أخذ الأجرة على الواجبات
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
صرّح قدماء الفقهاء
بحرمة أخذ
الاجرة على تغسيل الأموات وتجهيزهم وتعليم المعارف وتنفيذ الأحكام ونحو ذلك، قال
الشيخ : «أخذ الاجرة على غسل الأموات وحملهم ومواراتهم
حرام ؛ لأنّ ذلك فرض على الكفاية».
والموارد المذكورة في هذه العبارة كلها من
الواجبات الكفائية ، إلّا أنّ المحقق
والعلّامة
اعتبرا أنّ أخذ الاجرة على ما يجب فعله مطلقاً من المكاسب المحرمة وإن مثّلوا له بتغسيل الموتى
وتكفينهم ونحو ذلك.
فالمستفاد من كلمات الفقهاء حرمة أخذ الاجرة على جميع الواجبات لوجوبها والزامها شرعاً، وهو المنسوب إلى قدماء الأصحاب.
وقد ظهر بعد ذلك اتجاه آخر ذهب إليه بعض الفقهاء فصّل بين الواجب العيني فلا يجوز أخذ الاجرة عليه مطلقاً
والواجب الكفائي فيجوز إذا كان توصّلياً ولا يجوز إذا كان عبادياً، قال
فخر المحققين : «إنّ الوجوب إن كان عينياً امتنع أخذ الاجرة على الواجب تعليماً كان أو غيره، وإن كان كفائياً واريد الفعل على وجه القربة لم يجز أخذ الاجرة على الفعل كالصلاة على الجنازة، وإن كان كفائياً ولم يرد على وجه القربة جاز أخذ الاجرة عليه إلّا ما نصّ الشارع على تحريمه كأُجرة
الدفن ».
وخالفه
المحقق الكركي فذهب إلى عدم جواز أخذ الاجرة مطلقاً، نظراً إلى أنّ الوجوب مانع عن أخذ الاجرة سواء كان
تعبّدياً أو
توصّلياً حتى ادعى أنّه صريح كلام الفقهاء، وتبعه عليه الشهيدان،
بل قال
المحقق الأردبيلي : «كأنّ الإجماع دليله»،
وقال
الطباطبائي : «عليه الإجماع في كلام جماعة، وهو الحجة».
وانطلاقاً من التفصيل الذي أثاره الفخر صار الفقهاء بعد ذلك بصدد إقامة الدليل على حرمة أخذ الاجرة على الواجبات وحاولوا تطبيقه على القواعد، إلّا أنّهم استشكلوا فيه من جهة فقد أحد شروط الإجارة أو أكثر كذهاب المالية أو الملكية أو القدرة على التسليم، فوقع البحث في أنّ الوجوب أو العبادية هل يوجبان الخلل في بعض أركان الإجارة أم لا، بعد الفراغ عن تمامية الجهات والشروط المعتبرة شرعاً في عقد الإجارة لو لا الوجوب، كوجود نفعٍ فيها للمستأجر وتعلّق غرضٍ عقلائي بها ونحو ذلك.
ثمّ إنّه بناءً على الحرمة، وقع إشكال مشهور بينهم وهو أنّه لما ذا إذاً يجوز أخذ الاجرة على الواجبات النظامية- أي التي يتوقف عليها حفظ النظام- مع أنّها واجبات كفائية أيضاً؟ فذكروا للتفصّي عن هذا الإشكال وجوهاً مختلفة يأتي ذكرها.
كما اختلفت الأقوال بين المتأخّرين فصرّح جماعة بالجواز في بعض أقسام الواجب كالواجبات الكفائية،
وصرّح بعض
بالجواز في الكفائي التوصّلي، والمنع في الكفائي التعبّدي والعيني. وفصّل
الشيخ الأنصاري في الواجبات العينيّة التخييرية بين التوصّلي منها وبين غيرها، فيجوز أخذ الاجرة في الاولى بعد فرض اشتمالها على نفعٍ محلّل للمستأجر؛ لأنّه عمل محترم لا يجبر المكلّف على فعله.
ولا يجوز في التخييري التعبّدي؛ لمنافاة ذلك مع قصد القربة، ولا في الواجبات التعيينية على المكلّف؛ لعدم وصول عوض المال إلى باذله.
