الموصي
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
ويعتبر فيه كمال العقل والحريّة وفي وصية من بلغ عشراً في
البرّ تردّد. ولو جرح نفسه بما فيه هلاكها ثم أوصى لم تقبل ولو أوصى ثم جرح قبلت وللموصي الرجوع في
الوصية متى شاء.
(ويعتبر فيه كمال العقل) فلا تصحّ من المجنون مطلقاً، ولو كان أدواريّاً إذا كانت حال جنونه، إجماعاً؛ لحديث
رفع القلم عن جماعة عُدّ منهم،
وعموم أدلّة
الحجر عليه.
ولا من السفيه مطلقاً، كما عن ابن حمزة وأحد قولي الفاضل؛
للأدلّة الأخيرة. وفي شمولها للحجر عليه في نحو مفروض المسألة مناقشة، وإن كان ظاهر الجماعة ذلك؛ لاختصاصها بحكم التبادر وغيره بالتصرفات الماليّة حال الحياة خاصّة.
فالأصح الجواز مطلقاً، وفاقاً للفاضل في قوله الثاني؛
للأصل، والعمومات السليمة عما يصلح للمعارضة، مع تأيّدها في الجملة بفحوى النصوص الآتية في صحّة وصية من بلغ عشراً في وجوه
البرّ ، ولعلّه لذا اختار الصحّة فيها جماعة، كالمفيد والديلمي والحلبي وابن زهرة
مدّعيا عليه
الإجماع في الغنية، ومنعوها في غيرها؛ جمعاً بين الأدلّة. وهو حسن إن صحّ شمول الأدلّة المانعة لنحو المسألة، والمناقشة فيه كما عرفت واضحة، إلاّ أن يكون الشمول إجماعاً من الجماعة.
(و) يعتبر فيه أيضاً (الحريّة) بلا خلاف أجده؛ والحجّة فيه بعده على المختار من عدم مالكيّته واضحة. وكذا على غيره؛ إمّا لعموم أدلّة الحجر عليه، كما ذكره بعض الأجلّة،
أو للمعتبرين.
أحدهما الصحيح : «في مكاتب قضى نصف ما عليه وأوصى بوصية فأجاز نصف
الوصية ، وفي مكاتب قضى ثلث ما عليه وأوصى بوصية فأجاز ثلث الوصية».
وثانيهما
المرسل كالموثق : في مكاتب أوصى بوصية قد قضى الذي كوتب عليه إلاّ شيئاً يسيراً، فقال : «يجوز بحساب ما أُعتق منه».
وبمضمونها من صحة الوصية من
المكاتب المطلق بقدر ما أدّى من وجه الكتابة صرّح في التذكرة.
ولا شبهة فيه؛ مضافاً إلى
الأصل والعمومات السليمة عن المعارض.
ثم إن المنع إنما هو إذا مات على العبودية. وأما لو عتق وملك ففي صحة وصيته حال الرقّية أم فسادها احتمالان. أجودهما الثاني، وفاقاً للتذكرة؛
لأصالة عدم الصحة السابقة. ووجّه الأوّل بأنه صحيح العبارة وقد أمكن تنفيذ وصيّته، وجعله في الدروس أحد قولي الفاضل،
وفي
التذكرة أظهر قولي الشافعية.
(وفي) صحة (وصية من بلغ) بحسب السن (عشراً) وكان مميّزاً صارفاً إيّاها (في البرّ) والمعروف، كبناء المساجد والقناطر، وصدقة ذوي
الأرحام (تردّد) ينشأ : من الأصل، وعموم أدلّة الحجر عليه من الكتاب والسنة. ومن العمومات، وقوّة احتمال
اختصاص تلك الأدلّة بالحجر عليه في التصرفات حال الحياة خاصّة. أو تخصيصها بخصوص (المروي)
من (الجواز) في الموثقات المستفيضة، وغيرها من الصحيح وغيره، المنجبر ضعفه كقصور الأوّلة عن الصحّة بالشهرة العظيمة المتقدّمة والمتأخّرة، كما اعترف بها الجماعة كافّة، بل ربما يستشعر من
الدروس الإجماع عليه،
وبه صرّح في الغنية؛
وهو حجّة أُخرى مستقلة.
ولا يقدح
إطلاق الجواز في بعضها من دون تقييد بالعشر، كالموثق : «يجوز طلاق الغلام إذا كان قد عقل وصدقته ووصيته وإن لم يحتلم».
لوجوب تقييده به، كما أفصح عنه باقيها، كالموثقات، في أحدها : «إذا بلغ الغلام عشر سنين جازت وصيّته».
