دور اعتدال الفقه الاجتهادي
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
ويبدأ هذا الدور بالتصدي للاتجاه الاخباري المتطرّف من قبل عدّة من الفقهاء ذوي النباهة وحرية الفكر وعمقه وأصالته كالسيد حسين بن جمال الدين الخوانساري الكبير (ت/ ۱۰۹۸ ه) ومعاصره الشيخ محمّد بن الحسن الشرواني (ت/ ۱۰۹۸ ه) وابنه جمال الدين (ت/ ۱۱۲۵ ه) وتلميذ ولده
صدر الدين بن محمّد باقر الرضوي القمي (ت/ ۱۱۶۰ ه) الذين مهّدوا لظهور المدرسة الاصولية المعمّقة والأصيلة على يد
الفقيه والمحقق الكبير السيد محمّد باقر بن محمّد أكمل المعروف بالوحيد البهبهاني (ت/ ۱۲۰۵ ه) في أواخر القرن الثاني عشر الهجري، والذي استطاع أن يقضي على
الاتجاه الاخباري ، ويعيد المؤسسة الفقهية الامامية إلى حركتها الاصولية السويّة ومسيرتها الصحيحة بعد صراع مرير بين اتجاهين متطرّفين دام قرابة قرنين من الزمن.
وقد قام هذا الفقيه بمواجهة كلا الاتجاهين وتصحيح عملية
الاجتهاد في الفقه الامامي عمّا لحقت بها من شبهات وانحرافات نتيجة التطرّف المشار إليه في كل من الاتجاهين المتقدّمين. فمن ناحية استطاع أن يدافع بقوّة ومتانة عن آراء المشهور من فقهائنا المتقدّمين الذين ناقش آراءهم
المحقّق الأردبيلي (ت/ ۹۹۳ ه)، فأوضح
بطلان جملة من تلك النقود وعدم صحتها من الناحية العلمية.
كما انّه عالج مشكلة توثيق الأسانيد والرواة في تعليقته على الرجال الكبير، وهو
منهج المقال ؛ للاسترآبادي ت/ ۱۰۲۸ ه، وهي عبارة عن شرح لطيف مفيد نافع مبدوء بفوائد خمس رجالية، وإليه يرجع العلماء حتى اليوم، وبهذا دفع التطرّف الذي سار عليه أصحاب الاتجاه الأوّل.
ومن ناحية اخرى- وهي الأساسية في حياته- صمّم بكل عزيمة و
إصرار على مواجهة الاتجاه الاخباري وما أثاره من الغبار والجدال بوجه اصول الفقه الامامي. فقد وضّح هذا العَلَم معنى الاجتهاد في الفقه الامامي وانّه يختلف عن الاجتهاد عند العامّة، ولا ينبغي أن يكون التشابه اللفظي بينهما منشأً لتوهم انّ ما ورد في بعض الروايات من الردّ على
أهل الرأي والاجتهاد من العامة يشمل هذا الاجتهاد، فإنّ هذا من
الاجتهاد في فهم النصوص المأثورة عنهم وتفريع الفروع على الاصول والقواعد التي ألقوها وعلاج حالات التعارض والاختلاف بينها.
وهذا- مضافاً إلى انّه ليس منهياً عنه- مستفاد من رواياتهم وأحاديثهم الدالّة على انّه عليهم
إلقاء الاصول وعلينا التفريع
أو ما ورد في بعض الروايات في حكم المسح لمن عثر فوقع وانقطعت ظفر
ابهامه فوضع عليه مرارة حيث قال الامام عليه السلام: «يعرف هذا وأشباهه من كتاب اللَّه عزّ وجل (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)
امسح عليه»
وغير ذلك من النصوص التي تدلّ على تدريب
الأئمة عليهم السلام لأصحابهم كيفية الاجتهاد في فهم النصوص وتطبيقها و
الاستفادة منها.
كما أنّه من خلال إفادات هذا العلم اتضحت الحاجة إلى علم اصول الفقه، وانّه من دون ذلك لا يمكن أن يتمّ
استنباط الحكم الشرعي؛ لأنّه
بالابتعاد عن زمان صدور النصوص والأحاديث وعدم قطعية اسناد أكثر الروايات المنقولة الينا لخفاء القرائن والامارات التي يمكن على أساسها القطع بصدورها، لا بدّ من
الاستناد في مجال تفريغ الذمّة عن الأحكام الشرعية المعلومة اجمالًا إلى الحجج الشرعية المتمثلة في الامارات الشرعية (
الأدلّة الاجتهادية ) أو الاصول العملية (الأدلّة الفقاهتية)، وانّه لا بدّ من
إثبات ذلك بدليل شرعي قطعي أو عقلي كذلك، وهذا وأمثاله ممّا يتكفله علم اصول الفقه.
