إبراء الغاصب
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
ولتفصيل أكثر انظر
الإبراء (توضيح).
وهو إبراء ذمة الغاصب الذي كان له العامل الاقوى والأهم من سائر العوامل في حدوث النقص والتلف بالنسبة الى غيره.
لا خلاف ولا إشكال بين الفقهاء في ضمان الغاصب كل نقص أو تلف على الغير، ينشأ من تصرّفه العدواني في العين التي
اغتصبها ، شريطة أن يكون هذا التصرف هو العامل الأقوى والأهم من سائر العوامل في حدوث النقص أو تحقق التلف بالنسبة إلى غيره أو بالنسبة إلى مال غيره، فلو حفر- مثلًا- بئراً في الأرض التي اغتصبها ولم يأذن المالك بحفرها ولا رضي بالحفر بعد إتمامه فهو ضامن في مثل هذا الفرض لكل من يتردّى في البئر بنفسه جاهلًا بها، ولكل بهيمة تسقط فيها، ومعنى ضمانه هو أنّ هذا التردّي والسقوط سوف يكون في عهدته وهو مسئول عنه بحيث يجب عليه دفع الدية أو البدل على تقدير الجرح والنقص أو تحقق الهلاك والتلف.
والمسألة هنا ذات فرضين:
أنّ الغاصب لو لم يطمّ البئر لكن المالك صرّح بابرائه من هذا الضمان بأن قال له مثلًا: أبرأتك من ضمان ما يتعلّق بحفرك للبئر... أو ما شابهه من التعابير رغم كون الحفر وكذلك بقاء البئر عدوانياً بمعنى أنّه لم يأذن به ابتداءً ولا رضي به بعده ولا ببقاء البئر ولا أنّه نهى الغاصب عن طمّها فهل يصحّ هذا
الإبراء ... بحيث يترتب عليه خروج التردّي والسقوط في البئر- في المثال المذكور- عن عهدة الغاصب وسقوط
الضمان عنه وبراءة ذمّته، فلا يجب عليه دفع شيء على تقدير حصول التردّي وورود النقص أو التلف على المتردّي والساقط، أم لا يصحّ الإبراء ولا يسقط بموجبه الضمان عن الغاصب ولا تبرأ ذمّته؟
أنّه لو لم يصرّح المالك بالابراء لكنه رضي ببقاء البئر- في المثال- في أرضه أو نهى الغاصب عن طمّها رغم كون الحفر عدوانياً في بادئ الأمر، فهل أنّ ذلك مقتضٍ ومساوق للابراء- يعني سقوط الضمان المذكور عن
الغاصب - أم ليس كذلك بل يبقى الغاصب ضامناً؟
ومن الواضح أنّه لا تلازم بين الفرضين من حيث الحكم؛ إذ أنّ لكل من الحكمين في كل من الفرضين نكاته وخصوصياته كما سوف نعرف ذلك من خلال البحث إن شاء اللَّه تعالى. فلنتكلم عن الفرضين تباعاً.
أمّا الفرض الأوّل- أي فرض التصريح بالابراء- فلم نعثر على من تعرّض لحكمه صريحاً من الفقهاء سوى
الشيخ الطوسي والقاضي ابن البرّاج وابن حمزة والعلّامة الحلّي في بعض كتبه،
والمحقّق النجفي حيث ذهب الثلاثة الأوائل إلى صحّة
الإبراء وسقوط الضمان عن الغاصب بموجبه، واستشكل الرابع فيها، وأمّا الخامس فقد يظهر منه الذهاب إلى عدم الصحّة أو الميل إليه على الأقلّ.
قال الشيخ الطوسي: «إن أبرأه المالك من ضمان ما يتعلّق به من هذه البئر، فهل يبرأ أم لا؟ قيل فيه وجهان:
أحدهما: لا يبرأ؛ لأنّه إبراء عمّا لا يجب؛ لأنّ معناه ضمان ما يقع فيها، ولأنّه إبراء عمّا يستحقّ الغير.
والآخر: أنّه يصحّ
الإبراء ، وهو الصحيح؛ لأنّ الغاصب إنّما جنى بالحفر، والحفر نقص حصل على المالك، فإذا أبرأه منه كان سقوط
الضمان عنه فيما يقع فيها تبعاً لحفره وإزالة الضمان عنه بالتعدّي، فكأنّه حفرها ابتداءً بأمره، فسقط الضمان عنه تبعاً للأصل».
