الاختلاف في الدعوى
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
في بيان أحكام الاختلاف في
الدعوى، وفيه مسائل، الاولى: لو كان في يد رجل وامرأة
جارية فادعى أنها مملوكته وادعت المرأة حريتها وأنها بنتها، فان أقام أحدهما بينة قضي له وإلا تركت الجارية حتى تذهب حيث شاءت؛ الثانية: لو تنازعا عينا في يدهما قضي لهما بالسوية ولكل منهما احلاف صاحبه؛ ولو كانت في يد أحدهما قضي بها للمتشبث وللخارج احلافه؛ ولو كانت في يد ثالث وصدق أحدهما قضي له، وللآخر إحلافه؛ ولو صدقهما قضى لهما بالسوية؛ ولكل منهما احلاف الآخر وإن كذبهما أقرت في يده؛ الثالثة: اذا تداعيا خصا قضي لمن اليه القمط وهي رواية عمرو بن شمر عن
جابر، وفي عمرو ضعف؛ وعن
منصور بن حازم عن
أبي عبدالله (عليه السلام) أن
عليا (عليه السلام) قضى بذلك، وهي قضية في واقعة؛ الرابعة: إذا ادعى ابوالميتة عارية بعض متاعها كلف البينة وكان كغيره من الانساب؛ وفيه رواية بالفرق ضعيفة؛ الخامسة: اذا تداعى الزوجان متاع البيت فله ما للرجال، ولها ما للنساء وما يصلح لهما يقسم بينهما؛ وفي رواية: هو للمرأة وعلى الرجال البينة. وفي
المبسوط: اذا لم يكن بينة ويدهما عليه كان بينهما.
لو كان في يد رجل وامرأة جارية صغيرة فادّعى الرجل أنّها مملوكته، وادّعت المرأة حريتها وأنّها ابنتها، فإن أقام أحدهما بيّنة على ما يدّعيه قضي له بها وإلاّ يقيما البيّنة على المدّعى تركت الجارية تذهب حيث شاءت للخبر المروي في
الكافي في باب قبل باب النوادر من هذا الكتاب، وفي
التهذيب في أواسط باب تعارض البيّنات بسند فيه سهل، وضعفه على الأشهر سهل، بل قيل: ثقة
. مع أنّه في الأوّل بسند حسن كالصحيح
بابن محبوب المجمع على تصحيح ما يصح عنه
مروي.
وفيه: عن جارية لم تدرك بنت سبع سنين مع رجل وامرأة، ادّعى الرجل أنّها مملوكة له، وادّعت المرأة أنّها ابنتها، فقال: «قد قضى في هذا
عليٌّ (علیهالسّلام)» قلت: وما قضى في هذا؟ قال: «كان يقول: الناس كلّهم أحرار إلاّ من أقرّ على نفسه بالرقّ وهو مدرك. ومن أقام بيّنة على عبد أو أمة فإنّه يدفع إليه يكون له رقّاً» قلت: فما ترى أنت؟ قال: «أرى أن أسأل الذي ادّعى أنّها مملوكة له بيّنة على ما ادّعى، فإن أحضر شهوداً يشهدون أنّها مملوكة له لا يعلمونه باع ولا وهب، دفعت الجارية إليه حتى تقيم المرأة من يشهد لها أنّ الجارية ابنتها حرّة مثلها، فلتدفع إليها وتخرج من يد الرجل» قلت: فإن لم يقم الرجل شهوداً أنّها مملوكة له؟ قال: «تخرج من يده، فإن أقامت المرأة البينة على أنّها ابنتها دفعت إليها، وإن لم يقم الرجل البيّنة على ما ادّعاه ولم تقم المرأة البيّنة على ما ادّعت خلّي سبيل الجارية، تذهب حيث شاءت».
ويستفاد منه ومن العبارة عدم ثبوت نسب الصغير بإقرار
الأُمّ، حيث اشترطا في إلحاق الجارية بها إقامتها البيّنة على أنّها ابنتها، وهو أحد القولين في المسألة.
خلافاً لجماعة
؛ للصحيحين المتقدمين مع تمام التحقيق فيها في بحث
الإقرار، إلاّ أنّ هذا الرواية لم تذكر ثمّة.
