الحرز في المسروق
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
ولا بدّ من كون
المسروق محرزاً، بقفل أو غلق أو دفن؛ وقيل: كل موضع ليس لغير المالك دخوله إلا بإذنه فهو حرز؛ ولا يقطع من سرق من المواضع المأذون في غشيانها،
كالحمامات،
والمساجد؛ وقيل إذا كان المالك مراعيا للمال كان محرزا؛ ولا يقطع من سرق من جيب
إنسان أو كمه الظاهرين، ويقطع لو كانا باطنين؛ ولا يقطع في الثمر على الشجر، ويقطع سارقه بعد إحرازه.
ولا بدّ في
المسروق من كونه محرزاً إجماعاً منّا، فتوًى ونصّاً، إلاّ نادراً
.
وحيث لا تحديد له شرعاً صريحاً، وجب الرجوع فيه إلى
العرف اتّفاقاً، وضابطه ما كان ممنوعاً بقفلٍ من حديد ونحوه أو غلقٍ من خشب وما في معناه أو دفنٍ في العمران؛ أو كان مراعى بالنظر، على اختلاف في الأخير. فقيل بكونه حرزاً، كما في
القواعد والتنقيح وعن
الخلاف والمبسوط؛ لقضاء العادة بإحراز كثير من الأموال بذلك.
وقيل بالعدم، كما هو ظاهر المتن
والشرائع والسرائر وعن
المراسم والوسيلة وظاهر المقنعة والمختلف والتحرير والإرشاد والتلخيص والتبصرة
؛ للشبهة في كونه حرزاً، وكون الأخذ معه سرقةً أو اختلاساً.
وللقويّ
بالسكوني وصاحبه: «لا يقطع إلاّ من نقب نقباً، أو كسر قفلاً»
.
قيل: ويمكن أن يقال: لا يتحقّق الحرز بالمراعاة إلاّ مع النظر إليه، ومع ذلك لا يتحقّق
السرقة؛ لما تقرّر من أنّها لا تكون إلاّ سرّاً، ومع غفلته عنه ولو نادراً لا يكون له مراعياً، فلا يتحقّق إحرازه بها، فظهر أنّ السرقة لا تتحقّق مع المراعاة وإن جعلناها حرزاً
. انتهى.
ولا يخلو عن نظر.
وقيل والقائل
الشيخ في
النهاية: إنّ كلّ موضع ليس لغير المالك والمتصرّف فيه دخوله إلاّ بإذنه فهو حرز ونسبه في المبسوط
والتبيان وكذا في
كنز العرفان إلى أصحابنا، وفي الغنية إلى رواياتهم مدّعياً عليه إجماعهم
؛ وربما كان في النصوص إيماء إليه.
ومنها: الصحيح المتقدّم، المعلّل عدم قطع الرجل بسرقة مال أبيه أو أُخته وأخيه بعدم حجبه عن الدخول إلى منزلهم. وظاهرٌ أنّ المراد من عدم الحجب حصول
الإذن له في الدخول، فمفهوم التعليل حينئذ: أنّ مع عدم الإذن يقطع، وهو عين هذا المذهب.
وأظهر منه القويّ بالسكوني وصاحبه: «كلّ مدخل يدخل فيه بغير إذن فسرق منه
السارق فلا قطع فيه» قال
الراوي: يعني الحمّام والأرحية
.
وقريب منهما النصوص المتقدّمة بعدم قطع الضيف والأجير؛ معلّلة بالاستئمان، وليس إلاّ من حيث الإذن في الدخول.
فهذا القول غير بعيد، لو لا ما أورد عليه جماعة ومنهم
الحلّي من النقض بالدور المفتّحة الأبواب في العمران وصاحبها ليس فيها، فإنّ السارق منها لا قطع عليه بلا خلاف، كما في السرائر
.
ولذا عن
ابن حمزة: أنّه كلّ موضع لا يجوز لغير مالكه الدخول فيه أو التصرّف بغير إذنه، وكان مغلقاً أو مقفلاً
.
