عصر الاجتهاد
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
أنّ
اكتمال الأحاديث والنصوص المبيّنة للشريعة الصادرة من قبل
الأئمة عليهم السلام من ناحية، وتخرّج الكثيرين من الفقهاء الأفذاذ والعلماء الكبار ممّن تربّى على أيديهم من ناحية ثانية، وتزايد الضغوط والمراقبة عليهم من قبل الحكّام الجائرين من ناحية ثالثة، وتضافر الناس واقبالهم على مذهب أهل البيت تدريجياً من ناحية رابعة.
كل هذه الجهات وغيرها دعت
الأئمة المتأخرون إلى التمهيد لاستقلالية
الفقه والفقهاء و
اعتماد الشيعة على أنفسهم بالتدريج، وذلك بأمرهم عليهم السلام الناس بالرجوع إلى الفقهاء ورواة أحاديثهم، والذين اطلق عليهم فيما بعد نوّاب الامام، وعبّر عن وظيفتهم الشرعية بالنيابة العامّة، وعن رجوع الناس اليهم بالتقليد.
وهذا التمهيد كان قد بدأ به قبل عصر الغيبة من قبل الأئمة المتأخرين، حيث كانوا في موارد خاصّة يُرجعون شيعتهم في الأقطار الاسلامية البعيدة عنهم إلى بعض الفقهاء أمثال:
زكريا بن آدم ، و
يونس بن عبد الرحمن (ت/ ۲۰۸ ه)، وغيرهم ليأخذوا عنهم معالم دينهم؛ إلّا انّه حصل بشكل عام في عصر الغيبة الصغرى وأصبح منحصراً فيه ومتعيّناً بانتهاء هذا العصر وبدء
الغيبة الكبرى ، وقد أعلنتها جملة من النصوص من قبيل التوقيع المعروف الصادر من
الناحية المقدّسة عليه السلام الذي رواه
اسحاق بن يعقوب ، قال: «سألت
محمّد بن عثمان العمري أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليّ، فورد التوقيع بخطّ مولانا
صاحب الزمان عليه السلام : أمّا ما سألت عنه أرشدك اللَّه وثبّتك... - إلى أن قال-: وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا؛ فانهم حجتي عليكم وأنا حجّة اللَّه عليهم».
وكان مبدأ هذا العصر في عام ۳۲۹ ه الذي وقعت فيه الغيبة الكبرى بوفاة السفير الرابع وهو
مستمر إلى يوم يفرّج اللَّه سبحانه على العالم بظهور
الامام المنتظر- عجّل اللَّه له الفرج - ليملأ
الأرض عدلًا وقسطاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً. وقد خرج قبل ستة أيّام من وفاة السفير الرابع
أبو الحسن علي بن محمّد السمري من قبل الناحية الشريفة توقيعاً يعلن ذلك، ونسخته على ما في
كتاب الغيبة للشيخ الطوسي قدس سره:
«يا علي بن محمّد
السمري أعظم اللَّه أجر اخوانك فيك، فانّك ميّت ما بينك وبين ستة أيّام، فاجمع أمرك، ولا توص إلى أحد فيقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة التامّة، فلا ظهور إلّا بعد اذن اللَّه تعالى ذكره، وذلك بعد طول
الأمر وقسوة القلوب و
امتلاء الأرض جوراً، وسيأتي شيعتي من يدّعي المشاهدة، ألا فمن ادّعى المشاهدة قبل خروج
السفياني والصيحة فهو كذّاب مفترٍ، ولا حول ولا قوّة إلّا باللَّه العلي العظيم».
وقد مرّ فقه أهل البيت عليهم السلام على أيدي فقهاء هذه المدرسة في عصره الثاني بمراحل عديدة من
الانطلاق والتطوّر والكمال، يمكن بيانها ضمن المراحل التالية:
•
دور تأسيس الفقه الاجتهادي، ويبدأ هذا الدور من عصر الغيبة (منتصف القرن الثالث الهجري) وينتهي في أوائل القرن الخامس الهجري.