وفي قبال ذلك ذهب
المحقق النجفي إلى جواز أخذ الاجرة على الواجبات مطلقاً، حتى أنّه ادعى عدم منافاة ذلك؛ لتصريح بعضهم عدم جواز أخذ الاجرة، بل حكاية
الإجماع عليه، ولعلّه لظهور الأدلّة في وجوب هذه الأعمال مجاناً لا لأجل المنافاة بين صفة الوجوب والعوض. وتبعه عليه جملة من الفقهاء
لكن السيد اليزدي ذهب في
العروة الوثقى إلى المنع.
ويمكن استخلاص الأقوال من مجموع عبارات الفقهاء فيما يلي:
۱- عدم الجواز مطلقاً كما هو ظاهر القدماء.
۲- الجواز مطلقاً كما عن المحقق النجفي ومن تبعه.
۳- التفصيل إمّا بين العيني والكفائي،
وفي الكفائي بين التعبّدي منه والتوصّلي،
وإمّا بين التعييني والتخييري،
وفي التخييري بين التعبّدي منه والتوصّلي.
ومع هذا الاختلاف لا يمكن دعوى وجود الإجماع في المسألة كما صرّح به الشيخ الأنصاري حيث قال: «إنّ الإجماع لم يصرّح به إلّا
المحقق الثاني ، لكنه موهون بوجود القول بخلافه من أعيان الأصحاب». ثمّ اعترض عليه فقال: «إنّ الفخر أعرف بنص الأصحاب من المحقق الثاني، فهذا ووالده قد صرّح في المختلف بجواز أخذ الأجر على القضاء إذا لم يتعيّن، وقبله المحقق في
الشرائع ، غير أنّه قيّد صورة عدم التعيين بالحاجة، ولأجل ذلك اختار
العلامة الطباطبائي في مصابيحه ما اختاره
فخر الدين من التفصيل».
هذا مضافاً إلى أنّ الإجماع المذكور ليس تعبّدياً، بل من المحتمل جداً استناده إلى أحد الوجوه المقرّرة في المسألة والنصوص الواردة في موارد خاصة.
ثمّ إنّه لا يخفى أنّ محل النزاع في المقام ما إذا لم يثبت من الخارج بناء العمل على صدوره على صفة المجانية، فإن ثبت فلا إشكال في عدم جواز أخذ الاجرة عليه
كما في أداء
الشهادة والقضاء وتجهيز الميت من غسله وتكفينه لما يعلم من بعض الروايات وغيرها أنّ ذلك من حقوق المؤمن على أخيه قد اعتبرها الشارع مجاناً والغى ماليتها بلا فرق في ذلك بين الواجب والمستحب.
استند المانعون لجواز أخذ الاجرة على الواجبات تارة إلى منافاة ذلك مع الوجوب واخرى إلى منافاته مع التعبّدية
وقصد القربة :
وقد ذكر لتقريب ذلك عدّة وجوه:
ما ذكره
الشيخ الأنصاري من أنّ عمل
المسلم وإن كانت له مالية إلّا أنّه لا يكون محترماً لو كان متعيّناً وواجباً، حيث لا يكون أداؤه منوطاً برضاه بل أداؤه واجب عليه، فهو مقهور على فعله، وليس لإذنه دخل فيه، ومع عدم احترامه فلا
ضمان له؛ لأنّ الضمان يقع على العمل المحترم.
واجيب عنه: بأنّ لمال المسلم حيثيتين من الاحترام:
إحداهما: حيثية إضافته إلى المسلم، وهذه الحيثية لا بد من احترامها بأن لا يتصرف فيها أحد بغير إذنه ورضاه.
ثانيتهما: حيثية ماليته، فإنّ مقتضى حرمتها هو عدم ذهابها هدراً وبلا تدارك لها، والملاك في عدم الاحترام الرافع للضمان هو الثاني لا الأوّل أي ارتفاع المالية لا عدم كونه منوطاً باذنه، ومن هنا يتعيّن الضمان على من جاز له أكل مال الغير بدون إذنه
كالمضطر ، وكذا لا ضمان فيما لا مالية له وإن لم يجز أخذه بدون إذن مالكه
كالإناء المكسور
والخمر ،
فالإيجاب والمقهورية على الفعل لا يتنافيان مع بقاء الشيء على احترامه وماليته وصحة استئجاره.
