة، وتلك الفائدة لها وجود خارجي بوجود منشأ انتزاعه؛ إذ فرق بين الدار الصالحة للانتفاع والدار غير الصالحة خارجاً، فالمنفعة قابلة للملكية ثبوتاً.
على أنّه لا يشترط الوجود الخارجي في تعلّق الملكية التي هي أمر اعتباري، ومن هنا صح ملكية
المال في الذمة الذي لا وجود له خارجي وإنّما وجوده اعتباري.
أنّ المنفعة وإن كان يعقل مملوكيتها ثبوتاً إلّا أنّ الارتكاز العقلائي يأبى عن ذلك إثباتاً بشهادة أنّهم لا يجعلون بازاء المنافع ملكية مستقلة عن الأعيان، فلا يكون للمالك مالان، أحدهما العين الخارجية والآخر منفعتها، فليس في البيع إلّا تمليكاً واحداً للعين، وأمّا تملّك منافعها فهما من أحكام وآثار ملكية العين بالتبع، وحينئذٍ فتارة المالك ينقل ملكية العين إلى الغير وهذا هو البيع، واخرى ينقل سلطنته على
الانتفاع بالعين إلى الغير وهذا هو الإجارة. فهي عبارة عن التسليط على العين من أجل الانتفاع.
واجيب أوّلًا: بأنّه لا ينبغي الإشكال في لحاظ ملكيّة المنفعة عند العقلاء مستقلًا، وعدم جعلها عرفاً في عرض ملكية الرقبة، لا يقتضي أنّ المنفعة لا تجعل لها الملكية حينما يراد تفكيكها عن الرقبة في التمليك؛ لعدم الحاجة مع جعل ملكية الرقبة- بلا قيد فيها- إلى جعل ملكية اخرى للمنفعة في عرضها. وهذا بخلاف ما إذا اريد التفكيك بينهما في طرف المالكية.
وثانياً: أنّ تعريفها بالتسليط على العين من أجل الانتفاع لا يصدق في الإجارة على عمل الحرّ، كما أنّه يشمل موارد الإذن بالتصرف بشرط العوض مع أنّه ليس إجارة جزماً.
وبهذا يعرف أنّه لا وجه
للانتقال في تعريف الإجارة وتبيين حقيقتها من التعبير بالتمليك إلى غيره. هذا مضافاً إلى أنّه يرد على القول بالتسليط أنّه إن كان المراد من التسليط
الاستيفاء الخارجي فهذا من الامور التكوينية التي قد تتحقق وقد لا تتحقق كما إذا غصب العين المستأجرة غاصب، فلا معنى لأن يكون مضمون العقد أمراً تكوينياً كما هو واضح.
وان كان المراد السلطنة الاعتبارية بمعنى
إعطاء السلطنة على المنفعة فقط لا السلطنة المطلقة فهذا عبارة اخرى عن تمليك المنفعة بناءً على تعريف الملكية بالسلطنة.
وإن اريد من السلطنة الاعتبارية إعطاء السلطنة بمعنى
الجواز التكليفي أو
الجواز الوضعي بمعنى صحة التصرّفات فالسلطنة بأحد هذين المعنيين حكم عقلائي أو أثر شرعي،
وليس ممّا يعتبره المتعاقدان.
نعم، قد ينشئان موضوعه، وهو
الإذن والرضا بالتصرّف، إلّا أنّ هذا غير المنشأ في باب الإجارة؛ لأنّها من العقود العهدية التي فيها نقل ملك أو حق إلى الغير، فلا بد وأن يكون التسليط في الإجارة بمعنى السلطنة على المنفعة بمعنى تمليكها، فيرجع إلى التعريف الأوّل.
مفاد عقد الإيجار حق عيني أو شخصي
:
ربّما اعتبر الفقه الوضعي الإجارة من عقود الإدارة لا التصرّف والنقل، بمعنى أنّ الالتزام والحق الحاصل بها ليس حقّاً عينيّاً والتزاماً بنقل ملكية شيءٍ من المؤجر إلى المستأجر كما في البيع، بل حق شخصي والتزام من قبل المؤجر للمستأجر يتعهّد بموجبه أن يمكّن المستأجر من الانتفاع بالعين مدّة معيّنة بأجر معلوم، فيكون متعلّق الحق والالتزام شخص المؤجر بأداء عمل أو تقديم العين للانتفاع بها،
وليس فيها تمليك ولا تملّك لا للعين ولا للمنفعة، فيكون نظير عقد
الكفالة والضمان بمعنى
العهدة لا
الذمة .
