الدين في قصاص النفس
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
يشترط في
قصاص النفس التساوي في الدين؛ فلا يقتل
المسلم بكافر، ذميا كان أو غيره، ولكن يعزر ويغرم دية
الذمي؛ ولو اعتاد ذلك جاز الاقتصاص مع رد فاضل دية المسلم؛ ويقتل الذمي بالذمي وبالذمية بعد رد فاضل ديته؛ والذمية بمثلها وبالذمي ولا رد؛ ولو قتل الذمي مسلما عمدا دفع هو وماله إلى أولياء المقتول، ولهم
الخيرة بين قتله واسترقاقه؛ وهل يسترق ولده الصغار؟ الأشبه: لا، ولو أسلم بعد
القتل كان كالمسلم؛ ولو قتل خطأ لزمت
الدية في ماله؛ ولو لم يكن له مال كان
الإمام عاقلته دون قومه.
فلا يقتل مسلم بكافر مطلقاً ذمّيا كان أو غيره إجماعاً من العلماء كافّة في الحربي على الظاهر، المصرَّح به في
الإيضاح، ومن
الإمامية خاصة مطلقاً، حتى الذمّي مع عدم اعتياد قتله، كما ادّعاه جماعة حدّ الاستفاضة،
كالحلّي في
السرائر وفخر الدين في الإيضاح وشيخنا في
المسالك، ونفى عنه الخلاف في التنقيح
وشرح الشرائع
للصيمري.
وكأنّهم لم يعتدّوا بما يحكى عن
الصدوق في
المقنع من تسويته بين المسلم والذمّي في أن الوليّ إن شاء اقتصّ من قاتله المسلم بعد ردّ فاضل الدية، وإن شاء أخذ الدية.
مع أنّه يدل عليه جملة من المعتبرة، كالصحيح: «إذا قتل
المسلم النصراني ثم أراد أهله أن يقتلوه قتلوه وأدّوا فضل ما بين الديتين»
.
والصحيح: «إذا قتل المسلم يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً وأرادوا أن يقيدوا ردّوا فضل دية المسلم وأقادوا به»
ونحوهما
الموثق.
ولكنّها بإطلاقها شاذّة معارضة بما عرفت من
الإجماع المستفيض في كلام الجماعة، ونصّ
الكتاب، قال سبحانه «وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً»
.
مضافاً إلى الاعتبار، والنصوص الآتية، فلتكن هذه مطرحة، أو محمولة على
التقية؛ لموافقتها لرأي أبي حنيفة كما حكاه عنه بعض الأجلة
، أو على صورة الاعتياد كما فصّلته النصوص المعارضة.
وبالجملة: لا ريب في عدم قتل المسلم بالكافر مطلقا في الصورة المفروضة.
ولكن يعزّر المسلم القاتل ويغرم دية
الذميّ إذا قتله.
ولو اعتاد المسلم ذلك أي قتل الذمّي فهل يجوز قتله به، أم لا؟ الحلّي
على الثاني؛ عملاً بنصّ الكتاب المتقدّم، مع دعواه الإجماع عليه، ووافقه فخر الدين ووالده في جملة من كتبه
في ظاهر كلامه.
والأشهر كما ادّعاه الشهيدان وغيرهما
الأوّل، بل زاد أوّلهما فادّعى الإجماع عليه، فقال: والحقّ أنّ هذه المسألة إجماعية، فإنّه لم يخالف فيها أحد سوى ابن إدريس، وقد سبقه الإجماع عليه، ولو كان هذا الخلاف مؤثّراً في الإجماع لم يوجد إجماع أصلاً.
وقريب منه كلام
الثاني في
الروضة، حيث قال: والعجب أنّ ابن إدريس احتجّ على مذهبه بالإجماع على عدم قتل المسلم بالكافر، وهو استدلال في مقابلة الإجماع، انتهى.
وحكى التصريح به عن
الانتصار، وهو
الحجّة على انتصار هذا القول.
مضافاً إلى نحو الصحيحين المتقدّمين المجوِّزين لقتل المسلم بالذمّي بعد ردّ أوليائه الدية، وشمولها لصورة عدم الاعتياد بالإطلاق مقيّد بالإجماع، وببعض المعتبرة المروي بعدّة طرق، جملة منها موثّقة كالصحيحة بأبان وفضالة اللذين قد نقل على تصحيح ما يصحّ عنهما إجماع العصابة
: عن دماء
اليهود والنصارى
والمجوس، هل عليهم وعلى من قتلهم شيء، إذا غشّوا المسلمين وأظهروا لهم العداوة؟ قال: «لا، إلاّ أن يكون متعوّداً لقتلهم» وعن المسلم هل يقتل بأهل الذمّة
وأهل الكتاب إذا قتلهم؟ قال: «لا، إلاّ أن يكون معتاداً لذلك لا يدع قتلهم، فيقتل وهو صاغر»
.