ما هو تفسير آخر لكلام الشيخ الأنصاري قدس سره في المقام من أنّ العمل إذا كان واجباً على الأجير جاز مطالبته بل والزامه واجباره بايقاعه ولو من غير رضاه حتى قبل وقوعه مورداً للإجارة لفرض وجوبه عليه شرعاً، ومعه كيف تصح الإجارة وما هي فائدتها والأثر المترتّب عليها من هذه الجهة لكي يعتبر المستأجر مالكاً للعمل؟
واجيب بأنّ حق الاجبار من الأوّل وإن كان ثابتاً فيما إذا كان العمل واجباً عيناً وتعييناً إلّا أنّه حكم شرعي من باب الأمر بالمعروف ثابت لعامة المكلّفين لدى استجماع الشرائط لا حق شخصي من باب المطالبة بالملك القابل لعرضه على المحاكم الشرعية والقانونية، فالمطالبة بما أنّه مالك لا بما أنّه أمر بالمعروف لا تثبت إلّا بالإجارة.
ما ذكره الشيخ
كاشف الغطاء وتبعه الشيخ الأنصاري أيضاً من أنّ إيجاب العمل يستلزم صيرورته ملكاً للَّه ومما يستحقه عليه، فيخرج حينئذٍ بذلك عن ملك العامل، ولا يمكن تمليك المملوك للغير بالإجارة إلّا باذنه.
ومما يشهد له عدم ترتّب آثار ملك العمل من
الإبراء والإقالة والتأجيل على المستأجر عليه، فيكشف ذلك عن عدم الملك.
واجيب عنه: بأنّه إن اريد من ملكيته سبحانه الزامه التكليفي بالعمل واستحقاق العقاب على مخالفته، فمنافاته مع التمليك الوضعي من شخص آخر بحيث تكون له المطالبة بما أنّه مالك أوّل الدعوى بل واضح العدم.
وإن اريد به الملكية الاعتبارية فمن الواضح أنّ مجرد ايجاب فعل تكليفاً لا يلازم ذلك، ومن هنا لم يستشكل أحد من الفقهاء في جواز جعل الواجب شرطاً في ضمن العقد والزام المشروط عليه بالوفاء به، فلا تنافي بين الوجوب والمملوكية للغير.
وأمّا ما استشهد به فجوابه أنّ عدم زوال آثار الوجوب التكليفي لا ينافي زوال آثاره الناشئة من عقد الإجارة، والإقالة توجب انتفاء وجوب
الوفاء بالإجارة لا وجوب العمل في نفسه تكليفاً، وكذلك بالنسبة للإبراء
والتأجيل ، فلا مانع من صحة الإجارة وترتّب هذه اللوازم من حيث الإجارة لا من حيث وجوبه التكليفي.
ما ذكره
المحقق النائيني من أنّ الايجاب والمقهورية ينافي السلطنة على الفعل والترك فلا يكون المكلّف قادراً ومسلّطاً عليه شرعاً؛ لأنّ القدرة متقوّمة بالطرفين على حدّ سواء، فكما أنّ التحريم الشرعي سالب لها من ناحية الفعل ومن ثمّ لا تصح الإجارة على المحرمات كذلك الإيجاب الشرعي سالب لها من ناحية الترك، فلا تصح الإجارة على الواجبات أيضاً بعين المناط، فإذا كان الأجير مسلوب القدرة والسلطنة على التصرف فلا جرم كانت الإجارة باطلة لاشتراط السلطنة وملك التصرّف شرعاً في صحة المعاملة.
واجيب بأنّه إن اريد من القدرة على التصرف السلطنة الوضعية بمعنى عدم المحجورية فمن الواضح أنّ هذا سلطنة وضعية لا ينافي ثبوتها مع الوجوب التكليفي.
وإن اريد بها القدرة على الفعل والترك عقلًا وشرعاً بمعنى تساوي الطرفين، فهذا بالنسبة للقدرة العقلية التكوينية شرط من جهة أنّه إذا لم يتمكن عقلًا من الفعل والترك بطلت الإجارة؛ لعدم اعتبار الملكية العقلائية بالاضافة إلى غير المقدر عقلًا.
وأمّا بالنسبة للقدرة الشرعية فلم ينهض أي دليل على اعتبارها بمعنى تساوي الطرفين في صحة الإجارة.
