استئجار الأجير أجيرا آخر
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
ومن مسائل
الإجارة أنه هل يمكن
للأجير أن يؤجر عمل تقبله، للآخر بنفس الأجرة أو أقل منها أو لا يمكنه؟
لا خلاف بين
الفقهاء في جواز استئجار الأجير غيره على عملٍ تقبّله بنفس الاجرة إذا لم يشترط المستأجر عليه المباشرة بنفسه ولم يكن هناك ما يوجب الانصراف إلى المباشرة، إلّا أنهم اختلفوا في جواز
تسليم العين وعدمه إلى العامل الثاني بدون
إذن المالك.
المشهور بين القدماء
- كالشيخ
وابن إدريس والمحقق- اشتراط الإذن، وأنّ تسليمها بدونه يجعله
ضامناً ؛ لعدم الملازمة بين جواز تقبيل العمل وبين اشتراط إذن المالك في التسليم إلى الغير؛ لامكان عمل العامل الثاني فيها وهي في يد الأوّل.
ومن هنا فصّل
الشهيد الصدر بين ما نحن فيه وبين إجارة الأعيان ثانياً، وهو الظاهر أيضاً من كلمات القدماء كما قال
الشيخ : «إذا استأجر مسكناً على أن يسكنه هو لم يجز له أن يُسكنه غيره، فإن استأجره من غير شرط كان
بالخيار إن شاء سكن هو، وإن شاء أسكن غيره...
ومن اكترى دابة ليركبها هو لم يجز أن يركبها غيره، فإن أركبها غيره فهلكت كان ضامناً، وإن عابت لزمه بمقدار عيبها، وإن اكتراها مطلقاً جاز له أن يركبها إن شاء، أو يُركبها غيره...».
حيث لم يشترطوا
الاستئذان من المالك في تسليم الأعيان المستأجرة، وإنّما ذكروا أنّ المالك لو منع منه لم يجز له التسليم، فلو هلكت العين المستأجرة فالمؤجر ضامن مع
التلف .
هذا، ولكن المشهور بين الفقهاء المتأخّرين
جواز التسليم مع إطلاق
العقد ومنع المالك، فانّه بعد أن كانت الإجارة مطلقة وغير مقيّدة بالمباشرة، وكان العمل مما يستلزم عادة تسليم العين جاز ذلك؛ لأنّه إذن ضمني من المالك ثابت بمقتضى العقد عرفاً.
مضافاً إلى ما في معتبرة
الصفار المتقدمة
من نفي الضمان عن القصّار الذي سلّم الثوب إلى غيره فضاع، بعد أن كان العامل الأوّل ثقة.
واستدل أيضاً بأنّ عدم الضمان في إجارة الأعيان أولى منه في الأعيان؛ نظراً إلى أنّه إذا أسقط الضمان مع تسليم العين لاستيفاء
المنفعة منها فالأولى إسقاطه مع تحصيل المنفعة للمالك فيها.
وهناك تفصيل بين التسليم إلى الأمين فيجوز وبين التسليم إلى غيره فلا يجوز، وهو المنسوب إلى
ابن الجنيد كما حكى عنه في
المختلف ، قال: «قال ابن الجنيد:
ولو كان الأجير مأموناً فسلّم السلعة إلى غيره ليعمل فيها عملًا كان لصاحب السلعة أن يطالبه إن اتهم أجيره، وإن كان الثاني مأموناً لم يضمن واحد منهما»،
واختاره بعض الأعلام كالسيدين
الحكيم والخوئي حيث ذهبا إلى أنّ الحكم فيما نحن فيه هو الحكم في تسليم الأعيان المستأجرة إلى الغير، وحكما في تلك المسألة بعدم جواز التسليم إلّا إذا كان المستأجر الثاني أميناً،
نظراً إلى أنّ يد الأجير يد أمانة تقتضي الحفاظ على العين وعدم تعريضها إلى الخطر.
ومع التسليم إلى غير الثقة تصير يده يد ضمان كما هو مدلول قوله عليه السلام في صحيحة
الصفار المتقدمة: «هو ضامن إلّا أن يكون ثقة مأموناً» بناءً على أنّ المراد من القصّار المأمون هو الأجير الثاني.
