زوال العدالة بالكبائر
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
ولا ريب في زوال
العدالة بالكبائر؛ وكذا في
الصغائر مصرا؛ واما الندرة من
اللمم فلا.
ولا ريب ولا خلاف في زوالها بالكبائر وقد مرّ من النصوص ثمة ما يدل علية.
ومنها
الصحيح: بم تعرف عدالة الرجل من المسلمين حتى تقبل شهادته لهم وعليهم، فقال: «أن تعرفوه بالستر،
والعفاف، وكفّ البطن والفرج واليد واللسان، وباجتناب
الكبائر التي أوعد الله تعالى عليها
النار من
شرب الخمر،
والزناء،
والربا،
وعقوق الوالدين، والفرار من الزحف، وغير ذلك»
الخبر.
وقد اختلف
الفقهاء في تفسيرها اختلافاً شديداً، إلاّ أنّ الذي عليه أكثرهم كما في
التنقيح هو أنّها كل ذنب توعّد الله تعالى
بالعقاب في
الكتاب العزيز. وهو الذي عليه المشهور من أصحابنا كما صرّح به جمع منهم، ومنهم
صاحب الذخيرة وبعض المتأخرين عنه
، وزاد الأوّل فقال: ولم أجد في كلامهم اختيار قول آخر.
أقول: وهو كذلك، ولذا نسبه
الصيمري إلى أصحابنا بصيغة الجمع المضاف المفيد للعموم، مشعراً بدعوى الإجماع عليه، وبه تشعر الصحيحة السابقة، ونحوها صحيحة أُخرى في تفسير «وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً»
قال: «معرفة
الإمام، واجتناب الكبائر التي أوعد الله تعالى عليها النار»
.
وهو مع ذلك ظاهر كثير من المعتبرة المستفيضة، بل صريحها.
ففي الصحيح: عن الكبائر كم هي وما هي؟ فكتب: «الكبائر من اجتنب ما أوعد الله تعالى عليه النار كفّر عنه سيئاته إذا كان مؤمناً، والسبع الموجبات: قتل النفس الحرام، وعقوق الوالدين، وأكل الربا، والتعرب بعد
الهجرة، وقذف المحصنة، وأكل
مال اليتيم، والفرار من الزحف»
.
وفيه: «الكبائر سبع: قتل
المؤمن متعمداً، وقذف المحصنة، والفرار من الزحف، والتعرب بعد الهجرة، وأكل مال اليتيم ظلماً، وأكل الربا بعد البيّنة، وكلّ ما أوجب الله عليه النار»
.
وفي الخبر: عن الكبائر، فقال: «ما أوعد الله تعالى عليه النار»
.
وفي آخر: في قول الله تعالى «إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ»
الآية «الكبائر التي أوجب الله تعالى عليها النار»
.
إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة.
وفي الصحيح: «هي في كتاب
علي (علیهالسّلام) سبع: الكفر بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين، وأكل الربا بعد البيّنة، وأكل مال اليتيم ظلماً، والفرار من الزحف، والتعرب بعد الهجرة»
.
وعن مولانا
الرضا (علیهالسّلام) في رسالته إلى
المأمون: «هي
قتل النفس التي حرم الله، والزناء،
والسرقة، وشرب الخمر، وعقوق الوالدين، والفرار من
الزحف، وأكل مال اليتيم ظلماً،
وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهلّ به لغير الله من غير ضرورة، وأكل الربا بعد البيّنة،
والسحت، والميسر وهو
القمار، والبخس في المكيال والميزان، وقذف المحصنات،
واللواط، وشهادة الزور، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، ومعونة الظالمين والركون إليهم، واليمين الغموس، وحبس الحقوق من غير عسر،
والكذب،
والكبر،
والإسراف،
والتبذير،
والخيانة، وكتمان الشهادة، والاستخفاف بأولياء الله تعالى، والاستخفاف بالحجج، والاشتغال بالملاهي، والإصرار على الصغائر من
الذنوب»
.