ونحوه خبر آخر
، ضعف سنده كقصور سابقه إن كان منجبر بالشهرة الظاهرة والمحكية، مضافاً إلى حكاية الإجماعات المتقدّمة، وبهذه الأدلّة تخصّ ظاهر الكتاب وإطلاق الصحيحة: «لا يقاد مسلم بذمّي في
القتل ولا في الجراحات، ولكن يؤخذ من المسلم ديته للذمّي على قدر دية الذميّ ثمانمائة درهم»
.
وأمّا الجواب عن إجماع الحلّي فقد عرفته بما في الروضة، فلا ريب أيضاً في هذه المسألة.
ولعلّه لذا رجع
الماتن عن التردّد فيها في
الشرائع إلى الجزم بما هنا؛ لقوله: جاز الاقتصاص مع ردّ فاضل الدية وظاهره كما ترى كون القتل قصاصاً لا حدّا، كما عن
المقنعة والنهاية
والجامع والوسيلة، وعن
الإسكافي والحلبي وظاهر الفقيه والغنية
أنّه يقتل حدّا فلا يجب ردّ الدية، كما عليه
الفاضل.
ومقتضى النصوص بعد ضمّ بعضها إلى بعض بالنسبة إلى ردّ فاضل الدية هو الأوّل، وهو الوجه مع عدم ظهور دليل غيره.
وفي الروضة: ويمكن الجمع بين الحكمين، فيقتل لقتله وإفساده، ويردّ الورثة الفاضل. وتظهر فائدة القولين في سقوط القود بعفو الوليّ، وتوقّفه على طلبه على الأوّل دون الثاني. وعلى الأوّل ففي توقّفه على طلب جميع أولياء المقتولين أو الأخير خاصة، وجهان، منشؤهما كون قتل الأوّل جزءاً من السبب أو شرطاً فيه، فعلى الأوّل الأوّل، وعلى الثاني الثاني، ولعلّه أقوى. ويتفرّع عليه أنّ المردود عليه هو الفاضل عن
ديات جميع المقتولين أو عن دية الأخير، فعلى الأوّل الأوّل أيضاً، وعلى الثاني الثاني. والمرجع في الاعتياد إلى
العرف، وربما تحقق بالثانية؛ لأنّه مشتق من العود، فيقتل فيها أو في الثالثة، وهو الأجود؛ لأنّ الاعتياد شرط في
القصاص، فلا بدّ من تقدّمه على استحقاقه
، انتهى كلامه زيد إكرامه.
وإنّما نقلناه بطوله لتكفّله لجملة من فروع المسألة ومتعلّقاته، مع جودة مختاره.
لكن ما ذكره أوّلاً من إمكان الجمع بين الحكمين لا يخلو عن نظر؛ لكونه إحداث قول، ولذا فرع جماعة على القولين ردّ فاضل الدية فأثبتوه على الأوّل، ونفوه على الثاني.
وكذا ما ذكره أخيراً من جواز القتل في الثالثة منظور فيه؛ لعدم صدق الاعتياد بالمرّتين عرفاً، وإن صدق لغةً نظراً إلى مبدأ الاشتقاق، بناءً على ترجيح العرف عليه، كما هو الأظهر الأشهر، وبه اعترف.
نعم لو عكس صحّ ما ذكره، فتأمّل.
ويقتل الذمّي بالذمّي وإن اختلفت ملّتهما، كاليهودي والنصراني وبالذمّية بعد ردّ أوليائها فاضل ديته عن دية الذمّية، وهو نصف ديته.
وتقتل الذمّية بمثلها، وبالذمّي مطلقاً ولا ردّ هنا؛ فإنّ الجاني لا يجنى على أكثر من نفسه، مع أنّه لا خلاف فيه ولا في شيء ممّا سبقه، بل حكى عليه الإجماع بعض الأجلّة
.
والأصل فيها بعده عمومات
الكتاب والسنّة المتقدمة في جناية المسلم والمسلمة، مضافاً إلى خصوص القوية في الجملة: «أنّ
أمير المؤمنين (علیهالسّلام) كان يقول: يقتصّ لليهودي والنصراني والمجوسي بعضهم من بعض، ويقتل بعضهم ببعض إذا قتلوا عمداً»
.