لا إشكال في أنّ مقتضى القاعدة جواز استئجار الغير للعمل الذي استؤجر عليه بأُجرة أكثر أو مساوية أو أقل من الاجرة الاولى تمسّكاً بالمطلقات، ولكن قد وردت في باب الإجارة بالخصوص روايات عديدة تنهى عن الإيجار بالأقل في الأعمال من دون إحداث حدث ممّا يكون ظاهره
البطلان :
منها: صحيحة
محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام: انّه سُئل عن الرجل يتقبّل بالعمل فلا يعمل فيه ويدفعه إلى آخر فيربح فيه؟ قال: «لا، إلّا أن يكون قد عمل فيه شيئاً».
ونحوها
روايات اخرى، كصحيحة
أبي حمزة عن
أبي جعفر عليه السلام، ورواية مجمع ومعتبرة علي الصائغ، مضافاً إلى غيرها من الأخبار الدالّة على
حرمة فضل الأجير بشكل عام.
ولأجل هذه الروايات ذهب القدماء
إلى القول بعدم جواز الإيجار بالأقل في الأعمال من دون إحداث
حدث .
ونسبه
الشهيد الثاني إلى المشهور، وقال
المحدث البحراني : «إنّه المشهور بين المتقدّمين»،
وتبعهم على ذلك
السيد اليزدي حيث قال: «في جواز استئجار الغير بأقل من الاجرة إشكال، إلّا أن يحدث حدثاً أو يأتي ببعض»،
ووافقه أكثر المحشين على
العروة ، فكان مشهور المتأخّرين ذلك أيضاً.
هذا ولكن ذهب جملة من الفقهاء
منهم
ابن سعيد والعلّامة في
التذكرة وثاني الشهيدين إلى الجواز على
كراهة ، بل قال
العلّامة في بعض كتبه كالمختلف
والقواعد والشهيد
وثاني المحققين بالجواز من دون تصريح بالكراهة.
والمستند في القول بالكراهة أنّه مقتضى الجمع بين أخبار المنع وأخبار الجواز كصحيح ابن حمزة عن أبي جعفر عليه السلام- على ما في
السرائر والتذكرة
- قال: سألته عن الرجل يتقبّل العمل فلا يعمل فيه ويدفعه إلى آخر فيربح فيه؟ قال: «لا بأس».
وكذا رواية
الحكم الخياط قال: قلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام: إنّي أتقبّل الثوب بدراهم واسلّمه بأقلّ من ذلك لا أزيد على أن أشقّه؟ قال: «لا بأس» ثمّ قال: «لا بأس فيما تقبّلته من عملٍ قد استفضلت فيه».
ولعلّ النكتة في ذكر الكلّية بعد الجواب هي التصريح بأنّ التقبيل الذي يطلب فيه الفضل لا بأس به مطلقاً بلا حاجة إلى إعمال عملٍ ولو مثل شقّ الثوب.
هذا ولكن اعترض على الاستدلال بالروايتين: أمّا رواية أبي حمزة فبأنّ الموجود في نسخة
التهذيب هو «لا» وخلوّها من كلمة «بأس»
وأمّا رواية الحكم الخياط فبأنّ كلامه عليه السلام في ذيل الحديث مطلق ينزّل على المقيّد كما هو مفروض السؤال.
ثمّ إنّه لا فرق في المسألة بين كون الاستئجار على عملٍ في عين أو على العمل الصرف
كالصوم والصلاة ، وإن كان قد ينساق من النصّ
والفتوى أنّ محلّ البحث في العمل بالعين كخياطة الثوب وصياغة الخاتم، ولعلّه من هنا احتمل بعضهم جواز الإيجار بالأقل في العمل الصرف،
إلّا أنّه يمكن أن يقال: إنّ ذكر بعض لوازم العمل في العين لا يقتضي تقييد ذلك به.