وقال القاضي ابن البرّاج: «فإن حفر البئر في غير ملكه بغير إذن المالك... فإن أبرأه المالك... زال الضمان عنه».
وقال ابن حمزة: «وإن حفر بغير إذنه وأبرأه المالك فكذلك (أي لم يضمن) وإن لم يبرئه ضمن».
وقال العلّامة الحلّي: «فلو حفر بئراً في ملك انسان أو وضع فيه ما يتعلّق به الضمان، فأبرأه المالك من ضمان ما يتلف به ففي الصحّة إشكال، ينشأ من أنّ المالك لو أذن فيه ابتداءً لم يضمن، ومن أنّ حصول الضمان لتعدّيه بالحفر، والإبراء لا يزيله؛ لأنّ الماضي لا يمكن تغيّره عن الصفة التي وقع عليها، ولأنّ الضمان ليس حقّاً للمالك فلا يصحّ الإبراء منه، ولأنّه إبراء ممّا لم يجب فلم يصحّ».
وقال
المحقّق النجفي : «القول بعدم البراءة لو صرّح بالابراء لا يخلو من وجهٍ».
نعم، هناك من الفقهاء من قد يظهر من عبارته صحّة
الإبراء وسقوط الضمان به، أو قد تشعر بذلك على الأقل،
كابن إدريس والعلّامة الحلّي في بعض كتبه
والشهيد الأوّل .
قال
العلّامة الحلّي بعد نقله لعبارة
الشيخ الطوسي المتقدمة: «وقال ابن إدريس: لو حفر بئراً اجبر على طمّها،
وللغاصب ذلك وإن كره مالك الأرض؛ لما في تركه من الضرر عليه بضمان ما يتردّى فيها، هكذا ذكره بعض أصحابنا، والأولى عندي أنّ صاحب الأرض إذا رضي بعد حفره بالحفر ومنعه من الطمّ فله المنع، ولا يكون الحافر ضامناً لما يقع فيها؛ لأنّ صاحب الأرض قد رضي، فكأنّه أمره بحفرها ابتداءً. وما قوّاه ابن إدريس جيّد، فإنّ الضمان يزول وإن لم يُبرئه المالك إذا منعه من الطمّ».
وظاهره أنّ زوال الضمان وسقوطه عن الغاصب لا يتوقف على الإبراء ولا ينحصر طريقه به، بل يحصل بالمنع عن الطمّ أيضاً، وهذا يعني أنّ الإبراء أيضاً يزيل الضمان ويسقطه.
وقال الشهيد الأوّل: «ولو حفر فيها بئراً فله طمّها حذراً من الضمان بالتردّي، ولو نهاه المالك لم يطمّ، ولا ضمان عليه، وقال الشيخ: يضمن ما لم يبرأه المالك».
وظاهره أنّ خلافه مع الشيخ الطوسي إنّما هو في انحصار طريق سقوط الضمان عن الغاصب بابراء المالك، حيث إنّ الشيخ الطوسي يحصره به ولا يرى سقوطه بالنهي عن الطمّ، بينما هو يرى سقوطه بالنهي عن الطمّ أيضاً، أمّا سقوطه بالابراء فهو مفروغ عنه عنده.
بل قد يكون هذا- أعني أنّ سقوط الضمان عن الغاصب ودفعه ليس بحاجة إلى التصريح بالابراء بعد الفراغ عن سقوطه بالابراء- هو مقصود الفقهاء الذين لم يتعرّضوا لحكم التصريح بالابراء، وإنّما اقتصروا على بيان حكم رضا المالك ببقاء البئر مثلًا أو نهيه عن طمّها
كالمحقق الحلّي والشهيد الثاني وغيرهما- كما يأتي البحث عنه- فحكموا بسقوطه عنه برضى المالك بالبقاء، أو بالنهي عن الطمّ، فارغين عن سقوطه عنه بالابراء.
وعلى كل حال فكما لاحظنا يوجد في هذا الفرض وجهان، بل لعلّه قولان:
صحّة
الإبراء وسقوط الضمان عن الغاصب به.
