الاحتياط العقلي
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
وهو الذي يصدر حكمه من العقل ولم يأمر به الشارع المقدس.
والمراد منه هو الاحتياط الذي
يحكم به
العقل ولو لم يحكم به
الشرع.
وقد وقع الكلام بين
العلماء في حكم
العقل بلزوم الاحتياط
وعدمه في
الشبهات الحكميّة البدويّة بعد الفحص
واليأس عن الظفر بالدليل الشرعي بعد اتفاقهم على الحكم به في الشبهات الحكميّة قبل تمام الفحص، وموارد
الشكّ في حصول الامتثال، والشبهات
المقرونة بالعلم الإجمالي مع امكان الاحتياط فيها.
ونحن نتعرّض على نحو الاختصار للأوّل والثاني والثالث تاركين الرابع إلى مصطلح (العلم الإجمالي).
فحكم مشهور
الاصوليين فيه
بالبراءة عقلًا، معبّرين عنه ب (قاعدة قبح العقاب بلا بيان).
وقد استدلوا عليه بوجوه.
۱- ما
ذكره المحقق النائيني رحمه الله من أنّه لا مقتضى للتحرّك مع عدم وصول
التكليف،
فالعقاب حينئذ عقاب على ترك ما لا مقتضى لإيجاده وهو قبيح.
واجيب عنه بأنّ هذا الكلام مشتمل على المصادرة لأنّ عدم المقتضي للتحرّك مع احتمال التكليف فرع ضيق دائرة حق
الطاعة وعدم شمولها للتكاليف المحتملة غير المعلومة؛ لوضوح أنّه مع الشمول يكون المقتضي للتحرّك موجوداً فلا بدّ من البحث أوّلًا في تحديد دائرة حقّ الطاعة.
۲- ما ذكره
المحقّق الأصفهاني رحمه الله
من أنّ كلّ أحكام
العقل العملي مردّها إلى حكمه الرئيسي الأوّلي بقبح الظلم وحسن
العدل ونحن نلاحظ أنّ مخالفة ما قامت عليه
الحجّة خروج عن رسم
العبوديّة وهو
ظلم من
العبد لمولاه وهو قبيح، فيستحقّ منه
الذمّ والعقاب، وأنّ مخالفة ما لم تقم عليه الحجّة ليست من أفراد الظلم؛ إذ ليس من زيّ العبوديّة أن لا يخالف العبد مولاه في الواقع وفي نفس
الأمر بل أن لا يخالفه فيما وصل إليه أو قامت عليه الحجّة من التكاليف، فلا يكون المخالفة الواقعيّة فيما لم يصل التكليف به للمكلّف ظلماً للمولى، وعليه فلا موجب للعقاب بل يقبح وبذلك تثبت
القضية العقليّة المشهورة (قبح العقاب بلا بيان).
واجيب عنه أيضاً بأنّ إدّعاء كون حكم العقل بقبح الظلم هو الأساس لأحكام العقل العملي بالقبح
عموماً وأنّها كلّها تطبيقات له وإن كان هو المشهور والمتداول في كلمات المحقّقين، إلّا أنّه لا محصّل له؛ لأنّنا إذا حلّلنا
نفس مفهوم الظلم وجدنا أنّه عبارة عن
الاعتداء وسلب الغير حقّه، وهذا يعني افتراض ثبوت حقٍّ في المرتبة السابقة، وهذا الحقّ بنفسه من مدركات العقل العملي، فلولا أنّ
للمنعم حقّ
الشكر في المرتبة السابقة، لما انطبق عنوان الظلم على ترك شكره، فكون شيء ظلماً وبالتالي قبيحاً مترتب دائماً على حقٍّ مُدركٍ في المرتبة السابقة، وهو في المقام حقّ
الطاعة، فلا بد أن يتّجه البحث إلى أنّ حق الطاعة
للمولى هل يشمل التكاليف الواصلة بالوصول الاحتمالي، أو يختصّ بما كان واصلًا بالوصول القطعي.
وهكذا نصل- في الأمر الأوّل- إلى المسلك الثاني وهو مسلك حقّ الطاعة المختار للشهيد السعيد
السيد محمّد باقر الصدر قدس سره حيث قال: «نحن
نؤمن في هذا المسلك بأنّ
المولوية الذاتية الثابتة للَّه سبحانه وتعالى لا تختصّ
بالتكاليف المقطوعة، بل تشمل مطلق التكاليف الواصلة ولو احتمالًا، وهذا من مدركات العقل العملي، وهي غير مبرهنة، فكما أنّ أصل حقّ
الطاعة للمنعم والخالق مدرك أوّلي للعقل العملي غير مبرهنٍ، كذلك حدوده سعةً وضيقاً. ثمّ قال قدس سره: وعليه فالقاعدة العملية الأوليّة هي أصالة
الاشتغال بحكم
العقل ما لم يثبت الترخيص الجادّ في ترك التحفّظ».
هذا وقد يستدلّ على الاحتياط عقلًا بوجوه اخرى كالقول بتقدّم قاعدة دفع
الضرر المحتمل على قاعدة قبح
العقاب بلا
بيان ورفعها لموضوع
البراءة العقلية، وهي أيضاً قاعدة ثابتة مدركة للعقل.