وللجماعة الذبّ عنها أوّلاً: بعدم مكافأتها للصحيحين سنداً وعدداً.
وثانياً: بقوّة احتمال خروجها عن موضوع المسألة جدّاً؛ لاشتراط من يكتفي في ثبوت
النسب بإقرار الأُمّ عدم منازع لها فيه. وأما مع المنازع كما فيما نحن فيه فلا يلحق بأحدهما مع عدم البيّنة قولاً واحداً. وإنّما يترك الجارية تذهب حيث شاءت؛ لأصالة الحرّية المستفادة من صدر الرواية وغيرها من المعتبرة التي مضت إليها الإشارة ثمة.
فلا إشكال ولا خلاف فيما تضمّنته الرواية.
ولم أقف على تعرّض لذكر مضمونها عدا
الماتن هنا
والشيخ في
النهاية،
والحلّي في
السرائر لكن على تفصيل، فقال: وقد روى أصحابنا أنه إذا كانت جارية مع رجل وامرأة، فادّعى الرجل أنّها مملوكته، وادّعت المرأة أنّها ابنتها وهي حرّة، وأنكرت الجارية الدعويين جميعاً كان على الرجل البيّنة بأنّ هذه الجارية مملوكته لم يبعها ولم يعتقها، فإن أقام البيّنة بذلك سلّمت إليه، وكذلك إن أقرّت الجارية أنّها مملوكته وكانت بالغة سلّمت إليه، وإن لم يقم بيّنة ولا تكون هي بالغة، أو تكون بالغةً غير أنّها لا تقرّ انتزعت من يده، فإن أقامت المرأة بيّنة أنّها بنتها سلّمت إليها إذا كانت صغيرة، وإن لم تكن لها بيّنة تركت الجارية تمضي حيث شاءت
. انتهى.
وظاهره كما ترى وجود رواية على التفصيل الذي ذكره، ولم أقف عليها، والرواية التي قدمناها خالية عن هذا التفصيل كما ترى، مع وقوع التصريح فيها بعدم كون الجارية بالغة.
ظاهر اليد يقتضي
الملكية ما لم يعارضه البيّنة، بلا خلاف فيه أجده، وربما كان ذلك إجماعاً، بل ضرورة. والنصوص به مع ذلك مستفيضة، منها زيادة على ما يأتي إليه الإشارة في فصل
تعارض البينة: الخبر المروي في الكتب الثلاثة، وفيه: أرأيت إذا رأيتُ شيئاً في يد رجل أيجوز أن أشهد أنّه له؟ فقال: «نعم» قلت: فلعلّه لغيره، قال (علیهالسّلام): «ومن أين جاز لك أن تشتريه ويصير ملكاً لك، ثم تقول بعد الملك: هو لي، وتحلف عليه، ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه إليك من قبله؟» ثم قال (علیهالسّلام): «ولو لم يجز هذا ما قام للمسلمين سوق»
.
وقريب منه الخبر المروي في
الوسائل عن تفسير
علي بن إبراهيم صحيحاً، وعن الاحتجاج مرسلاً عن مولانا
الصادق (علیهالسّلام) في
حديث فدك: «إنّ مولانا
أمير المؤمنين (علیهالسّلام) قال لأبي بكر: تحكم فينا بخلاف حكم الله تعالى في المسلمين؟ قال: لا، قال: فإن كان في يد المسلمين شيء يملكونه ادّعيت أنا فيه، من تسأل البيّنة؟ قال: إيّاك كنت أسأل البيّنة على ما تدّعيه على المسلمين، قال: فإذا كان في يدي شيء فادّعى فيه المسلمون تسألني البيّنة على ما في يدي وقد ملكته في حياة
رسول الله (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) وبعده، ولم تسأل المؤمنين البيّنة على ما ادّعوا عليَّ كما سألتني البيّنة على ما ادّعيت عليهم؟» الخبر
.