كما اتضحت على يدي هذا العلَم الفروق بين
أصول الفقه عند الشيعة واصول الفقه عند العامّة، فإنّ القواعد التي يبحث عنها في اصول الفقه الامامي ترجع إلى قواعد لفظية تنقّح دلالات الدليل اللفظي، أو قواعد شرعية مستفادة من الروايات كالاستصحاب والبراءة وحجّية أخبار الثقات وأحكام التعارض بين الروايات وعلاجه، أو مدركات عقلية نظرية أو عملية قطعية تقدم بيان دورها في مجال الاستنباط سابقاً، فليس البحث الاصولي في الفقه الامامي بحثاً عن الأقيسة و
الاستحسانات والظنون، بل على العكس من ذلك يتعرّض فيه- ولو عرضاً- إلى عدم حجّية مثل هذه الظنون، حتى إذا قيل بحجية مطلق الظن كما توهّمه بعض الاصوليين وسمّي بدليل
الانسداد .
واتضح أيضاً في هذا الدور الفقهي بشكل آكد وأوضح مبنى حجّية
الإجماع عند الشيعة، وانّه ليس كما ذهب إليه العامّة من كونه دليلًا مستقلًا على الحكم الشرعي، بل الاجماع إذا تمت شروطه وأمكن تحصيله من القدماء يمكن أن يكون كاشفاً عن السنة وتلقي الحكم من المعصوم عليه السلام.
وفي هذا الدور أيضاً، وعلى يد هذا العلَم وتلامذته، تطوّر علم الاصول واتّسع في طبيعة مسائله، وفي أنحاء
الاستدلال ، وفي تقسيم أبحاثه، فلم تعد أبحاثه هي تلك المسائل اللغوية أو العقلية المبحوثة في كتب اصول الفقه سابقاً، ولا بتلك المنهجية والاستدلالات، بل بمنهج جديد قسمت مباحثه إلى قسمين رئيسين: مباحث الألفاظ ومباحث الأدلّة العقلية، وتوسّع البحث فيها عن جملة من الاصول العملية الشرعية كأصل
البراءة الشرعية في الشبهات الوجوبية والتحريمية- وقد منعها الاخباري- وأصل
الاستصحاب في موارد اليقين السابق، وأصل
الاحتياط في موارد العلم الاجمالي أو الشك في
الامتثال .
وأيضاً، قسّمت الأدلّة إلى: الأدلّة الاجتهادية، والتي تدلّ على الحكم الشرعي الواقعي وتثبته اثباتاً قطعياً أو تعبدياً. والأدلّة الفقاهتية، التي لا تثبت الحكم الشرعي الواقعي ولا تشخصه وإنّما تقرّر الوظيفة العملية تجاه الحكم الواقعي المشتبه، فإنّ هذه الفكرة التي هي اليوم من مسلّمات اصول الفقه الشيعي ومن مبتكرات هذا الدور الفقهي. والحق انّه قد تحقّقت صحوة اصولية وفقهية عظيمة على يد
الوحيد البهبهاني اعتدل بها منهج الفقه الامامي، ووجد مساره الأصيل المستقل عن المناهج الفقهية الاخرى، وعمّا كان يثار بوجهه من الغبار والشبهات المتطرّفة.
وقد كان لاجتماع هذا العلَم مع العلَم الاخباري
المحدّث البحراني صاحب الحدائق (ت/ ۱۱۸۶ ه) في حاضرة
كربلاء العلمية دور كبير في تحقيق هذه الصحوة وسرعتها من خلال مناقشات هذين العلمين بشكل علمي منفتح ومتواصل، كما كان لتقواهما وسلامتهما
الأثر الكبير في انفتاح طلابهما على الحقائق العلمية التي كان الوحيد البهبهاني قوياً في تهذيبها وعرضها وتقريبها إلى أجيال من الفقهاء الذين تربّوا في مجالس درس هذين العلَمين.