ووجه الجمع بين الأخبار السابقة وهذه الأخبار ونحوها المتوهم تعارضها لها من حيث تضمن هذه تعداد الكبائر، وحصرها في عدد مخصوص من سبع كما في الأوّل ونحوه، أو ما زاد كما في الباقي، وهو مناف لما تضمنته تلك من أنّها ما أوجب الله تعالى عليه النار، وهو يزيد عن الأفراد المعدودة في هذه النصوص وترتقي إلى سبعمائة كما عن
ابن عباس وتبعه من الأصحاب جماعة
ما ذكره بعض الأصحاب من أنّه يجوز أن يكون مراتب الكبائر مختلفة بأن يكون السبع أكبر من الباقي
.
أقول: ويعضده بعض الصحاح المتقدمة المتضمنة لأنّها سبع بعد الحكم فيه بأنّها ما أوجب عليه النار.
وأظهر منه الخبران
: «أكبر الكبائر سبع:
الشرك بالله العظيم، وقتل النفس التي حرّم الله تعالى إلاّ بالحق، وأكل مال اليتيم، وعقوق الوالدين،
وقذف المحصنات، والفرار من الزحف، وإنكار ما أنزل الله تعالى عزّ وجلّ».
هذا، ويحتمل حمل الأخبار الأخيرة المتضمنة للتعداد على التمثيل، لا الحصر. ويؤيّده اختلافها في بعض الأفراد المعدودة فيها.
وكذا لا ريب في زوالها بالصغائر وهي ما عدا الكبائر إذا كان مصرّاً عليها، ولا خلاف فيه أيضاً؛ فإنّ الإصرار عليها يلحقها بالكبائر، ولذا ورد: «لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع
الاستغفار»
.
واختلفوا في المراد من الإصرار على أقوال، فقيل: هو الإكثار منها، سواء كان من نوع واحد أو من أنواع مختلفة
. وقيل: المداومة على نوع واحد منها:
وقيل: يحصل بكلٍّ منهما
وفيه : ولعل الإصرار يتحقق بكل منهما. ونقل بعضهم قولاً بأنّ المراد به عدم
التوبة. وضعّفه جماعة من المحققين
، مع أنّه ورد في النصوص ما يدل عليه، كالخبر: في قول الله عزّ وجلّ «وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ» قال: «الإصرار أن يذنب الذنب فلا يستغفر، ولا يحدّث نفسه بتوبة»
.
ولعلّه لضعف
السند، مع مخالفته لما يستفاد من كلام جماعة من أهل اللغة من كون المراد بالإصرار المداومة عليه أو العزم على المعاودة، قال
الجوهري: أصررت على الشيء، إذا أقمت ودمت عليه
.
وقال
ابن الأثير: أصرّ على الشيء يصرّ إصراراً إذا لزمه وداومه وثبت عليه
.
وقال في
القاموس: أصرّ على الأمر لزم
. وقريب منه كلام
ابن فارس في
المجمل.
وقسّم
الشهيد الإصرار إلى فعلي وحكمي، فالفعلي: هو الدوام على نوع واحد من الصغائر بلا توبة، أو الإكثار من جنس الصغائر بلا توبة، والحكمي: هو العزم على فعل تلك الصغيرة بعد الفراغ منها
. وقد ارتضاه جماعة من المتأخّرين، كشيخنا
الشهيد الثاني في
المسالك والروضة،
والفاضل المقداد في
كنز العرفان.
والنص خال عن بيان ذلك، لكن المداومة على نوع واحد من الصغائر، والعزم على فعل تلك الصغيرة بعد الفراغ منها يناسب المعنى اللغوي، بل العرفي المفهوم من الإصرار، على تأمّلٍ في الأخير.