وكأنّه حاول الجمع بين النصوص المزبورة وقويّة السكوني المتقدّمة، المتضمّنة لـ: أنّه لا يقطع إلاّ من نقب نقباً أو كسر قفلاً، ولا بأس به. ومرجعه إلى القول الأول، كالقول بأنّ الحرز ما يكون سارقه على خطر خوفاً من الاطّلاع عليه.
وعليه يختلف الحرز باختلاف الأموال وفاقاً للأكثر.
فحرز الأثمان والجواهر: الصناديق المقفلة، والأغلاق الوثيقة في العمران.
وحرز الثياب وما خفّ من المتاع وآلات النحاس: الدكاكين، والبيوت المقفلة في العمران، أو خزائنها المقفلة وإن كانت هي مفتوحة.
والإصطبل حرز للدواب مع الغلق.
وحرز الماشية في المرعى: عين الراعي، على ما تقرّر؛ ومثله متاع البائع في الأسواق والطرقات.
واحترزنا بالدفن في العمران عمّا لو دفن خارجه، فإنّه لا يعدّ حرزاً وإن كان في داخل بيت مغلق؛ لعدم قضاء العرف به، مع عدم الخطر على سارقه.
وقال الشيخ في المبسوط والخلاف: كلّ موضع حرز لشيء من الأشياء فهو حرز لجميع الأشياء
. واختاره الحلّي
والفاضل في
التحرير وهو كما ترى.
وكيف كان لا يقطع من سرق من غير حرز، كالمواضع المأذون في غشيانها والدخول إليها كالحمّامات، والمساجد والأرحية، مع عدم مراعاة المالك للمسروق بالنظر؛ للقويّ المتقدّم.
ولا خلاف فيه ظاهراً ولا محكيّاً، إلاّ عن
العماني، حيث قال: إنّ السارق يقطع من أيّ موضع سرق، من بيت، أو سوق، أو
مسجد، أو غير ذلك، مطلقاً
؛ لقطع النبيّ (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) سارق مئزر صفوان بن أُميّة في المسجد، ففي
الصحيح: أنّه خرج يهريق الماء فوجد رداءه قد سرق حين رجع إليه
.
قيل: ويمكن حمله على التفسير الأخير، فإنّ السارق في المسجد على خطر من أن يطّلع عليه
.
وفي خبر آخر: أنّه نام فأُخذ من تحته
.
وقال
الصدوق: لا قطع من المواضع التي يدخل إليها بغير إذن، مثل: الحمّامات والأرحية والمساجد؛ وإنّما قطعه
النبيّ (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) لأنّه سرق الرداء وأخفاه، فلإخفائه قطعه، ولو لم يخفه لعزّره
.
وهو راجع إلى التفسير الأخير.
والأولى في الجواب عنه ما ذكره بعض
الأصحاب، من عدم منافاته لما دلّ على عدم القطع بالسرقة من نحو المساجد عموماً وخصوصاً، من حيث احتمال أن يكون حين خرج أو نام أحرز رداءه، فينبغي حمله عليه، جمعاً بينه وبين القوي المتقدّم الذي هو أرجح منه بوجوه شتّى.
ومنه يظهر الجواب عن الاستدلال به لما قيل من أنّه إذا كان المالك مراعياً للمال بنظره كان محرزاً والقائل من تقدّم، ومنهم: الشيخ في المبسوط
.
وربما يجاب عنه أيضاً بأنّ المفهوم من المراعاة وبه صرّح كثير
أنّ المراد بها النظر إلى
المال، وأنّه لو نام أو غفل عنه أو غاب زال الحرز، فكيف يجتمع الحكم بالمراعاة مع فرض كون المالك غائباً عنه كما في
الرواية الأُولى، أو نائماً كما في الثانية؟! وهو حسن.
ولا يقطع من سرق من جيب إنسان أو كمّه الظاهرين، ويقطع لو كانا باطنين للخبرين:
أحدهما القويّ: «إنّ
أمير المؤمنين (علیهالسّلام) اتي بطرّار
قد طرّ من كمّ رجل، فقال: إن كان طرّ من قميصه الأعلى لم أقطعه، وإن طرّ من قميصه الداخل قطعته»
.