نعم قيل
ببطلان الإجارة على فعل الحرام شرعاً لعجزه عن التسليم حينئذٍ، وهذا غير جارٍ في الفعل الواجب؛ لقدرة المستأجر شرعاً على تسليمه، بل الأمر والوجوب يؤكد التسليم والإتيان به خارجاً لا أنّه يمنع عنه.
ما نسب إلى بعض المحققين من لغوية بذل
العوض على ما يتعيّن على الأجير فعله، فتكون المعاملة سفهية أو أكلًا للمال بالباطل.
واجيب عنه: بأنّ تعيّن العمل إذا كان مساوقاً للتعيين بصدوره منه لزمت لغوية بذل العوض على فعله، لكن التعيّن الشرعي الذي يمكن تخلّف الأجير عنه لا يوجب لغوية البذل للإتيان بأصله أو التعجيل في الإتيان به.
أنّ الإيجاب ينبعث عن فائدة تعود على من تجب عليه الاجرة، وأخذ الاجرة- لمن تعود فائدتها إليه- أكل للمال بالباطل؛ لاجتماع العوضين في ملك شخص واحد.
واجيب عنه: أنّه قد يفرض وجود نفع للمستأجر أيضاً وإن كان لا يشترط في صحة الإجارة عودته عليه خاصة، بل قد يعود النفع على أجنبي، كما لو آجره ليخيط ثوب الغير، أو على الأجير نفسه، فإنّ صلاة الشخص عن نفسه الظهر مثلًا يمكن أن يكون متعلّقاً لغرض المستأجر؛ إذ لا أقل من أن يكون اللَّه تعالى مطاعاً ولا تقع تلك
المعصية خارجاً، بل أنّ للمستأجر ثواب التسبيب على فعل الخير والثواب وأنّه من
الإعانة على البرّ والتقوى، فإنّه لا يجب في متعلّق الإجارة إلّا كونه متعلّقاً لغرض عقلائي، ولا يشترط أن تكون المنفعة دنيوية فقط أو عائدة إلى نفس المستأجر، ولذا يصح الاستئجار على بناء المساجد والمدارس والقناطر.
هذا، ولكن
المحقق الإيرواني ناقش في ذلك فقال: «إنّ المعتبر في صحة الإجارة هو نفع يوجب تموّل العمل وحصول
الاستيلاء عليه ودخوله تحت السلطان لا النفع المترتّب على فعل الشخص بما أنّه تسبيب إلى البرّ والتقوى، فإنّ هذا نفع فعله ونفع تسبيبه لا نفع فعل للغير عاد إليه بإزاء ما بذله من المال له. وأمّا الأعمال في موارد الأمثلة فهي من قبيل ما ذكرناه أعمال ذوات منافع وداخلة لمكان منافعها تحت السلطان وكانت تملك بالعوض، ولذا صح الاستئجار عليها... (فللمستأجر) أن يستوفيها وله أن يطلق الأجير مجاناً..
بخلاف إتيان الشخص بواجب نفسه الذي لا يعود منه نفع إلى الغير؛ فانّه لا يتملّك ولا يدخل تحت السلطان».
فكأنّه يرى أنّ هذا المقدار من النفع لا يكفي لحصول المالية أو السلطنة والملكية للعمل الواجب التعييني العيني.
ثمّ إنّ الوجوه السابقة على فرض صحتها لا تقتضي أكثر من البطلان في مورد تعلّق الإجارة بنفس ما تعلّق به الوجوب كما هو الظاهر من محطّ أنظار الفقهاء لدى حكمهم بالبطلان.
أمّا إذا وقع الإيجار على نحوٍ يحصل التغاير بين متعلّق الوجوب ومتعلّق الإجارة فلا مانع من أخذ الاجرة عليه حينئذٍ من دون أن ينسحب إليه شيء من وجوه المنع المتقدمة؛ لعدم كون متعلّق الإجارة ضرورياً ولا متعيّناً على الأجير.
قال
السيد الخوئي : «وعلى تقدير التنازل وتسليم دلالة شيء منها أو جميعها أو الاذعان بقيام
الإجماع التعبّدي فإنّه يستقيم البطلان فيما إذا كان العمل المستأجر عليه واجباً تعييناً على الأجير، فلا مانع من صحة الإيجار المتعلّق بأحد الفردين فيما إذا كان الواجب تخييرياً؛ لوضوح تغاير المتعلّقين، فإنّ الواجب إنّما هو الجامع بين الفردين ومورد الإجارة خصوص أحدهما
المباح اختياره للمكلّف، فلم يكن من أخذ الاجرة على الواجب ولا ينسحب إليه شيء من وجوه المنع المتقدمة كما لا يخفى.