وأمّا الإكثار من الذنوب وإن لم يكن من نوع واحد بحيث يكون ارتكابه للذنب أغلب من اجتنابه عنه إذا عنّ له من غير توبة فالظاهر أنّه قادح في
العدالة، بلا خلاف بينهم في ذلك أجده، وبه صرّح بعض الأجلّة
، وفي
التحرير الإجماع عليه
. فلا فائدة في تحقيق كونه داخلاً في مفهوم الإصرار أم لا.
ويفهم من عبارة جماعة
كالفاضل في
الإرشاد والقواعد والتحرير
أنّه غير داخل في معنى الإصرار. وعلى كل تقدير فالمداومة على الذنب أو الإكثار منه قادح في العدالة قطعاً.
وأمّا العزم عليه بعد الفراغ ففي كونه قادحاً تأمّل إن لم يكن ذلك اتفاقياً.
أمّا الندرة من اللمم وصغائر الذنوب مع عدم العزم عليها ثانياً فلا تزول بها العدالة على الأقوى، وفاقاً
للإسكافي والمبسوط وابن حمزة والفاضلين والشهيدين
، وغيرهم من سائر المتأخّرين
، بل عليه عامّتهم؛ لظاهر بعض الصحاح المتقدمة المعرِّف للعادل بمجتنب الكبائر خاصّةً من دون تعرض فيه للصغائر بالمرّة. وذلك بناءً على الفرق بينهما كما سيأتي إليه الإشارة.
هذا مضافاً إلى ما ذكروه من أنّ زوال العدالة بمثل ذلك يوجب عدم وجود عادل أصلاً؛ إذ
الإنسان لا ينفك عن الصغائر إلاّ
المعصوم (عليهالسلام)، وفي ذلك تعطيل للأحكام الكثيرة المبتنية على وجود العدل، وتفويت للمنافع العظيمة الدينية والدنيوية، وتضييع للحقوق بالكلية، وفيه من الحرج والضيق ما لا يخفى على ذي دُرْبَة، وقد قال سبحانه «ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ»
وقال عزّ شأنه «يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ» الآية
.
خلافاً
للمفيد،
والقاضي،
والحلبي،
والشيخ في
العدة،
وأبي علي الطبرسي،
والحلّي، فقالوا بقدح ذلك في العدالة، بناءً منهم على أنّ كل ذنب كبيرة، ولا صغيرة إلاّ بالإضافة، وظاهر الشيخ ومن ذكر بعده كونه مجمعاً عليه بين الطائفة. وعلى هذا فلا تنافي مذهبهم الصحيحة المتقدمة.
والوجه الاعتباري المذكور بعدها قد اعترضه الحلّي بأنّه متّجه إن لم يمكن تدارك
الذنب بالاستغفار، والحال أنّه ممكن به وبالتوبة.
وفي كلّ من البناء والاعتراض نظر:
أمّا الأوّل: فلأنّ الأظهر الأشهر الذي عليه عامّة من تأخّر انقسام الذنب إلى كبيرة وصغيرة حقيقةً؛ لما يظهر من
الآية الكريمة «إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ»
الآية. والنصوص المستفيضة بل
المتواترة.
منها ـ زيادةً على المستفيضة المتقدمة الدالّة على تفصيل الكبائر ـ الخبر: «إنّ الأعمال الصالحة تكفّر الصغائر»
.
وفي آخر: «من اجتنب الكبائر كفّر الله تعالى عنه جميع ذنوبه، وذلك قول الله تعالى «إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً»
.
وفي ثالث: عن قول الله عزّ وجلّ «إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ» هل تدخل الكبائر في مشيئة الله تعالى؟ قال: «نعم ذاك إليه عزّ وجلّ إن شاء عذّب عليها وإن شاء عفا»
.
وقريب منه خبران آخران
. ويشهد له الأخبار الواردة في
ثواب بعض الأعمال أنّه يكفّر الذنوب إلاّ الكبائر
، وأمثال ذلك.