وحينئذٍ فلو تنازعا عيناً وقال كل منهما: إنّ جميعها لي، ولا بيّنة لهما، فإن كانت في يدهما وتصرّفهما كثوب في يدهما أو دار سكناها قضي بها لهما بينهما بالسويّة، ولكل منهما إحلاف صاحبه على نفي ما يدّعيه ممّا في يده، ولا يتعرض واحد منهما في حلفه لإثبات ما في يده، بل يقتصر على أنّه لا حقّ لصاحبه ممّا في يده. فإن حلفا أو نكلا قضي بالسوية بينهما، وإن حلف أحدهما دون الآخر قضي للحالف بالكل. ثم إن حلف الذي بدأ الحاكم بتحليفه ونكل الآخر بعده، حلف الأوّل
اليمين المردودة إن لم نقض بالنكول، كما هو المختار. وإن نكل الأوّل ورغب الثاني في اليمين فقد اجتمع عليه يمين النفي للنصف الذي ادّعاه صاحبه ويمين الإثبات للنصف الذي ادّعاه هو.
وهل يكفي حينئذ اليمين الواحدة الجامعة بين النفي والإثبات فيحلف أنّ الجميع له ولا حقّ لصاحبه فيه، أو يقول: لا حقّ له في النصف الذي يدّعيه، والنصف الآخر لي؟
أو لا بدّ من يمينين إحداهما نافية والأُخرى مثبتة؟ وجهان.
أوفقهما بالأصل الثاني؛ لاقتضاء تعدّد الأسباب تعدّد المسبّبات، فلا يكتفى بأحدهما إلاّ بعد قيام دليل لا أثر له هنا أصلاً.
إلاّ أنّ ظاهر
الأصحاب الأوّل، من غير خلاف بينهم يعرف عدا ما في
المسالك، حيث احتمل الثاني بعد أن ذكر الأوّل وحكم به. وفي
التحرير استقرب الأوّل مشعراً بوقوع الخلاف فيه. ووجهه غير واضح، عدا ما في المسالك من أنّ كلاًّ منهما قد دخل وقته. ولم أفهمه.
ثم هل يتخيّر الحاكم في البدأة بالإحلاف، أو يقرع بينهما؟ وجهان. وتظهر الفائدة في تعدّد اليمين على المبتدئ على نكول الآخر(أي على تقدير نكول الآخر. وظهور الثمرة على هذا التقدير إنّما هو على المذهب المشهور من الاكتفاء باليمين الواحدة الجامعة بعد نكول الأوّل، وأمّا على القول الآخر من لزوم التعدد فلا تظهر للزوم اليمين على أي تقدير. منه رحمه الله تعالى.).
قيل: ويمكن أن يقال: كل واحد منهما مدّعٍ ومدّعى عليه هاهنا، فينبغي أن ينظر إلى السبق فمن تسبق دعواه بدأ بتحليف صاحبه
.
واعلم أنّ عدم
القضاء بالعين بينهما نصفين إلاّ بعد حلف كل منهما لصاحبه أو نكولهما هو المشهور بين الأصحاب على الظاهر المصرّح به في
شرح الشرائع للصيمري.
وفي المسالك قال: بل لم ينقل الأكثر فيه خلافاً
. ولعلّه أراد بمقابل الأكثر الماتن في
الشرائع، حيث حكى ما عليه الأصحاب قولاً بعد أن حكم بالقضاء بينهما نصفين مطلقاً. ولم أَرَ غيره قد نقل الخلاف فيه، ولا من أفتى بما ذكره.
نعم في
الغنية: وإن كان لكلّ واحد منهما يد ولا بيّنة لأحدهما كان الشيء بينهما نصفين، كل ذلك بدليل إجماع الطائفة
. ولكنه غير صريح بل ولا ظاهر في عدم اعتبار الإحلاف.
وكيف كان، فالمذهب ما عليه الأصحاب؛ لعموم ما دلّ على ثبوت اليمين على من أنكر، ولا ريب أنّ كلّ واحد منهما مدّعٍ لما في يد الآخر، ومنكر لما في يده للآخر، فإذا ادّعى كلّ منهما على صاحبه النصف الذي في يده وأنكر صاحبه ذلك، لزم المنكر
الحلف كما في سائر الدعاوي. هذا.
مضافاً إلى فحوى بعض ما سيأتي من الأخبار الدالّة على إحلاف كلّ منهما لصاحبه مع تعارض البيّنة، فمع عدمه أولى، فتأمّل جدّاً.
ولو كانت في يد أحدهما وتصرّفه خاصّة قضي بها للمتشبّث وهو ذو اليد وللخارج إحلافه لكونه منكراً والخارج مدّعياً؛ لأنّ الأصل عدم تسلّطه على ما في يد غيره، وظاهر الحال يشهد لذي اليد بالملك، كما مرّ.