ودليله ما تقدّم في كلام
الشيخ الطوسي وهو: أنّ أصل هذا
الضمان - أي ضمان التردّي والسقوط في البئر- وأساسه هو كون الحفر عدوانياً- أي بدون أمر المالك وإذنه- منذ البداية، فضمان من يتردّى في البئر وما يسقط فيها إنّما هو فرع لهذا الأصل وناشئ من الحفر العدواني والنقص غير المأذون فيه الذي ورد على مال المالك، ولذا لا يثبت هذا الضمان في ما إذا كان الحفر منذ البداية بأمر المالك وإذنه، إذاً فضمان الغاصب للتردّي تابع لثبوت أصله وهو ضمانه للمالك الثابت بالتعدّي والحفر العدواني، فاذا أبرأه منه المالك سقط فرعه أيضاً، وكان المالك ضامناً للتردّي.
عدم الصحّة، فلا يسقط ضمان التردي عن الغاصب بالابراء.
ودليله:
أنّه إبراء عمّا لم يجب ولم يثبت بعدُ؛ إذ لم يتحقق التردّي والسقوط بعدُ، كما هو المفروض.
أنّه إبراء عمّا لا يستحقه
المبرئ ؛ إذ الضمان هنا ليس حقاً للمالك كي يُبرئ الغاصب منه، بل هو حق للمتردّي والساقط في البئر على من كان سبباً لتردّيه، فلا معنى لابرائه الغاصب حتى إذا صحّ إبراء ما لم يجب.
ما تقدّم في كلام العلّامة الحلّي أيضاً من أنّ الضمان هنا وإن كان فرعاً وتابعاً للحفر العدواني والتعدّي الصادر من
الغاصب منذ البداية، فالأصل في هذا الضمان هو التعدّي الماضي، لكن حيث إنّ هذا التعدّي أمر قد وقع، والواقع لا يتغيّر ولا ينقلب عمّا وقع عليه، إذاً فلا يمكن للابراء الآن أن يزيل التعدّي السابق ويغيّر الماضي عن الصفة التي وقع عليها، بل لا يزال التعدّي ثابتاً، ولا يزال الحفر العدواني السابق حفراً عدوانياً، وبتبعه لا يزال الضمان باقياً لا يسقط عن الغاصب.
وهذه الوجوه الثلاثة إنّما تصح فيما إذا كان المقصود من
الإبراء في المقام معناه الحقيقي، أي إسقاط حق ثابت في ذمّة الغير، وأمّا إذا اريد به أنّ المالك رضي بما قام به الغاصب من التصرف العدواني في ملكه بقاءً، فيكون حال هذا الفرض حال الفرض القادم من أنّ الحفر يستند بقاءً إلى المالك، فيكون هو الضامن للمتردّي فيه، لا الحافر حيث يرتفع بالابراء موضوع ضمان الغاصب للغير.
ولا يتجه عليه شيء من الوجوه الثلاثة؛ إذ لا يراد بابراء الغاصب
إسقاط حق في ذمته للغير حتى يقال: إنّه لم يجب بعد أو أنّه لثالث وهو المتردي لا للمالك.
كما أنّه لا يتم ما ذكره
العلّامة الحلّي من أنّ سبب الضمان الواقع سابقاً وهو الحفر العدواني لا يتغير عمّا وقع عليه بالابراء؛ فإنّ السبب على ما سيأتي في الفرض القادم إنّما هو بقاء الحفر عند التردّي وهو مستند بالابراء إلى المالك لا الحافر.
إلّا أنّ هذا التوجيه للابراء قد لا يرتضيه
الشيخ الطوسي ؛ لأنّه سيأتي منه في الفرض القادم القول بعدم سقوط ضمان التردّي عن الغاصب.
اللهمّ إلّا إذا قيل بأنّ الاستناد إلى المالك بالابراء أوضح وأجلى من مجرد رضى المالك بالحفر؛ لأنّه قد يرضى بالحفر من ناحية التصرف العدواني في ملكه دون ضمان ما ينشأ منه بالنسبة للمتردّي، بخلاف ما إذا صرّح بابراء الغاصب عمّا يضمنه بسبب الحفر العدواني، فإنّه صريح في قبوله للسببيّة.