وبالجملة: تخصيص الكبيرة ببعض أنواع الذنوب في الأخبار أكثر من أن تحصى. ولا معارض لها صريحاً بل ولا ظاهراً عدا
الإجماع المستفاد من كلمات من تقدم، وما دلّ من الأخبار على أنّ كل معصية شديدة وأنّها قد توجب لصاحبها النار
، وما دل منها على التحذير من استحقار الذنب واستصغاره
.
ولا شيء منهما يصلح للمعارضة، أمّا الإجماع: فـ بعد الإغماض عن وهنه في أمثال ما نحن فيه إنّه معارض بما مرّ من
الصيمري من نسبة تعريف الكبائر بما أوعد الله تعالى عليه النار إلى الأصحاب، وهو يستلزم أنّ الذنوب التي لم يتوعّد الله عليها بالنار ليست كبائر عندهم، فلا يبقي بعد ذلك إلاّ أن يكون صغائر.
مع أنّه جعل هذا القول الذي عمّم فيه الكبائر لجميع الذنوب مقابلاً لما نسبه الى الأصحاب. وعن شيخنا
البهائي في
الحبل المتين أنّه عزا المختار إلى الأصحاب معرباً عن دعوى الإجماع عليه، هذا.
وقد عرفت استفاضة نقل الشهرة على تخصيص الكبيرة بما نسبه الصيمري إلى الأصحاب كافّة، فالإجماع المستظهر من كلامهما يترجح بها على الإجماع المستظهر من عبائر هؤلاء الجماعة.
وأمّا الروايات: فنحن نقول بمضمونها من أنّ كلّ ذنب شديد؛ لاشتراكها في معصية
الربّ المجيد، إلاّ أنّ مجرّد ذلك لا يوجب كون الجميع كبائر بمعنى ما توعّد عليه بالنار كما استفيد من الأخبار.
مع أنّها على تقدير تسليم وضوح دلالتها لا تعارض الآيات والأخبار التي قدّمنا؛ لاستفاضتها، بل وتواترها، واعتضادها بفتوى عامّة متأخّري أصحابنا بحيث كاد أن يكون ذلك منهم إجماعاً.
وأمّا الثاني: فلما ذكره جماعة
أوّلاً: من أنّ
التوبة متوقفة على العزم على عدم المعاودة، والعزم على ترك الصغائر متعذّر أو متعسّر؛ لأنّ الإنسان لا ينفك عنه غالباً، وكيف يتحقق منه العزم على تركها أبداً مع ما جرت من حاله وحال غيره من عدم الانفكاك منها غالباً.
وثانياً: أنّه لا يكفي في التوبة مطلق الاستغفار وإظهار
الندم حتى يعلم من حاله ذلك، وهذا قد يؤدّي إلى زمان طويل يفوت معه الغرض من
الشهادة ونحوها، فيبقى العسر والحرج بحالهما.
وفي الأوّل نظر؛ لمنع توقف التوبة على ما ذكر من العزم كما عن جمع
، قيل: وفي بعض الأخبار
دلالة عليه. مع أنّه لو تمّ لزم منه عدم وجوب التوبة عن صغار الذنب بل وكباره إذا جرّب الإنسان من حاله عدم الانفكاك منها في أغلب أحواله، وهو خلاف الإجماع على الظاهر المصرح به في كلام بعض
الأصحاب.
والثاني أيضاً لا يخلو عن نظر، هذا.
ولا ريب أنّ اعتبار ترك مطلق الذنوب أحوط، كما يستفاد من الخبر: «فمن لم تره بعينك يرتكب ذنباً أو لم يشهد عليه بذلك شاهد ان فهو من أهل العدالة والستر، وشهادته مقبولة، وإن كان في نفسه مذنباً»
الحديث.
رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدّلائل، الطباطبائي، السيد علي، ج۱۵، ص۲۴۸-۲۵۹.