وكذلك لا فرق في عدم جواز الإيجار بالأقل مع عدم إحداث الحدث بين وحدة جنس الاجرتين وتعددها نظراً إلى أنّ المراد في باب الأموال عموماً وفي هذه الروايات خصوصاً حيثية المالية، وقد ورد في روايات تقبيل العمل- مضافاً إلى عنوان الأقل- عنوان الفضل
والربح والاستفضال .
ولا شك في دلالة الجميع على التعميم وعدم الاختصاص بفرض وحدة جنس
الاجرة .
نعم حكي عن الشيخ
كفاية اختلاف جنس الاجرة في تقبيل العمل بالأقل واختاره العلّامة في
التحرير .
والوجه في ذلك إمّا النظر إلى لفظ (الأقل) وظهوره في اتحاد الجنس أو دعوى أنّ سبب المنع إنّما هو
الربا ، ولا ربا مع اختلاف الجنس. وقد تقدّمت المناقشة في ذلك.
الوارد في
روايات إجارة الأعمال هو عنوان «العمل»
أو «المعالجة» كما ورد في رواية
علي الصائغ قلت
لأبي عبد اللَّه عليه السلام: أتقبّل العمل ثمّ أقبله من غلمان يعملون معي بالثلثين، فقال: «لا يصلح ذلك إلّا أن تعالج معهم فيه»، قلت: فإنّي أذيبه لهم، فقال: «ذلك عمل فلا بأس»
بينما الوارد في روايات إجارة الأعيان «إحداث الحدث» فيها أو «
الاصلاح » أو «
الإنفاق ».
والمراد من العمل والمعالجة هو
الإتيان ببعض مقدمات العمل المستأجر عليه بما يوجب تغييراً في متعلّق الإجارة،
ولعلّه المراد من تعبير بعض الفقهاء بإحداث الحدث،
وإلّا فلو اريد به مجرّد إحداث الحدث في محل لا يرتبط بالعمل المستأجر عليه فلا أثر له في تحليل الإجارة بأقل؛ لعدم شمول المستثنى له، وهذا واضح.
ولو لم يأت الأجير ببعض العمل لكنه تحمّل شيئاً من نفقاته كما لو دفع
قيمة الخيوط أو بعض أدوات الخياطة، فهل يكفي ذلك في جواز الإجارة بالأقل أم لا؟
قال
العلّامة بكفايته،
وقال
السيد اليزدي بكفاية
شراء مثل الخيط والابرة،
بمعنى دفع ما اشتراه إلى الأجير الثاني ليخيط به الثوب كما فسّره
النائيني في تعليقته.
وفصّل
المحقق الخوئي بين ما إذا كان الشراء بمال العامل الأوّل وبين ما إذا كان بمال الثاني، فجوّز الاستئجار في الفرض الأوّل لاندراجه في عقد الاستثناء الوارد في النصوص؛ لأنّ المراد من عنوان العمل أو المعالجة الوارد فيها بحسب المتفاهم العرفي ليس هو المعنى المصدري بل نتيجته وحاصله بأن يكون شيء من النتيجة الحاصلة بالعمل المستأجر عليه مستنداً إليه، وهو يصدق على الشراء بمال الأوّل.
وأمّا إذا كان الشراء بمال الثاني ولم يكن على الأوّل سوى الشراء المحض فهو أجنبي عن مورد الروايات بحسب المتفاهم العرفي.
وذهب بعض الأعلام إلى عدم كفاية ذلك أصلًا جموداً على العنوان الوارد في الروايات؛ لعدم صدق العمل على دفع القيمة
والغرم ، كما لا يصدق على الشراء المحض، فانّه وإن كان عملًا إلّا أنّه ليس عملًا في العين.
ثمّ إنّه لا يشترط في العمل كونه مما يقابل فضل الاجرة ويساويه في المالية بل يكفي أن يكون للعمل مالية في الجملة، وقد صرح بذلك
الأردبيلي والمحقق النجفي معلّلين ذلك بأنّ ظاهر
النص والفتوى الاكتفاء بمسمّى الحدث والعمل.
الموسوعة الفقهية، ج۴، ص۱۵۴-۱۶۰.