وفي الخبر: «فإن كانت له» أي للمدّعي الخارج «بيّنة، وإلاّ فيمين الذي هو في يده، هكذا أمر الله عزّ وجلّ»
.
وفي آخر: «فإن كانت في يد أحدهما، وأقاما جميعاً البيّنة؟ قال: «أقضي بها للحالف الذي في يده»
.
وفي ثالث: «أنّ
أمير المؤمنين (علیهالسّلام) اختصم إليه رجلان في دابّة، وكلاهما أقاما البيّنة أنّه أنتجها، فقضى بها للذي هي في يده، وقال: ولو لم تكن في يده جعلتها بينهما نصفين»
.
والأول دالّ على الحكم هنا صريحاً، والأخيران دالاّن عليه فحوى على قول (أي قول من يعمل بمضمون الخبرين من تقديم بيّنة ذي اليد على بيّنة الخارج.منه.). وعدم اعتبار الحلف في الأخير غير قادح بعد ظهور اعتباره من الأوّلين، فيحمل عليهما حمل المطلق على المقيّد. مضافاً إلى العمومات الدالّة على اعتباره.
فإن نكل ذو اليد عن الحلف أُحلف الخارج على المختار من عدم القضاء بالنكول.
والكلام في حلفهما كما سلف، فيحلف ذو اليد على النفي والخارج على الإثبات.
ولو كانت في يد ثالث، وصدّق أحدهما بأنّها له، فهو في حكم ذي اليد قضي بها له مع يمينه وللآخر إحلافه أي المصدّق إن ادّعى عليه علمه بأنّها له، فإن امتنع حلف الآخر وأغرمه القيمة لا العين؛ لاستحقاق المصدّق له إيّاها بإقراره، فلا يمكنه ارتجاعها منه، وإنّما يغرم القيمة لتفويته العين على الآخر بإقراره.
ولو صدّقهما قضي بها لهما بالسوية، ولكلّ منهما إحلاف الآخر كما لو كانت في يدهما، ولهما إحلافه إن ادّعيا علمه؛ لفائدة الغرم مع اعترافه، لا القضاء بالعين. فإن حلف، وإلاّ غرم نصف القيمة للحالف منهما. ولو حلفا معاً غرم القيمة تماماً لهما يقتسمانها كالعين بينهما نصفين.
وإن كذّبهما أقرت العين في يده بعد يمينه لهما، سواءً ادّعاها لنفسه أم لا. ولا يجب عليه نسبة الملك إلى نفسه، أو إلى أحد معيّن.
ولو قال: هي لأحدكما ولا أعرفه، احتمل قوّياً القرعة، فيحلف من خرجت له. فإن نكل حلف الآخر، وإن نكلا قسمت بينهما. ويحتمل القضاء بها نصفين بينهما ابتداء بعد حلفهما أو نكولهما، كما لو كانت بيدهما. ولكن الأوّل لعلّه أقوى.
ثم إنّ كلّ ذا إذا لم تكن بيّنة لهما. وإن كانت لإحداهما حكم له بها. ولو كانت لكلّ منهما وأمكن الجمع بينهما كما لو شهدت أحدهما بملك زيد أمس والأُخرى بانتقاله إلى عمرو الآن، أو أطلقت إحداهما وفصّلت الأُخرى جمع بينهما؛ لوجوب العمل ل بهما مع عدم التعارض بينهما. ولو تعارضتا ففيه تفصيل يأتي ذكره في الفصل الثالث إن شاء الله تعالى.
إذا تداعيا خُصّاً بالضم والتشديد، وهو البيت الذي يعمل من القصب، كما في
مجمع البحرين وغيره
. وفي
الفقيه: أنّه الحائط من القصب بين الدارين
قضي لمن إليه القِمط بالكسر، وهو الحبل الذي يشدّ به الخُصّ، وبالضم جمع قماط، وهي شداد الخُصّ من ليف وخوص وغيرهما.