هذا كلّه في الفرض الأوّل للمسألة أي فرض تصريح المالك بإبراء الغاصب من ضمان ما يتعلّق بتصرّفه العدواني كحفر البئر مثلًا.
وأمّا الفرض الثاني لها- وهو فرض رضاه ببقاء ذلك التصرّف، كما إذا رضي ببقاء البئر أو نهى عن طمّها رغم أنّه لم يكن راضياً بحفرها ابتداءً- فهل أنّ ذلك يقتضي إبراء الغاصب عن ضمان التردّي، وسقوط الضمان المذكور عنه وبراءة ذمّته أم لا يقتضي ذلك بل يبقى ضامناً للتردّي؟
في المسألة قولان:
عدم اقتضاء ذلك
للابراء والإسقاط ، وعدم سقوط ضمان التردّي عن الغاصب بموجبه.
وقد ذهب إليه
الشيخ الطوسي والسيد ابن زهرة والمحقّق النجفي .
قال الشيخ الطوسي: «إذا غصب أرضاً وحفر فيها بئراً... وإذا أراد الغاصب طمّ البئر كان له ذلك، رضي المالك أو لم يرض؛ لأنّه حفر في ملك غيره، فلا يأمن أن يقع فيه إنسان أو بهيمة، فيلزمه ضمانها، هذا إذا لم يبرئه المالك».
فإنّ فرض عدم رضى المالك بطمّ البئر مساوق لفرض رضاه ببقائها، ومع ذلك حكم الشيخ الطوسي بأنّه يلزم الغاصب ضمان التردّي والوقوع في البئر- إذا لم يطمّها ووقع فيها انسان أو بهيمة- ما لم يبرئه المالك من هذا الضمان.
وقال السيد ابن زهرة: «وكذا لو حفر بئراً اجبر على طمّها، وللغاصب ذلك وإن كره مالك الأرض؛ لما في تركه من الضرر عليه بضمان ما يتردّى فيها».
فإنّ فرض كراهة المالك للطمّ مساوق لفرض إرادته بقاء البئر ورضاه به، ومع ذلك حكم بأنّ الغاصب إذا ترك الطمّ فهو ضامن لما يتردّى فيها.
وقال
المحقّق النجفي : «ولو حفر الغاصب في الأرض بئراً مثلًا... وهل له طمّها مع كراهية المالك؟ قيل- والقائل الشيخ وابن زهرة فيما حكي عنهما-: نعم، نهاه المالك أم لم ينهه، رضي أم لم يرض، تحفّظاً من درك التردّي...» إلى أن قال: «وعليه يكون النزاع حينئذٍ معه (مع الشيخ الطوسي) في أنّ الرضى بالبقاء أو النهي عن الطمّ يقتضي
الإبراء ... أم لا يقتضي ذلك؛ لأنّه أعمّ، فيبقى الضمان
مستصحباً ؟ ولعلّ الأقوى فيه (أي في هذا النزاع) ما ذكره».
أي ما ذكره الشيخ الطوسي من بقاء الضمان، وأنّ الرضى ببقاء البئر لا يقتضي إسقاط ضمان التردّي عن
الغاصب ما لم يُبرئه المالك من هذا الضمان.
واستدلّ المحقّق النجفي على ذلك بأدلّة يمكن تلخيصها فيما يلي:
أنّ الرضى ببقاء البئر أو النهي عن طمّها وعدم الرضى به أعمّ من إسقاط ضمان التردّي عن الغاصب، فلا ملازمة بين الأمرين؛ لوضوح أنّه قد يحبّ بقاء البئر- بعد أن حفرت- ولا يرضى بطمّها ولكنه مع ذلك غير مستعدّ لابراء الغاصب عن ضمان التردّي الناشئ من الحفر، ولا يرضى باسقاط هذا الضمان عنه، فكراهة الطمّ لا تنافي إرادة بقاء الضمان.
أنّ حفر البئر ابتداءً كان تصرّفاً عدوانياً وبدون إذن المالك وأمره، والتصرّف العدواني سبب شرعاً للضمان، والرضى المتأخر ببقاء البئر لا يدفع سببيّة ذاك التصرّف العدواني للضمان ما دام لا يمكنه- وهو متأخّر- أن يزيل هذه الصفة- أي العدوانية- عن ذاك التصرّف الماضي؛ إذ الماضي لا يمكن تغييره عن الصفة التي وقع عليها.