وفي الثاني : عن وصية الغلام هل تجوز؟ قال : «إذا كان
ابن عشر سنين جازت وصيته»
ونحوهما الثالث،
وغيرها. وكذا لا يقدح تضمنه جواز
الطلاق و
الصدقة ، مع أن الأظهر الأشهر عدمه؛ بناءً على أن خروج بعض الرواية عن الحجّية لا يوجب خروجها عنها جملة. لكن الجواب بمثل هذا عن هذه الرواية لا يخلو عن مناقشة، إلاّ أن غاية ذلك خروجها عنها جملة، ولا ضير؛ فإن في البواقي كفاية إن شاء الله تعالى.
وهي وإن كانت أيضاً محل مناقشة سنداً في بعض، ودلالة بنحو ما مرّ من التضمّن لما لا يقولون به في آخر، إلاّ أن سلامة بعضها عن جميع ذلك، كالروايات المتقدمة، واعتضادها بالشهرة العظيمة وحكاية الإجماع المتقدمة، مضافاً إلى الأصل وإطلاقات بل عمومات لزوم إنفاذ الوصية السليمة عما يصلح للمعارضة من أدلّة الحجر عليه كما مرّت إليه الإشارة ـ كفتنا مئونة
الاشتغال بتصحيح تلك الأخبار، وأوجبت علينا المصير إلى القول بالصحة.
خلافاً للحلّي.
وهو شاذّ، ومستنده ضعيف كما مرّت إليه
الإشارة ، وإن ظهر من الماتن هنا تردّده فيها، كالشهيدين في المسالك والروضتين،
وكذلك الفاضل في المختلف،
حيث جعل المنع أحوط. وفي كونه أحوط مطلقاً نظر، بل يختلف في حق الوارث الغير المحجور عليه، والموصى له، فالاحتياط للأوّل
الإنفاذ ، وللثاني العدم كما ذكره.
ثم إن ظاهر إطلاق النصوص المتقدمة جوازها من ذي العشر مطلقاً ولو لم يكن مميّزاً، وقد اتّفق الأصحاب على
اشتراط التمييز ووضع الوصية في محلّها كما يفعله العقلاء. ولا ريب فيه؛ للأخبار الباقية، كالموثق : في الغلام ابن عشر سنين يوصي، قال : «إذا أصاب موضع الوصية جازت».
وفي الصحيح : «إذا بلغ عشر سنين فأوصى بثلث ماله في حقٍّ جازت وصيّته، فإذا كان ابن سبع سنين فأوصى من ماله اليسير في حقّ جازت وصيته».
وهذا بحسب الذيل شاذّ محجوج بإطلاق مفاهيم الأخبار السابقة، وإن كان ظاهر الفقيه العمل به كالنهاية،
لكنّه بدّل السبع بالثمانية.
ونحوه في الشذوذ والمحجوجية بمفاهيم الأخبار السابقة ما حكي عن
الإسكافي : من جواز وصية الذكر إذا كان له ثماني سنين، والجارية إذا كان لها سبع سنين، وكذا الرواية الدالة عليه،
مع أنها ضعيفة سنداً، مهجورة بين المسلمين كافّة؛ لظهورها في بلوغهما بتينك المدّتين، ولا قائل به حتى الإسكافي قطعاً، ولذا خصّ وصيّتهما خاصة من بين الأحكام التي دلّت عليها تلك الرواية بالذكر والفتوى، ولم يفتِ بباقيها. ونحوهما في ذلك الصحيح : «الغلام إذا حضره الموت فأوصى ولم يدرك جازت وصيته لذوي الأرحام ولم تجز للغرباء».
فإنّي لم أجد به قائلاً، وإن كان ظاهر الفقيه الراوي له القول به، إلاّ أنه لم ينسبه إليه أحد من أصحابنا كما نسبناه إليه في الرواية الأُولى، لكن حكاه في التذكرة قولاً،
وظاهره أن القائل منّا، حيث استدل له بهذه الرواية الخاصّية دون غيرها.
(ولو جرح نفسه بما فيه هلاكها) عمداً (ثم أوصى لم تقبل) على الأظهر الأشهر، بل لعلّه عليه عامة من تأخّر؛ للصحيح : «من قتل نفسه متعمّداً فهو في نار جهنّم خالداً فيها» قلت : أرأيت إن كان أوصى بوصية ثم قتل نفسه متعمّداً من ساعته تنفذ وصيته؟ قال : فقال : «إن كان أوصى قبل أن يحدث حدثاً في نفسه من جراحة أو فعل لعلّه يموت أُجيزت وصيّته في الثلث، وإن كان أوصى بوصية بعد ما أحدث في نفسه من جراحة أو فعل لعلّه يموت لم تجز وصيته».
خلافاً للحلّي، فصحّح وصيّته مع بقاء عقله؛
عملاً بالأُصول القطعية من الكتاب والسنة.