والحكم بذلك مشهور بين الأصحاب، كما صرّح به جماعة، ومنهم
الشهيدان في
الدروس في هذا الكتاب وكتاب
الصلح، وفي
الروضة والمسالك
في الكتاب الأخير، بل ربما تشعر عبارة المسالك بالإجماع عليه، وحكى عن
التذكرة أيضاً
. وبه صرّح في نوادر هذا الكتاب من السرائر، وفي كتاب الصلح من الغنية
.
والحجّة فيه قبل ذلك هي رواية عمرو بن شمر، عن جابر المرويّة في الفقيه عن
أبي جعفر (علیهالسّلام)، عن جدّه، عن
علي (علیهالسّلام): «أنّه قضى في رجلين اختصما في خصّ، فقال: إنّ الخصّ للذي إليه القمط»
. وفي عمرو وإن كان ضعف بنص جماعة من أهل الرجال
كالنجاشي وغيره
، إلاّ أنّه مجبور بالشهرة العظيمة والإجماعات المنقولة التي كادت تكون محقّقة؛ لعدم مخالف في الرواية صريحاً، بل ولا ظاهراً عد الماتن هنا
والشهيد الثاني والصيمري
، مع أنّ ظاهر الأولين التردّد لا المخالفة. ومنه يظهر ما في
المهذّب من نسبة المخالفة إلى المتأخّرين كافّة، كيف وعمدة المتأخّرين
الفاضلان والشهيدان، وقد أفتوا ما عدا الشهيد الثاني في الشرائع والإرشاد والقواعد والدروس
بالرواية.
ومع ذلك الحجّة غير منحصرة فيها، فقد روى المشايخ الثلاثة في الصحيح عن
منصور بن حازم، عن
أبي عبد الله (علیهالسّلام): عن خُصّ بين دارين، كما في التهذيب، وبدّل بالحظيرة في
الكافي والفقيه، فزعم، كما في الكتابين الأولين، وعوّض عنه في الأخير بقوله: «فذكر أنّ عليّاً (علیهالسّلام) قضى بذلك لصاحب الدار الذي من قبله وجه القماط»
.
وهي وإن كانت قضية في واقعة فلعلّه (علیهالسّلام) عرفها وأجرى الحكم بمقتضاها فلا يتعدّى إلى غيرها، إلاّ أنّ ظاهر السؤال في صدر
الرواية عن حكم المسألة، والجواب عنه بعده بنقل القضاء عنه (علیهالسّلام) في الواقعة يقتضي عدم اختصاصه بها، بل عمومه لكل واقعة، وإلاّ لكان السؤال مسكوتاً عن جوابه بالمرّة، وفيه تأخير البيان عن وقت الحاجة، ولا ريب في قبحه ولا شبهة. وبالجملة فلا وجه للمناقشة في الروايتين سنداً ودلالة.
نعم ربما يمكن المناقشة فيهما بمخالفتهما القواعد والأُصول المقررة في نحو المسألة تقدمت إليها الإشارة في المسألة السابقة.
ويمكن الذبّ عنها أيضاً بأنّ المخالفة ليست مخالفة تضادّ، بل مخالفة عموم وخصوص. ودفعها بالتخصيص ممكن بعد التكافؤ الحاصل هنا بصحّة سند الخاص وتعدّده ومخالفته العامّة، كما يستفاد من الغنية، حيث قال بعد ذكر الحكم ونقل إجماعنا عليه: ويحتجّ على المخالف بما رووه من طرقهم من أنّ
رسول الله (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) بعث
عبد الله بن اليماني ليحكم بين قوم اختصموا في خصّ، فحكم به لمن إليه القمط، فلمّا رجع إليه (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) أخبره بذلك، فقال: «أصبت وأحسنت»
. انتهى.
ومنه يظهر وجود رواية أُخرى في المسألة كما أشار إليه في المسالك
، وكونها عامية تجبره
الشهرة كالرواية السابقة، هذا.
وربما يخص العمل بالرواية بما إذا اقتضت العادة كون وقوع وجه القماط إلى جانب قرينة على ملكيّة الخصّ لصاحبه، ولكن
الفتاوى مطلقة إلاّ أنّ تنزيلها على ذلك غير بعيد.
وكيف كان ينبغي تخصيص الحكم بمورد الرواية من الخصّ دون غيره، وإن حصل فيه نحو معاقد القمط وشهدت العادة بكونه قرينة على الملكية لجهة. فإنّ غاية ذلك الظهور، ولا يخصّص به الأُصول، بل ترجّح هي عليه حيث لم يقم على العكس دليل، كما فيما نحن فيه على ما هو المفروض.