أنّ الرضا المتأخر ببقاء البئر حتى لو أمكنه أن يزيل صفة العدوانية عن التصرّف الماضي، لكنه لا يدفع سببيّة ذاك التصرّف للضمان شرعاً؛ لأنّ الضمان المسبّب عنه غير مشروط بأن يكون التصرّف عدوانياً، فإنّنا لا نسلّم باشتراط العدوان في ثبوت الضمان هنا؛ وذلك
لإطلاق الأدلّة.
اقتضاؤه
الإبراء والإسقاط ، فيسقط بموجبه ضمان التردّي عن الغاصب وتبرأ ذمّته.
وقد ذهب إليه
ابن إدريس والمحقق
والعلّامة الحلّي والشهيدان
والفاضل الهندي والمحقق الرشتي والسيّد
الإمام الخميني .
قال ابن إدريس: «والأولى عندي أنّ صاحب الأرض إذا رضي بعد حفره بالحفر ومنعه من الطمّ فله المنع، ولا يكون الحافر ضامناً لما يقع فيها؛ لأنّ صاحب الأرض قد رضي، فكأنّما أمره بحفرها ابتداءً».
وقال المحقق الحلّي: «والضمان يسقط عنه برضى المالك باستبقائها».
وقال العلّامة الحلّي: «ولو حفر بئراً في ملك غيره فرضي المالك سقط
الضمان عن الحافر».
وقال أيضاً: «إذا حفر بئراً فتردّى فيها إنسان... فإن كان الحفر عدواناً ضمن الحافر مثل أن يحفر في طريق مسلوك أو ملك غيره بغير اذنه، ولو أذن سقط الضمان عن الحافر، وكذا لو رضي بها بعد الحفر على العدوان».
وقال أيضاً- بعد نقل كلام ابن إدريس المتقدم-: «وما قوّاه ابن إدريس جيّد، فإنّ الضمان يزول وإن لم يبرئه المالك إذا منعه من الطمّ».
وقال
الشهيد الأوّل : «ولو نهاه المالك لم يطمّ ولا ضمان عليه».
وقال
الشهيد الثاني : «ودرك التردّي يزول بنهي المالك له عن طمّها؛ لسقوط العدوان بذلك».
وقال الفاضل الهندي: «ولو أذن سقط الضمان عن الحافر وكان كما لو حفرها المالك... وكذا لو رضي به المالك بعد الحفر على العدوان، فإنّ
الابقاء كالإحداث ».
وسيأتي نصّ عبارة
المحقق الرشتي بهذا الصدد.
وقال
السيّد الإمام الخميني : «ولو حفر في ملك غيره فرضي به المالك فالظاهر سقوط الضمان من الحافر».
بل إنّ المحقّق النجفي ذكر أنّ هذا القول هو المحكي عن
الشيخ الطوسي في
كتاب الديات من
المبسوط ، قال: «بل هو المحكي عنه في ديات المبسوط، قال: لو حفر بئراً عدواناً ثمّ إنّ المالك رضي ببقائها بعد الحفر العدواني سقط الضمان».
إلّا أنّنا لم نعثر على هذه العبارة في كتاب الديات من المبسوط، وإنّما الموجود فيه: «وأمّا إن حفرها في غير ملكه بغير إذن مالكها فالضمان على الحافر؛ لأنّه تعدّى بحفرها، فإن أبرأه المالك وقال: قد برئت ورضيتُ بحفرك وأقرّه عليه زال الضامن عنه، كما لو أمره بالحفر ابتداءً. وقال بعضهم: لا يزول الضمان؛ لأنّه أبرأه عن ضمان ما لم يجب، والأوّل أقوى».
وهذه العبارة ليست صريحة بل ولا ظاهرة فيما نقل المحقّق النجفي حكايته عن الشيخ الطوسي، وهو أنّ الرضى المتأخر ببقاء البئر- رغم كون الحفر عدوانياً- يقتضي
الإبراء وإسقاط الضمان عن
الغاصب ، إن لم ندّع صراحتها أو ظهورها على الأقلّ في الفرض الأوّل- أي التصريح بالابراء- الذي قلنا فيما سبق أنّ الشيخ الطوسي يقول فيه بصحّة الإبراء وسقوط ضمان التردّي عن الغاصب بموجبه، ولكن لا علاقة له بالفرض الثاني المبحوث عنه الآن.
