الإرسال في الحديث
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
يستعمل
الفقهاء كلمة الإرسال بإطلاقات متعدّدة تنشأ من إطلاقاتها اللغوية، فيطلقونها بمعنى الإرخاء كإرسال اليدين في
الصلاة وإرسال طرف العمامة، وبمعنى التسليط كإرسال الكلب أو السهم على الصيد، والإهمال كإرسال الحيوان، وما إلى ذلك، ويطلق الإرسال وصفاً للحديث فيقال: في الحديث إرسال والحديث مرسل ونحو ذلك.
ويطلق الإرسال وصفاً للحديث وله إطلاقان:
وهو ما رواه عن
المعصوم من لم يدركه في ذلك وإن أدركه في غيره واجتمع معه،
وبهذا المعنى يتحقّق إرسال الصحابي عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يروي الحديث عنه بواسطة صحابيّ آخر.
ولا فرق في ذلك بين ما إذا كان الراوي تابعيّاً أم غيره، صغيراً أم كبيراً، واحداً كان الساقط أم أكثر، رواه بغير واسطة؛ بأن قال التابعي: قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كذا، أو بواسطة نسيها؛ بأن صرّح بذلك أو تركها مع علمه بها أو أبهم كما لو قال: عن رجل، أو عن بعض أصحابنا، أو نحو ذلك.
وهذا هو المعنى المتعارف عند فقهائنا، ولا يخفى أنّه يشمل المرفوع بأحد معنييه والموقوف والمعلّق والمقطوع والمنقطع والمعضل.
وهو كلّ حديث أسنده التابعي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غير ذكر الواسطة، كقول
سعيد بن المسيّب : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم كذا.
وهذا هو المعنى الأشهر له عند الجمهور، وقيّده بعضهم بما إذا كان التابعي المرسل كبيراً كابن المسيّب وإلّا فهو منقطع، واختار جماعة
منهم المعنى العام الذي ذكرناه.
لم يتعرّض الفقهاء والمحدّثون لحكم
الإرسال في الحديث من الناحية التكليفية إلّا والد البهائي في كتابه
وصول الأخيار حيث قال: «كثيراً ما استعمل قدماء المحدّثين منّا ومن العامّة قطع الأحاديث بالإرسال ونحوه، وهو مكروه أو حرام إذا كان
اختياراً إلّا إذا كان لسبب كنسيان ونحوه، فقد روينا بطرقنا إلى
محمّد بن يعقوب عن
علي بن إبراهيم عن أبيه وعن
أحمد بن محمّد بن خالد عن
النوفلي عن
السكوني عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «قال
أمير المؤمنين عليه السلام : إذا حدّثتم بحديث فأسندوه إلى الذي حدّثكم، فإن كان حقّاً فلكم، وإن كان كذباً فعليه»،
وروينا عن أبي عبد اللَّه عليه السلام أنّه قال: «إيّاكم والكذب المخترع»، قيل له: وما الكذب المخترع؟ قال: «أن يحدّثك الرجل بحديث فتتركه وترويه عن الذي حدّثك عنه»»،
ولا يخفى وجه الحاجة إلى
إسناد الحديث؛ وذلك لأنّ من الامور التي يجب أن تتوفّر في السنّة
للاستدلال بها و
الاعتماد عليها صحّة السند حسب ما هو مقرّر في علم الرجال والمعبّر عنه ب (تماميّة السند) أو (صحّة السند)، مضافاً إلى دلالة المتن وكيفيتها لكثرة الكذب في إسناد الروايات إلى المعصوم عليه السلام والدسّ فيها.
ومن هنا يظهر وجه
الأمر بالإسناد والتأكيد عليه في الحديثين المزبورين والقول بكراهة الإرسال أو حرمته كما ذكر والد البهائي، لكن يجب تقييد ذلك فيما لو طرح المحدّث الواسطة بالكلّية عامداً مختاراً، وإن كان القول بالحرمة مع ذلك بعيداً إذا لم يكن كذباً وتدليساً واقعاً.
أمّا لو فعل ذلك نسياناً أو لسبب، كما في مراسيل
ابن أبي عمير ، فإنّه قيل: إنّ سبب ذلك أنّه حبس بعد
الرضا عليه السلام ونهب ماله وذهبت كتبه وكان يحفظ أربعين جلداً فلذلك أرسل أحاديثه. وقيل: إنّ اخته دفنت كتبه في حال
استتاره فهلكت.
وقيل: تركها في غرفة فسال عليها المطر فتلفت فحدّث من حفظه.
وكذا لو فعل ذلك طلباً
للاختصار ثمّ ذكر الواسطة فيما بعد ليخرج الحديث عن الإرسال إلى
الإسناد ، كما صنع الصدوق في كتابه
من لا يحضره الفقيه والشيخ في كتابيه
الاستبصار و
التهذيب ، أو حذف الأسانيد؛ لأنّ الرواية مشتملة على
آداب ومواعظ يشهد مضمونها بصدقها كما فعل ذلك
الحسن بن شعبة في كتابه
تحف العقول ، أو صرّح بأنّه قد اقتصر في كتابه على الثابت الصحيح عنده ممّا رواه عن
الأئمة من
أهل البيت عليهم السلام كالقاضي
أبي حنيفة النعمان بن محمّد في كتابه
دعائم الإسلام ، فإنّ مثل ذلك وأشباهه لا يعدّ من الكذب والتدليس كما هو واضح.
وقع الخلاف في حجّية الحديث المرسل على أقوال:
الحجّية مطلقاً إذا كان
المرسل ثقة، سواءً كان المرسِل صحابيّاً أم لا، جليلًا أم لا، أسقط واحداً أم أكثر، وهو المنسوب إلى
محمّد بن خالد البرقي وولده أحمد من فقهائنا، وجمع من فقهاء الجمهور.
عدم الحجّية مطلقاً، وهو خيرة جمع كثير من فقهائنا.
التفصيل بين مراسيل ابن أبي عمير و
صفوان بن يحيى و
البزنطي الذين شهد
الشيخ الطوسي قدس سره بأنّهم لا يروون ولا يرسلون إلّا عن ثقة، فيكون إرسالهم حجّة وبين غيرهم. بل تعدّى بعض الفقهاء إلى غير هؤلاء ممّن شهد الرجاليّون أنّه لا يروي عن الضعفاء، بل صدر من جمع من الفقهاء إجراء الحكم المذكور في حقّ نفر من علماء ما بعد الغيبة كالصدوق والطوسي وغيرهما.
ولكلٍّ من هذه الآراء أدلّة وعليه مناقشات.
ومحلّ تفصيل ذلك كلّه في علمي الاصول و
الدراية .
الموسوعة الفقهية، ج۹، ص۴۹۵- ۴۹۸.