إذا ادّعى أبو الميتة إعارته لها بعض متاعها كلّف البيّنة، وكان كغيره من الأنساب وغيررهم، على المعروف من مذهب الأصحاب على الظاهر المصرّح به في المسالك وغيره
؛ عملاً بعموم: «البيّنة على المدّعى،
واليمين على المدّعى عليه»
.
والنبوي: «لو يعطى الناس بأقوالهم لادّعى قوم دماء قوم وأموالهم»
.
وفيه أي في المقام رواية بالفرق بين
الأب وغيره، فيصدّق في دعواه دونهم، مروية في الكتب الثلاثة صحيحة في الكافي
والتهذيب احتمالاً، وفي الفقيه صحيحة جزماً، عن
جعفر بن عيسى، وهو حسن: قال: كتبت إلى
أبي الحسن (علیهالسّلام): جعلت فداك المرأة تموت فيدّعي أبوها أنّه أعارها بعض ما كان عندها من المتاع والخدم، أتقبل دعواه بلا بيّنة؟ أم لا تقبل دعواه إلاّ ببيّنة؟ فكتب (علیهالسّلام): «يجوز بلا بيّنة» قال: وكتبت إلى أبي الحسن (علیهالسّلام) يعني: علي بن محمد (علیهماالسّلام): جعلت فداك! إن ادّعى زوج المرأة الميّتة أو أبو زوجها أو أُمّ زوجها في متاعها أو خدمها مثل الذي ادّعى أبوها من عارية بعض المتاع أو الخدم، أيكون بمنزلة الأب في الدّعوى؟ فكتب (علیهالسّلام): «لا»
.
وهي ضعيفة بالمكاتبة عند جماعة
، وبالشذوذ والندرة بلا شبهة؛ لعدم قائل بها، بل وإطباق الفتاوى على خلافها حتى من الشيخ المحكيّ عنه فتواه بها
؛ لرجوعه عنها في المسائل الحائريات كما حكاه عنه في
السرائر.
نعم ظاهر
الصدوق الفتوى بها، حيث رواها في الفقيه في باب ما يقبل من الدعاوي بغير بيّنة، مع ضمانه فيه أن لا يروى فيه إلاّ ما يفتي به ويحكم بصحّته. لكن الظاهر المحكي عن جدّي
المجلسي وغيره
عدوله عمّا وعد به.
وكيف كان، فالعمل على ما عليه الأصحاب؛ لمخالفة الرواية العمومات المعتضدة بعملهم، فلتطرح، أو تحمل على ما حملها عليه الحلّي
من حمل قوله: «يجوز بلا بيّنة» على الاستفهام الإنكاري بحذف حرفة، أو على الإنكار لمن يرى عطيّة ذلك بغير بيّنة. ولكن تتمّة الخبر ينافي الحملين، كما صرّح به في
التحرير.
وربما حملها بعض
على الظاهر من أنّ المرأة تأتي المتاع من بيت أهلها، وظاهره العمل عليها حينئذٍ. وفيه نظر يظهر وجهه ممّا في ذيل المسألة السابقة قد مرّ. اللهم إلاّ أن يذبّ عنه بدعوى حصول
الظنّ من
الاستقراء وتتبّع الموارد الجزئية في الدعاوي التي عمل فيها بمجرد الظهور، بجواز العمل به والحكم بسببه، كما سيدّعي ذلك العلاّمة في المختلف في المسألة الآتية. وله وجه إلاّ أنّ في بلوغه هنا قوّة المقاومة للأُصول المعتضدة بعمل الأصحاب إشكالاً، بل الأخذ بمقالتهم أولى.
إذا تداعى الزوجان أو ورثتهما أو أحدهما مع ورثة الآخر متاع البيت الذي في يدهما قضي لمن له البيّنة مطلقاً، بلا خلاف. وإن لم يكن لهما بيّنة فله ما يصلح للرجال كالعمائم والدروع والسلاح ولها أي للزوجة ما يصلح للنساء كالحلي والمقانع وقمص النساء.