•
دور انطلاق الفقه الاجتهادي ، ويبدأ هذا الدور بعهد
الشيخ الطوسي قدس سره ۴۶۰ ه أي من أوائل القرن الخامس الهجري إلى عهد
المحقق الحلّي صاحب كتاب
شرائع الإسلام ۶۷۶ ه أي منتصف القرن السابع الهجري. ومن أعلام هذا الدور: الشيخ أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي ۴۶۰ ه ، ومحمّد بن علي بن أبي حمزة العلوي ۵۷۰ ه ، و
القاضي عبد العزيز بن البرّاج الطرابلسي ۴۸۱ ه ، وحمزة بن علي بن زهرة الحسيني الحلبي ۵۸۵ ه ، و
قطب الدين الراوندي ۵۷۳ ه ، والشيخ محمّد بن إدريس الحلّي ۵۹۸ ه ، وغيرهم.
•
دور استقلال الفقه الاجتهادي ، ويبدأ هذا الدور من منتصف القرن السابع أي من عصر المحقق الحلّي ۶۷۶ ه
ويستمر باستمرار النشاط الفقهي لأعلام هذا الدور حتى نهاية القرن العاشر، أي زمن
الشهيد الثاني ۹۶۶ ه .
•
دور التطرف في الفقه الاجتهادي ، وهذا هو الدور الرابع من الأدوار التي مرّت بالفقه الاجتهادي عند الامامية، ويبدأ بعصر
المحقق الأردبيلي قدس سره ۹۹۳ ه ، أي في العقود الأخيرة من القرن العاشر
واستمر إلى العقود الأخيرة من القرن الثاني عشر.
•
دور اعتدال الفقه الاجتهادي ، ويبدأ هذا الدور بالتصدي للاتجاه الاخباري المتطرّف من قبل عدّة من الفقهاء ذوي النباهة وحرية الفكر وعمقه وأصالته كالسيد حسين بن جمال الدين الخوانساري الكبير (ت/ ۱۰۹۸ ه) ومعاصره
الشيخ محمّد بن الحسن الشرواني (ت/ ۱۰۹۸ ه) وابنه جمال الدين (ت/ ۱۱۲۵ ه) وتلميذ ولده صدر الدين بن محمّد باقر الرضوي القمي (ت/ ۱۱۶۰ ه) الذين مهّدوا لظهور المدرسة الاصولية المعمّقة والأصيلة على يد الفقيه والمحقق الكبير السيد محمّد باقر بن محمّد أكمل المعروف بالوحيد البهبهاني (ت/ ۱۲۰۵ ه) في أواخر القرن الثاني عشر الهجري، والذي استطاع أن يقضي على
الاتجاه الاخباري ، ويعيد المؤسسة الفقهية الامامية إلى حركتها الاصولية السويّة ومسيرتها الصحيحة بعد صراع مرير بين اتجاهين متطرّفين دام قرابة قرنين من الزمن.
•
دور اكتمال الفقه الاجتهادي ، وهذا الدور هو امتداد للدور المتقدم و
استمرار لنفس المنهج الفقهي الذي أرست وثبّتت مبانيه مدرسة
الوحيد البهبهاني وتلامذته الفقهاء العظام، إلّا انّه قد بلغ هذا المنهج عبر جيلين من فقهاء هذه المدرسة- وعلى يد أحد الأفذاذ منهم وهو
الشيخ الأنصاري قدس سره ۱۲۸۱ ه - القمّة في النضج والعمق والشمول بحيث يمكن اعتباره عصراً جديداً في تاريخ الفقه واصوله، كما يتضح ذلك من المقارنة بين كتابي هذا الفقيه العظيم في
الفقه والاصول المكاسب في فقه المعاملات و
فرائد الأصول مع مصنفات في نفس الموضوع لفقهاء هذه المدرسة قبل الشيخ، فإنّ الفارق بينهما يعد فارقاً كبيراً في المضمون والمنهجية وصناعة
الاستدلال ؛ حيث استطاع الشيخ الأعظم أن يوسّع من المنهج الاصولي الذي أسّسه الوحيد البهبهاني وتلامذته فيستحدث نظريات جديدة، ويضع مصطلحات حديثة، ويبرز
أصالة المنهج الاصولي ويلقي الضوء على مسائل وقواعد اصولية كانت مغفولًا عنها، أو تبحث بصورة مختصرة قبل ذلك، وقد سمّيت بمباحث الاصول العقلية في قبال الاصول اللفظية.
وتجدر
الإشارة إلى أنّ النظر في تقسيم هذه المراحل إلى: طبيعة المادة الفقهية، ومنهج الفقاهة و
الاجتهاد في كل مرحلة، لا الجهات التاريخية الاخرى.
الموسوعة الفقهية، ج۱، ص۴۷- ۷۷.