كما لا مانع من صحته فيما إذا كان الواجب كفائياً؛ لأنّ موضوع الوجوب إنّما هو طبيعي المكلّف- كما أنّ متعلّقه هو الطبيعي في الواجب التخييري- لا خصوص هذا الفرد. ومن ثمّ يسقط التكليف بامتثال واحد وإن أثم الكلّ بترك الجميع فالشخص بما هو شخص لا يجب عليه شيء، فلا مانع له من أخذ الاجرة، كما لا مانع من صحته أيضاً في الواجب العيني التعييني فيما إذا كانت له أفراد طولية أو عرضية وقد وقعت الإجارة على اختيار صنف خاص منها؛ لما عرفت من تعلّق الوجوب بالجامع وكون المكلّف مخيّراً في التطبيق على أي منها شاء بالتخيير العقلي لا الشرعي، والمفروض تعلّق الإجارة بحصة خاصة فحصل التغاير بين المتعلّقين ولم يجتمعا في مورد واحد، فينحصر الإشكال بما إذا كان الواجب عينيّاً تعينياً وكان متعلّق الإجارة هو متعلّق الوجوب على سعته أو بما إذا لم يكن له فرد إلّا ما تعلّقت به الإجارة، وهذا نادر التحقق جداً بل هو نادر في نادر».
إلّا أنّ بعض الفقهاء فرّق بين الوجه القائل بعدم الجواز من جهة ملكية اللَّه سبحانه للواجب أو من جهة عدم القدرة شرعاً والمقهورية على الفعل المانع عن صحة الإجارة، فعلى الأوّل لا فرق بين تعلّق الإجارة بالطبيعي الواجب أو بفرده لوقوع الفرد مصداقاً للواجب ومملوكاً للَّه تعالى، فلا يمكن أن يقع متعلّقاً للإجارة.
وعلى الثاني يصح تعلّق الإجارة به لكونه بما هو فرد غير مقهور عليه وإن كان الجامع مقهوراً عليه.
كما أنّ بعضهم فصّل بين تعلّق الإجارة بالخصوصية أي تخصيص الجامع والطبيعي الواجب بتلك الخصوصية وبين تعلّقها بالمتخصّص، فتصح في الأوّل دون الثاني؛ لكونها متعلّقة ضمناً بالجامع في ضمن المتخصّص وهو واجب فتبطل.
ذكروا أنّ أخذ الاجرة منافٍ مع قصد القربة والعبادية؛ نظراً إلى اقتضاء الحيثية العبادية الانبعاث عن الأمر الالهي بداعي الامتثال بنيّة خالصة، والإتيان بداعي تحصيل الاجرة ينافي داعي القربة والانبعاث عن ذلك الأمر على سبيل الاستقلال، فلا يقع العمل عبادة فتبطل الإجارة عليها وهذا المانع لا فرق فيه بين
الواجب والمستحب العباديّين، وإن ذهب بعضهم إلى الفرق بينها.
وقد اجيب عنه تارة: بمنع الصغرى؛ لتملّك الأجير الاجرة واستحقاقه لها وللتصرّف فيها بالعقد من دون مدخلية لصدور العمل خارجاً في ذلك، فلا يكون الداعي في إيجاد العمل والباعث على الإتيان به استحقاق الاجرة لثبوته في رتبة سابقة، وإنّما الداعي هو وجوب
الوفاء بالإجارة شرعاً، أو عدم أخذ الحرام ودفع مال الغير إليه، وهذه كلّها دواعٍ إلهية لا دنيوية فلا تنافي العبادية بل تؤكّدها.
فالعبادة الواقعة مورداً للإجارة تعرضها صفة الوجوب لو لم تكن واجبة في نفسها، وإلّا فيتأكّد وجوبها التعبدي بالأمر الإجاري من دون أن ينافيها.
نعم لتوهّم المنافاة مجال فيما إذا لوحظت الاجرة على سبيل
الجعالة ؛ حيث إنّ الجعالة لا توجب العمل على العامل ولا تملّك الجعل قبل العمل.