وما يصلح لهما كالفرش والأواني يقسم بينهما نصفين بعد التحالف، أو النكول، وفاقاً للشيخ في النهاية
والخلاف، والحلّي في السرائر
،
والإسكافي،
وابن حمزة،
والكيدري، والماتن هنا صريحاً وفي الشرائع
ظاهراً،
والفاضل في التحرير
،
وأبي العباس في المهذب
،
والشهيد في الدروس
، وهو ظاهر
القاضي، إلاّ أنّه قرّبه في الدعوى بعد
الطلاق.
وبالجملة الأكثر، كما في المسالك
، بل المشهور، كما في ظاهر الشرائع وصريح
النكت، بل في الخلاف والسرائر
دعوى
الإجماع عليه. ونسبه في
المبسوط إلى روايات الأصحاب مشعراً بدعوى الإجماع عليه أيضاً. ولا ينافيه فتواه فيه بخلافه كما يأتي؛ لما صرّح به بعد النسبة أنّه على
الأحوط.
والأصل فيه قبل ذلك المروي في التهذيبين بسند فيه جهالة، ولكنّها في الفقيه صحيحة، وفيها: «إذا طلّق الرجل امرأته وفي بيتها متاع فلها ما يكون للنساء، وما يكون للرجال والنساء يقسّم بينهما، فإذا طلّق المرأة فادّعت أنّ المتاع لها، وادّعى الرجل أنّ المتاع له، كان له ما للرجال، ولها ما للنساء»
.
والموثق: في امرأة تموت قبل الرجل، أو رجل قبل المرأة، قال: «ما كان من متاع النساء فهو للمرأة، وما كان من متاع الرجال والنساء فهو بينهما، ومن استولى على شيء منه فهو له»
.
وفي آخر: عن رجل يموت، ما له من متاع البيت؟ قال: «السيف والسلاح وثياب جلده»
.
وقصور الدلالة عن إفادة تمام المدّعى صريحاً كما ذكره جماعة
غير ضائر بعد ظهورها فيه، كما اعترفوا به، هذا.
مضافاً إلى الأُصول المتقدمة في الشق الأخير، والظهور المستند إلى العادة فيما عداه، كما صرّح به الحلّي وغيره
، والعمل به في مقابلتها وإن كان خلاف الأصل والقاعدة كما مر إليه الإشارة إلاّ أنّه هنا ظاهر الفتاوى؛ لإطباقها على العمل بالظاهر ولو في الجملة، وعدم مخالف فيه عدا الشيخ في المبسوط
كما يأتي، وقد عرفت تصريحه بكونه على الأحوط.
والفاضل وإن وافقه في بعض كتبه، إلاّ أنّه رجع عنه في المختلف وقال بالرجوع إلى العرف العام أو الخاص، فإن وجد عمل به، وإن انتفى أو اضطرب كان بينهما، قال:
لأنّ عادة
الشرع في باب الدعاوي بعد الاعتبار والنظر راجعة إلى ذلك، ولهذا حكم بقول المنكر مع اليمين بناءً على الأصل، وكون المتشبّث به أولى من الخارج؛ لقضاء العادة بملكية ما في يد
الإنسان غالباً، فحكم بإيجاب البيّنة على من يدّعي خلاف الظاهر، والرجوع إلى من يدّعي ظاهر العرف. وأمّا مع انتفاء العرف فلتصادم الدعويين مع عدم الترجيح فيتساويان
.
واختار هذا الشهيدان في النكت والمسالك
. ونفى عنه البأس الصيمري في شرح الشرائع
.
واستحسنه أبو العباس في المهذب قال: ويؤيّده استشهاده (علیهالسّلام) أي فيما يأتي من الروايات بالعرف حيث قال: «قد علم من بين لابتيها»
ومثله قوله (علیهالسّلام): «لو سألت من بينهما» يعني: الجبلين، ونحن يومئذ بمكة «لأخبروك أنّ الجهاز والمتاع يهدى علانية من بيت المرأة إلى بيت الرجل فتعطى التي جاءت به، فإن زعم أنه أحدث فيه شيئاً فليأت البيّنة»
. وما اختاروه حسن لولا
إطلاق ما مرّ من النصوص والإجماعات المنقولة، ولكن يمكن تنزيلها عليه بأن يقال: إنّ إطلاقها وارد مورد الغالب في العادة؛ لحكمها غالباً بكون ما للرجل للرجل وما للنساء للمرأة.