ولو قتل الذمّي مسلماً عمداً دفع هو وماله إلى أولياء المقتول، وله أي لوليّه الخيرة بين قتله واسترقاقه على الأظهر الأشهر، بل عليه عامّة من تأخّر، وعن الانتصار والسرائر وظاهر
النكت وفي الروضة
الإجماع عليه، وهو الحجّة. مضافاً إلى
الصحيح المروي في الكتب الثلاثة: في نصراني قتل مسلماً، فلمّا أُخذ أسلم، قال: «اقتله به» قيل: فإن لم يسلم، قال: «يدفع إلى أولياء المقتول، فإن شاءُوا قتلوا، وإن شاءُوا عفوا، وإن شاءُوا استرقّوا» قيل: وإن كان معه عين مال، قال: «دفع إلى أولياء المقتول هو وماله»
.
ولا فرق في تملّك أمواله بين ما ينقل منها وما لا ينقل، ولا بين العين والدين، كما هو ظاهر إطلاق
النصّ والفتوى، وبه صرّح في
التحرير، واختصاص السؤال في
الرواية بالعين لا يوجب تقييد المال المطلق في الجواب بها، فتأمّل جدّاً.
وكذا لا فرق بين المساوي لفاضل دية المسلم والزائد عليه المساوي للدية والزائد عليها؛ لما مضى.
خلافاً للمحكي عن الحلبيّين
، فإنّما أجازا الرجوع على تركته أو أهله بدية المقتول أو قيمته إن كان مملوكاً.
ولا بين اختيار الأولياء قتله أو استرقاقه.
خلافاً للحلّي
، فإنّما أجاز أخذ المال إذا اختير الاسترقاق؛ لأنّ مال المملوك لمولاه.
قيل: ويحتمله الخبر وكلام الأكثر
. وفيه نظر.
وهل يسترقّ ولده الصغار غير المكلّفين؟ قولان:
من أنّ الطفل يتبع أباه، فإذا ثبت له الاسترقاق شاركه فيه، وأنّ المقتضي لحقن دمه واحترام ماله وولده هو التزامه بالذمّة، وقد خرقها بالقتل، فتجري عليه أحكام
أهل الحرب.
ومن أصالة بقاء حرّيتهم؛ لانعقادهم عليها، وعموم «وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى»
وخلوّ النص المتقدّم عن ذلك مع وروده في مقام الحاجة.
مع ضعف الأوجه السابقة، فالأوّل: بمنع التبعية كلّيةً حتى هنا، وإن هي إلاّ عين المتنازع، ولا دليل عليها أصلاً.
والثاني: بأنّه يوجب اشتراك المسلمين فيهم؛ لأنّهم فيء، أو اختصاص
الإمام (علیهالسّلام) بهم، لا اختصاص أولياء المقتول.
ولعلّه لذا قال الماتن: الأشبه: لا وهو كذلك، وفاقاً لكثير من متأخّري أصحابنا، تبعاً للحلّي
، وربما يعزى إلى
ابن بابويه والمرتضى.
خلافاً
للمفيد وجماعة
، وربما نسب إلى
الشيخ، لكن ذكر الشهيدان أنّه لم يجداه في كتبه
.
ولو أسلم الذمّي بعد القتل أي بعد قتله المسلم وقبل قتله به كان كالمسلم في عدم جواز استرقاقه، بل يتعيّن قتله أو العفو عنه، بلا خلاف، كما في الصحيح المتقدم.
وأخذ ماله باقٍ على التقديرين؛ للإطلاق، وبه صرّح
شيخنا في الروضة
، واحتمل بعض الأجلّة خلافه، قال: إذ لا يحل أخذ مال امرئ مسلم بغير وجه مقرّر
.
ولو قتل الذمّي خطأً لزمته الدية في ماله إن كان له مال ولو لم يكن له مال كان الإمام عاقلته دون قومه كما في الصحيح: «ليس بين أهل الذمّة معاقلة فيما يكون من قتل أو جراحة، إنّما يؤخذ ذلك من أموالهم، فإن لم يكن لهم مال رجعت (الجناية) على إمام المسلمين؛ لأنّهم يؤدّون إليه
الجزية كما يؤدّي العبد الضريبة إلى سيّده» قال: «وهم مماليك الإمام فمن أسلم منهم فهو حرّ»
.
وبه أفتى الشيخ في
النهاية والمتأخرون كافّة، ولكن لم يذكروه هنا، بل ذكروه في بحث عاقلة الذمّي من دون أن يذكروا خلافاً فيه ثمّة.
نعم في
المختلف والتنقيح حكي الخلاف فيه عن الحلّي، حيث حكم بأنّ عاقلته، الإمام مطلقا ولو كان له مال، وعن
المفيد أنّه قال: تكون الدية على عاقلته، ولم يفصّل. وتردّد فيه في المختلف، ولا وجه له؛ لما عرفته من الصحيحة الصريحة.
رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدّلائل، الطباطبائي، السيد علي، ج۱۶، ص۲۴۰-۲۴۸.