واخرى: بأنّه حتى إذا فرضنا توقّف الملك على العمل خارجاً كما في الجعالة مع ذلك لا وجه للبطلان لتعلّق العقد بما يكون عبادة في الرتبة السابقة، فيكون قصد التملّك للُاجرة من قبيل الداعي على الداعي القربي، وهو لا ينافي العبادية والقربية. وتفصيل ذلك متروك إلى محلّه.
استثنى القائلون
- ببطلان الإجارة على
الواجبات العينية أو
الكفائية - عدّة موارد:
====الواجبات النظامية====
وهي التي تجب بملاك حفظ النظام كالحِرف والصناعات، فيجوز أخذ الاجرة عليها حينئذٍ
إجماعاً ،
علاوة على وجوبها الكفائي أيضاً، بل قد تكون واجبة عيناً لو انحصر الأمر بها.
وقد ذكر في وجه الجواز بأنّها واجبة بالعرض وباعتبار توقّف بقاء النظام ومعايش العباد عليها، إلّا أنّ هذا الوجوب لا يمنع عن أخذ الاجرة؛ لأنّ النظام لا يتوقّف على تلك الأعمال بقيد المجانية،
بل قد يكون على العكس من ذلك يتوقّف حفظ النظام وادارة معايش الناس على حفظ حرمة تلك الأعمال وحصول التكسّب بها من قبل الناس، فمثل هذا الإيجاب العرفي لا ينافي صحة الإجارة بل يؤكدها.
====أجرة الوصي والمرضعة====
لا خلاف في حلّية أخذ الوصي
للعوض إزاء تولّيه لأموال الطفل والام المرضعة عوضاً عن
إرضاع ولدها، وألحقوا بذلك جواز أخذ العوض إزاء بذل المال إلى المضطر مع أنّ ذلك من الواجبات وإن لم يكن من الإجارة، والجواز في هذه الموارد حكم شرعي قد ثبت بالنص والإجماع، فيجوز أخذ العوض بمقدار الحاجة والكفاية أو أخذ اجرة مثل عمله.
أو يكون ذلك من قبيل الواجبات النظامية التي يجتمع وجوبها مع العوض،
أو يتعدّد متعلّق الوجوب مع الإجارة؛ بأن لا يكون العمل واجباً عليه بالمباشرة، بل يجوز له أن يستأجر عليه من يقوم به، فلا مانع من أخذ الاجرة حينئذٍ مع المباشرة، ويكون أخذها على وجه المعاوضة
.
لكنه نوقش بأنّ الظاهر من عبارات الفقهاء أنّ جواز أخذ المال للإجماع والنصوص هو من باب التعبّد ولو بداعي الإتيان بالواجب لا من باب المعاوضة، وهو لا يتناسب مع حكمهم بأنّ له اجرة مثل عمله الذي هو مقتضى
المعاوضة .
هذا مضافاً إلى أنّ النص والإجماع إنّما يجريان إذا كانت الشبهة في استحقاق العوض وعدمه لا في منافاة أخذ العوض عقلًا؛ لوجوب العمل.
وحينئذٍ فلا يمكن دفع الإشكال في الموارد المزبورة إلّا بانكار منافاة الوجوب لأخذ الاجرة
كما أشار إليه
المحقق النجفي حيث قال: «جواز أخذ الام الاجرة على إرضاع الولد اللّبَأ مع وجوبه عليها كاستحقاق أخذ العوض عمّا يدفعه للمضطر من المال، وما يأخذه الوصي عوضاً عن عمله أوضح شاهد على عدم منافاة صفة الوجوب للتكسّب، بل هو مقتضى القواعد والضوابط، جمعاً بين ما دلّ على وجوب بذل المال أو العمل، وبين ما دلّ على احترام القاضي بضمانهما إذا فرض عدم ظهور دليل الوجوب في المجانية؛ إذ كما أنّ الإذن الشرعية في الأموال والأنفس لا تنافي
الضمان كذلك الأمر الشرعي بدفع المال أو العمل لا ينافي الضمان، فالمتجه حينئذٍ القول بعدم المنافاة ذاتاً. نعم لو حصل مانع خارجي كالجمع بين العوض والمعوّض... اتجه المنع».
الموسوعة الفقهية، ج۴، ص۲۸۳-۲۹۴.