والقول بثبوت
علم إجمالي بوجود
واجبات ومحرّمات كثيرة فيما اشتبه وجوبه أو حرمته ممّا لم يكن هناك حجّة على حكمه، تفريغاً
للذّمة بعد اشتغالها، ولا خلاف في لزوم الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي إلّا من بعض الأصحاب،
وبهذا البيان ينقلب الشكّ البدوي علماً إجماليّاً.
وقد اجيب عن الأوّل
باستحالة ذلك؛ لأنّ جريان قاعدة دفع
الضرر فرع احتمال الضرر الذي يراد به هنا العقاب الاخروي، واحتماله فرع
عدم جريان قاعدة قبح العقاب فكيف
يعقل أن يكون رافعاً لها.
وعن الثاني بانحلال
العلم الإجمالي المزبور بما ثبت وصوله أو قيام
الحجّة عليه من التكاليف في
الشريعة ومع
الانحلال لا وجه للاحتياط.
وتفصيل الكلام متروك إلى علم الاصول.
وهو
الشبهة الحكمية ذ قبل الفحص،
فالحكم فيه هو الاحتياط حتى عند القائلين بقاعدة قبح العقاب بلا بيان.
قال
المحقّق الخراساني: «أمّا
البراءة العقليّة فلا يجوز إجراؤها إلّا بعد الفحص واليأس عن الظّفر بالحجّة على
التكليف، لما مرّت الإشارة إليه من عدم استقلال
العقل بها إلّا بعدهما».
وقال في موضع آخر: «لا بأس بصرف الكلام في بيان بعض ما للعمل بالبراءة قبل الفحص من التبعة والأحكام، أمّا التبعة: فلا شبهة في
استحقاق العقوبة على المخالفة فيما إذا كان ترك التعلّم والفحص مؤدّياً إليها، فإنّها وإن كانت
مغفولة حينها وبلا اختيار إلّا أنّها منتهية إلى الاختيار، وهو كاف في صحّة العقوبة، بل مجرّد تركهما كاف في صحّتها وإن لم يكن مؤدّياً إلى المخالفة؛ لأجل التجرّي وعدم المبالاة بها».
وقال
السيد الحكيم: «وجه توقّف العقل عن حكمه بالبراءة قبل الفحص
واليأس أحد امور:
كون احتمال
التكليف بياناً ومنجّزاً عند العقلاء كسائر الحجج العقلائيّة.
كون البيان الذي
عدمه موضوع لقبح العقاب (في القضية المعروفة قبح العقاب بلا بيان) هو
الحجّة الواقعيّة، فمع احتمال وجود الحجّة لا يحرز موضوع القاعدة، فلا حكم للعقل
للشك في موضوعه.
كون البيان المذكور (وهو الموضوع في هذه القضية) هو الحجّة الواصلة لو لا تقصير
المكلّف بترك الفحص، فقبل الفحص لا يحرز عدم مثل هذه الحجّة، لجواز وصولها إلى المكلّف بالفحص، فلا حكم للعقل بقبح العقاب».
وهو الشكّ في تحقّق الامتثال كما إذا علم بتكليفٍ-
كالصلاة- وشكّ في أنّه صلّى أو لا، أو شكّ في صحّة ما أتى به خارجاً، وأنّه كان جامعاً لجميع الأجزاء والشروط أم لا فيحكم العقل فيه بوجوب الاحتياط والإتيان بما يوجب
العلم بفراغ الذمّة- ولو كان مستلزماً للتكرار- وهو الذي يسمّى بقاعدة (
الاشتغال اليقيني يستدعي
الفراغ اليقيني).
ولكن ينبغي أن يعلم أنّ حكم العقل هذا إنّما هو من أحكامه الاقتضائيّة، بمعنى أنّه مشروط في نفسه بعدم ورود
تعبّد من
المولى بالامتثال، فلا تنافي بين هذا
الحكم وبين القواعد الشرعيّة الظاهريّة المجعولة بالنسبة لمقام
الامتثال كقاعدة الفراغ والتجاوز وقاعدة الحيلولة وقاعدة عدم اعتناء كثير
الشكّ بشكّه، وقاعدة لزوم البناء على الأكثر في الشكّ في عدد ركعات الرباعيّة إذا كان الشكّ من الشكوك الصحيحة وقد أتى بوظيفته ونحوها من القواعد الاخرى، فإنّها
أحكام وقواعد شرعيّة ظاهريّة حاكمة ورافعة لموضوع حكم
العقل بلزوم الامتثال؛ لأنّ حكم العقل بالاحتياط
والتنجيز سواء كان بملاك لزوم دفع
الضرر المحتمل، أو رعاية حقّ
الطاعة للمولى جلّ وعلا معلّق دائماً بعدم ورود حكم من قبل
الشارع على خلافه.
وتفصيل الكلام في ابتناء هذه
الحكومة على كون الخطاب الشرعي بلسان
إحراز الامتثال- كما في قاعدة الفراغ- لا بلسان رفع العقوبة أو
البراءة، وعدمه متروك إلى محلّه من
علم الاصول.
الموسوعة الفقهية، ج۶، ص۱۶۴-۱۶۸