هذا، ولكن الظاهر من مشهور الفقهاء أنّ الالتزام الناشئ من عقد الإيجار عينيّ لا شخصيّ، أي تمليك للمنفعة أو العمل للمستأجر لا حق المستأجر على المؤجر بأداء خدمة إليه.
وعلى ذلك عدّة منبّهات في باب إجارة الأعيان:
۱- بناءً على كون الحق عينيّاً يملك المستأجر منفعة العين فيمكنه أن ينقلها إلى شخص ثالث بايجار آخر بلا إشكال لو لم يكن قد اشترط عليه
المباشرة في الانتفاع، بل ادعى ابن زهرة وغيره الإجماع على ذلك.
بخلاف ما إذا قلنا بأنّ الحقّ شخصيّ فإنّ الحقّ الشخصي متقوّم بالشخص وبتغيّر الطرف يتغيّر الحق، فلا يجوز نقلها إلى غيره.
۲- بناءً على كون الحق الناشئ عينيّاً وهو ملك المنفعة لو فرض أنّ المؤجر أو غيره منع العين عن المستأجر مدّة من الزمن، فإنّه عندئذٍ يكون الضمان للمستأجر على القاعدة.
وهذا بخلافه على القول بأنّ الحقّ الناشئ يكون شخصيّاً، فإنّه لا بدّ من القول
ببطلان الإجارة ورجوع اجرة المسمّى لا ضمان
اجرة المثل وقيمة المنفعة، إلّا إذا قلنا: إنّ تفويت نفس الحق الشخصي موجب للضمان، وهو لا يطابق المرتكزات العقلائية.
۳- بناءً على كون الحق التزاماً شخصيّاً أمكن للموجر أن يؤجر العين ثانية لغير المستأجر الأوّل فيما إذا كان قادراً على إرضائه.
والوجه في ذلك: أنّه لا يشترط في صحّة التعهّدات الشخصية أكثر من القدرة على أداء ذلك الفعل خارجاً، مع أنّ الارتكاز العرفي والعقلائي يرى بطلان الإجارة الثانية إذا صحّت الاولى، ولم يجز للمستأجر الإجارة الثانية، وليس هذا إلّا من أجل أنّ الإيجار نقل ملكيّة المنفعة فإذا ملّكها بعقد الإيجار للغير فلا موضوع لإيجار العين ثانياً.
هذا في باب الإيجار على الأعيان.
فما يذكره الفقه الوضعي معقول في نفسه، إلّا أنّ الفقهاء لم يفرّقوا بين إيجار الأعيان والإيجار على الأعمال فجعلوا الإيجار على العمل أيضاً راجعاً إلى التمليك الذي هو حق عيني،
كما قال
العلامة في اجارة الآدمي: «يملك المنفعة بنفس العقد كما تملك الاجرة به».
هذا، ولكن ربّما يوجد في كلماتهم ما لا يوافق كون الحق الحاصل في باب الإيجار على الأعمال حقّاً عينيّاً، ومن ذلك:
۱-
فتوى المشهور- على ما سيأتي-
بانفساخ الإجارة إذا لم يقم
الأجير بالعمل على النحو المقرّر، مع أنّه بناءً على القول بحصول الحق العيني للمستأجر يلزم أن يستحق المستأجر أن يطالب بقيمة العمل؛ لأنّ الأجير فوّت عليه مالًا مملوكاً له فتشمله أدلّة الضمان.
ونسب
السيد العاملي القول بالانفساخ إلى
المفيد والشيخ وسلّار وأبي الصلاح وابن حمزة والمحقق في النافع.
وقال
السيد الخوئي : «هو المعروف بين الفقهاء ظاهراً».
۲- ذهب أكثر الفقهاء
إلى عدم استحقاق
الحرّ الاجرة فيما لو استؤجر لعمل معيّن من غير تعيين المدّة فمنعه المؤجر عن العمل كما لو اعتقله ولم يستعمله في العمل، نظراً إلى أنّ منافع الحرّ تضمن بالاستيفاء لا بالفوات، وهذا قد يناسب مع القول بكون الإجارة على العمل التزاماً بالعمل أي حقاً شخصياً. فلو كان مفاد الإيجار حقّاً عينيّاً فقد يقال بلزوم
ضمان المستأجر للأجير فيما إذا قصد
الوفاء بالإجارة، كما يلزم الضمان فيما إذا سلّم المؤجر العين وامتنع المستأجر من قبضها، ومن هنا قيل
: إنّ حقيقة إجارة الحرّ نفسه هي التزام العمل في ذمته لا تمليك المنافع نظراً إلى أنّ المنافع، معدومة وليست تابعة لعين مملوكة.
الموسوعة الفقهية، ج۴، ص۱۰-۱۶.