وعلى كل حال فقد استدلّ القائلون بسقوط الضمان عن الغاصب بسبب رضى المالك ببقاء البئر، على قولهم بما يلي:
إن الرضا المتأخر ببقاء البئر كالأمر بحفرها ابتداءً. وبعبارة اخرى: إنّ الإبقاء كالإحداث، فكما لا ضمان في إحداث البئر من قبل المالك أو بأمره، كذلك في إبقائها من قبله.
وقد تقدّم هذا الاستدلال في كلام ابن إدريس والفاضل الهندي.
إنّ سبب الضمان هو العدوان، وقد سقط بالرضى بالبقاء أو النهي عن الطمّ.
وقد تقدّم هذا أيضاً في كلام
الشهيد الثاني .
ما ذكره
المحقق الرشتي واعتمد عليه في القول بسقوط ضمان التردّي عن الغاصب إذا رضي المالك ببقاء البئر أو منع عن طمّها، وبالامكان أن نعتبر ما قاله شرحاً وتخريجاً فنّياً لما قاله المتقدّمون عليه من أنّ الرضى بالبقاء كالأمر بالحفر ابتداءً، وأنّ الإبقاء
كالإحداث ، وأنّ العدوان يسقط بالرضى، وأمثالها من التعابير.
وتوضيح ما قاله: إنّ سبب ضمان التردّي والتلف الناشئ من التردّي إنّما هو بقاء الحفر على حاله واستمرار وجود البئر إلى لحظة التردّي، فإنّ العدوان إنّما يتحقق بذلك؛ لوضوح أنّ الوجود الأوّلي للبئر السابق على التردّي- مع قطع النظر عن وجودها الثانوي الذي استند إليه التردّي والتلف- ليس عدواناً عرفياً أو شرعياً على المتردّي، بل العدوان إنّما يتحقق مع بقائها واستمرارها، فإذا منع المالك عن طمّها استند بقاء البئر إليه لا إلى الغاصب الحافر؛ لأنّ تأثير العلّة المُبقية في
الأثر المترتب على بقاء الشيء واستمراره آكد من تأثير العلّة المحدثة في ذلك الأثر، فللبئر وجودات موزّعة على أزمنة وجودها، وتلف المتردّي مسبّب عن وجودها المقارن للتردّي لا عن وجودها السابق على التردّي.
فإن كان وجودها المقارن مستنداً إلى نفس من استند إليه وجودها السابق صحّت نسبة التردّي والتلف إليه، كما إذا أبقى الغاصب البئر إلى لحظة التردّي من دون أن يكون المالك قد منع عن طمّها أو رضي ببقائها، فهنا تصحّ نسبة تلف المتردّي إلى الغاصب.
أمّا إذا كان وجودها المقارن للتردّي مستنداً إلى شخص آخر غير من استند إليه وجودها السابق، فإنّ التردّي والتلف حينئذٍ يُسند إلى ذلك الشخص، ومن الواضح أنّ المنع عن طمّ البئر يوجب أن تستند وجودات البئر المتأخّرة عن زمان المنع- والتي من جملتها وجودها المقارن للتردّي- إلى المانع.
فإن كان المانع هو المالك كما هو المفروض استند إليه التردّي والتلف، ويكون كما إذا حفر المالك ابتداءً بئراً في ملكه وأبقاها إلى أن سقط فيها انسان فهلك أو تردّت فيها بهيمة فهلكت.
وإن كان المانع عن الطمّ غير المالك كما إذا منع شخص آخر الغاصب عن طمّ البئر وكان المنع بنحو
الإلجاء والإكراه استند إليه التردّي والتلف لا إلى الحافر.
والحاصل: أنّ الرضى ببقاء الحفر على حاله أو المنع عن الطمّ كالاذن في الحفر ابتداءً، ففي كليهما يرجع
أثر الحفر إلى المالك، فالتحقيق أنّ رضى المالك ببقاء الحفر إلى لحظة التردّي أو منعه عن الطمّ إلى تلك اللحظة يسقط
الضمان عن الحافر الغاصب.
الموسوعة الفقهية، ج۲، ص۴۱۳-۴۲۳.