ونحوه الثاني
، وضعف سنده كالأول إن كان مجبور بالشهرة الظاهرة والمحكيّة في
المختلف والمسالك وغيرهما، بل لم أجد الخلاف فيه كما صرّح به بعض الأجلّة
، وفي
الغنية وعن الخلاف
: أنّ عليه إجماع
الإماميّة.
وبه مضافاً إلى الخبرين يجمع بين ما دلّ على قطع الطرّار بقول مطلق، كالخبر: «يقطع النبّاش والطرّار ولا يقطع المختلس»
.
وما دلّ على عدم قطعه كذلك، كالصحيح: عن الطرّار والنبّاش والمختلس، قال: «لا يقطع»
ونحوه
المرسل كالموثّق
.
بحمل الأوّل على الطرّ من الأسفل، والأخيرين على العكس.
مع احتمال الأول الحمل على
التقيّة؛ لكونه مذهب
العامّة، كما يستفاد من الخلاف، حيث قال: وقال جميع
الفقهاء: عليه القطع، ولم يعتبروا قميصاً فوق قميص، إلاّ أنّ
أبا حنيفة قال: إذا شدّه
فعليه القطع،
والشافعي لم يفصّل.
وظاهر الخبرين المفصّلين أنّ المراد بالظاهر: ما في الثوب الخارج، سواء كان بابه في ظاهره أو باطنه، وسواء كان الشدّ على تقديره من داخله أم خارجه، كما صرّح به في المسالك
، وحكاه في
الروضة عن الخلاف
والمختلف، وفيه: أنّه المشهور
.
ولا يقطع في سرقة الثمر وهو على الشجر، ويقطع سارقه بعد صرمه وإحرازه. بلا خلاف في الأخير على الظاهر، المصرّح به في
التنقيح؛ للعمومات، وخصوص ما يأتي من بعض النصوص.
وعلى الأشهر في الأول مطلقاً؛ لإطلاق النصوص المستفيضة:
في اثنين منها وأحدهما
القويّ: «لا قطع في ثمر ولا كثر» والكثر: شحم
النخل.
ومنها القويّ الآخر: «قضى النبيّ (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) فيمن سرق الثمار في كمّه: فما أكل منه فلا شيء عليه، وما حمل فيعزَّر ويغرم قيمته مرّتين»
.
ومنها: «لا يقطع من سرق من الفاكهة، وإذا مرّ بها فليأكل ولا يفسد»
.
وإطلاقها وإن شمل صورة
السرقة بعد الصرم والإحراز إلاّ أنّه مقيّد بما قبلهما؛
بالإجماع، والخبر: «إذا أخذ الرجل من النخل والزرع قبل أن يصرم فليس عليه قطع، فإذا صرم النخل وحصد الزرع فأخذ قُطِع»
.
مع إمكان دعوى تبادر كون الثمرة على الشجرة من
إطلاق الأخبار، فيختصّ به، ولا يحتاج إلى التقييد.
وقيّده الفاضل وولده
بما إذا لم تكن الشجرة في موضع محرز كالدار، وإلاّ فالأولى القطع؛ عملاً بالقواعد، وطعناً في
سند النصوص، وجمعاً بينها وبين ما دلّ على القطع على الإطلاق، كالخبر: في رجل سرق من بستان عذقاً قيمته درهمان، قال: «يقطع به»
.
وهو حسن، لولا الشهرة الجابرة لضعف
النصوص، وضعف الخبر الأخير، وشذوذ ما دلّ عليه من القطع بالدرهمين، مع عدم وضوح شاهد على الجمع غير مراعاة القاعدة، وتخصيصها بها بعد ما عرفت من اعتبارها غير مستنكر، كما خُصِّص بمثلها قاعدة
حرمة التصرّف في الثمرة للغير بالأكل ولو بشرائطه المقرّرة. ولا بُعد في كون ما نحن فيه من ذلك القبيل، إلاّ أن يتأمّل في دلالة النصوص بعدم صراحتها في عدم القطع في محلّ النزاع بقوّة احتمال اختصاصها بصورة عدم الإحراز، كما هو الغالب، وإليه أشار شيخنا في الروضة، وبه استحسن
التقييد.
رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدّلائل، الطباطبائي، السيد علي، ج۱۶، ص۱۰۳-۱۱۱.