وهو شاذّ، والأُصول بما مرّ مخصّصة؛ لصحته، وصراحته، واعتضاده بالشهرة العظيمة التي كادت تكون إجماعاً، بل لعلّه لنا الآن إجماع في الحقيقة. ولولاها لأشكل المصير إليه؛ إما لعدم حجّية مثله من الآحاد كما اختاره، أو قصوره عن تخصيص نحو تلك العمومات، سيّما مع احتماله الحمل على صورة ذهاب عقله، ولا خلاف حينئذٍ في عدم العبرة بوصيته. وإطلاق العبارة وإن شمل صورتي
القتل عمداً وخطأً إلاّ أنه يجب تقييده بالأوّل، كما ذكرنا؛ اقتصاراً فيما خالف الأُصول على مورد النص، مع أن في
الروضة الإجماع عليه.
ثم إن المنع إنما هو حيث أوصى بعد الجرح.
(ولو أوصى ثم جرح قبلت) وصيّته مطلقاً، ولو كان عمداً، بلا خلاف، بل عليه الإجماع في التذكرة؛
وهو الحجة، مضافاً إلى الأُصول القطعيّة السليمة هنا عن المعارض بالكلية، مع التصريح بالصحة في الرواية السابقة. وفي حكمها لو أوصى ثم جنّ، أو صار سفيهاً إن منعنا عن وصيته.
(وللموصي الرجوع في الوصية متى شاء) في مرضٍ أو صحّة، بلا خلاف أجده، وبه صرّح في
المسالك وغيره؛
وهو الحجة. مضافاً إلى الأصل، وعدم ما يوجب اللزوم من عقد أو غيره ولو قبل قبل الموت، بناءً على المختار من عدم العبرة بالقبول قبله، وكذا على غيره إن لم يتحقق، ويشكل مع التحقق، لكن يندفع بالإجماع، وخصوص المعتبرة المستفيضة، المروية في الكتب الثلاثة :
منها الصحيحان، في أحدهما : «للرجل أن ينقض وصيّته فيزيد فيها وينقص منها ما لم يمت».
وفي الثاني : «للرجل أن يرجع في ثلثه إن كان أوصى في صحة أو مرض».
والموثق : «لصاحب الوصية أن يرجع فيها ويحدث في وصيته ما دام حيّاً».
ويتحقق الرجوع تارةً بالقول، كرجعت، أو نقضت، أو أبطلت، أو فسخت، أو هذا لوارثي، أو ميراثي، أو حرام على الموصى له، أو لا تفعلوا كذا، ونحو ذلك من الألفاظ الدالّة عليه. وأُخرى بالفعل، كبيع العين الموصى بها وإن لم يُقبضها، أو رهنها مع
الإقباض قطعاً، وبدونه على قول، أو هبتها كذلك، أو الوصية بها لغير من أوصى له أوّلاً، أو فعل ما يبطل
الاسم .
ويدلّ على الرجوع مثل طحن الطعام، وعجن الدقيق، وغزل القطن، ونسج مغزولة، أو خلطه بالأجود، أو مطلقاً على
اختلاف القولين، بحيث لا يتميّز. قيل : والأقوى أن مجرّد العرض على
البيع والتوكيل فيه وإيجابه وإيجاب العقود الجائزة كافٍ في الفسخ؛ لدلالته عليه، لا تزويج العبد و
الأمة ، وإجارتهما، وختانهما، وتعليمهما، ووطء الأمة بدون إحبالها.
وهو حسن حيث دلّت القرائن من عرف أو عادة أو نحوهما على الرجوع، ومع عدمها فينبغي الرجوع إلى أصالة عدم الرجوع. وبالجملة : الضابط فيه كلّ ما يدل عليه، لفظاً كان أو فعلاً، مع القرينة أو مجرّداً.
ولو شك في الرجوع لضعف الدلالة وفقد القرينة فالرجوع إلى
الأصالة المزبورة ضابطة. وما ذكره الأصحاب ممّا قدّمناه من الأمثلة لم يرد بشيء منها
أثر ولا رواية، وإنما استندوا فيها إلى هاتين الضابطتين. نعم، ورد في بعض ما ذكروه بعض المعتبرة : إنّ أبي أوصى بثلاث وصايا فبأيّهنّ آخذ؟ قال : «خُذ بأُخراهنّ» قلت : فإنّها أقلّ، فقال : «وإن قلّ».
ثم إن ما ذكروه من الحكم بالرجوع في تلك الأمثلة مختصّ بصورة كون العين متعلّق الوصية دون الكلّي، فلو أوصى به ثم تصرّف في أفراده لم يكن ذلك رجوعاً إلاّ مع القرينة. قيل : ومن الأصحاب من أطلق الحكم، ومنهم من عكس، وهو بعيد.
رياض المسائل، ج۱۰، ص۲۶۸- ۲۷۷.