وقد أثّرت النقود والشبهات التي أثارها الاخباريون إلى منهج الاجتهاد الاصولي في نضج الفكر الاصولي وتقويته؛ لأنّه استدعى
إحكام الاسس والاصول من خلال طرح تلك الانتقادات والشبهات وتفنيدها ودفعها، والكشف عن اللبس والتأثرات التي كانت تسودها بمنهج علمي ومنطقي، كما انّ الدفاع العلمي الذي قامت به مدرسة الوحيد البهبهاني قدس سره أثّر كثيراً على الفكر الاخباري حتى جعل فقيههم الأوحد الشيخ البحراني (ت/ ۱۱۸۶ ه) يميل نحو
الاعتدال - كما أشرنا آنفاً- فيقبل الاجتهاد الفقهي، ويقبل الاجماع في حالة كونه كاشفاً عن السنّة- وهو المقصود منه في هذا الفقه- ويتراجع عن جملة مما كان قد تطرّف فيه الرعيل الأوّل من الاخباريين.
وقد تخرّج من مدرسة الوحيد البهبهاني طبقات من كبار الفقهاء العظماء والمحققين أمثال:
السيد مهدي بحر العلوم (ت/ ۱۲۱۲ ه)، و
الشيخ جعفر كاشف الغطاء (ت/ ۱۲۲۸ ه)، والسيد علي صاحب
رياض المسائل (ت/ ۱۲۳۱ ه)، و
الميرزا القمي (ت/ ۱۲۳۱ ه)، والسيد محمّد المجاهد (ت/ ۱۲۴۲ ه)، والشيخ محمّد شريف بن حسن المازندراني المعروف بشريف العلماء (ت/ ۱۲۴۵ ه)، والنراقيين-
المولى محمّد مهدي النراقي (ت/ ۱۲۰۹ ه) والمولى أحمد بن محمّد مهدي (ت/ ۱۲۴۴ ه)- وغيرهم. كما انّه قد تخرج على يد هؤلاء فقهاء كبار أمثال: الشيخ محمّد حسين بن عبد الرحيم الطهراني صاحب
الفصول الغروية (ت/ ۱۲۵۰ ه)والشيخ محمّد تقي الاصفهاني صاحب كتاب
هداية المسترشدين في شرح معالم الدين (ت/ ۱۲۴۸ ه) والشيخ محمّد حسن النجفي صاحب
جواهر الكلام في شرح شرائع
الإسلام (ت/ ۱۲۶۶ ه).
ويمكن القول بأنّ فروع الشجرة المباركة لفقهاء مدرسة أهل البيت عليهم السلام في هذين القرنين- الثاني عشر والثالث عشر- ترجع بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلى الوحيد البهبهاني قدس سره، ولذلك يطلق عليه لقب (استاذ الكلّ) أو (الاستاذ الأكبر) وهو لقب يختص به الوحيد البهبهاني قدس سره. ولقد حمل بحق هذا الفقيه الأوحد لواء الدعوة إلى المنهج الاصولي في الاجتهاد وواجه الاخباريين في النجف وبهبهان وكربلاء من خلال تأليفاته ودروسه ومحاوراته التي كان يجريها مع العلماء الاخباريين، وقد حلّ في بهبهان ثلاثين سنة، وكانت هذه المدينة تضمّ يومئذ جمعاً من فقهاء البحرين الاخباريين، فتحوّلت الحوزة العلمية في عهده في هذه المدينة إلى الاتجاه الاصولي، ثمّ انتقل إلى كربلاء والتي كانت هي الاخرى بسبب وجود المحدّث البحراني (ت/ ۱۱۸۶ ه) حوزة أخبارية، فحوّلها الوحيد البهبهاني إلى اصولية، وبقي فيها إلى آخر عمره ووفاه الأجل فيها.
وكان مجلس درسه في كربلاء عامراً بكبار الفقهاء، وقد تحوّل إليه فضلاء تلاميذ الشيخ البحراني الذي كان زعيم الحوزة واستاذها قبل قدوم الوحيد إلى كربلاء، فاستطاع أن يستقطب الحوزات العلمية كلّها ويربّي أجيالًا من الفقهاء الفطاحل من بعده، وكان همّه الأوّل خلال هذه الفترة تكريس الاتجاه الاصولي السليم ونقض ونقد الاتجاه الاخباري وإعادة الانسجام والاعتدال إلى فقه أهل البيت عليهم السلام. كما خلّف الوحيد البهبهاني من بعده كتباً قيّمة من آثاره وأفكاره في الاصول والفقه والحديث والرجال وغير ذلك، فقد ذكر تلميذه الشيخ أبو علي الحائري (ت/ ۱۲۱۶ ه) في منتهى المقال: «انّ تآليف الاستاذ تقرب من ستين كتاباً».
الموسوعة الفقهية، ج۱، ص۶۴- ۶۸.