وبذلك صرّح الحلّي الذي هو أحد نقلة الإجماع، فقال: لأنّ ما يصلح للنساء الظاهر أنّه لهنّ، وكذلك ما يصلح للرجال، فأمّا ما يصلح للجميع فيداهما معاً عليه فيقسم بينهما؛ لأنّه ليس أحدهما أولى به من الآخر، ولا ترجيح لأحدهما على الآخر، ولا يقرع ها هنا؛ لأنّه ليس بخارج عن أيديهما
. انتهى.
وعلى هذا التنزيل فمآل القولين واحد، وبه صرّح المولى
الأردبيلي في
شرح الإرشاد، وإن حكاهما جماعة من الأصحاب
قولين تبعاً للظاهر منهما، فإنّ إطلاق الحكم في الأوّل بكون ما للرجل للرجل وبالعكس يشمل صورتي قضاء العادة بذلك كما هو الغالب وعدمه. ولا كذلك الثاني؛ لتفصيله بين الصورتين، فوافق الأوّل في الأُولى، وخالفه في الثانية.
ولا ريب أنّ هذا القول أظهر؛ إذ ليس لمخالفة الأُصول في الصورة الثانية دليل يعتدّ به عدا إطلاق اللنصوص والإجماعات المنقولة. وفي التمسك به إشكال بعد قوة ما ذكرناه من احتمال وروده مورد الغالب من قضاء العادة بذلك، وحصول الظهور منها بلا شبهة، سيّما وأنّ الحلّي الذي هو أحد نقلة الإجماع كما عرفت استند إلى ذلك معرباً عن عدم كون الحكم بذلك على الإطلاق.
وبهذا القول يجمع بين الأخبار المتقدّمة وما في رواية أُخرى مروية بعدّة طرق صحيحة وموثقة وهو كون المتاع المتنازع فيه مطلقاً للمرأة خاصّة إلاّ أن يقيم الرجل البيّنة قد علم من بين لابتيها يعني من بين جبلي منى أنّ المرأة تزف إلى بيت زوجها بمتاع، ونحن يومئذ بمنى، كما في بعضها.
وفي آخر: «لو سألت من بين لابتيها» يعني الجبلين، ونحن يومئذٍ بمكة «لأخبروك أنّ الجهاز والمتاع يهدى علانية من بيت المرأة إلى بيت الرجل، فتعطى التي جاءت به، وهو المدّعى، فإن زعم أنّه أحدث فيه شيئاً فليأت بالبيّنة»
.
بحمل الجميع على ما إذا كان هناك عادة تشهد بالحكم لمن حكم له فيها. والتعليلات في الرواية الأخيرة على الجمع المزبور شاهدة، وقد مرّ إليه في كلام المهذب الإشارة.
فلا وجه للقول بإطلاق ما في هذه الرواية وقطع النظر عما فيها من العلّة المخصّصة، كما هو صريح
الشيخ في
الاستبصار، وظاهر
الكليني في
الكافي، والصدوق في الفقيه، إلاّ أنّه خصّها بالمتاع الذي هو من متاع النساء، والمتاع الذي يحتاج إليه الرجال كما تحتاج إليه النساء، قال: فأمّا ما لا يصلح إلاّ للرجال فهو للرجل، وليس هذا الحديث بمخالف للذي قال: «له ما للرجال ولها ما للنساء» وبالله التوفيق
. انتهى.
فإنّ هذه الرواية وإن تعدّد طرقها وصحّت إلاّ أنّها لا تكافؤ الأدلة المتقدمة من وجوه شتّى، ومنها: ندرة القائل بها، بل وعدمه صريحاً؛ لرجوع الشيخ عنها في باقي كتبه إلى المختار صريحاً في بعضها، وظاهراً فيما عداه، والكليني لم يفت بها صريحاً، وإنّما عنون الباب وحكاها خاصّة
، وهو وإن كان ظاهراً في فتواه بها، إلاّ أنّ احتمال تخصيصه لها بما خصّصناها به لمكان التعليل قائم جدّاً.
والصدوق لم يقل بإطلاقها، بل قيّدها بما مضى، وهو موافق للقوم إلاّ في حكمه بأنّ ما يصلح لهما للمرأة، ولا شاهد له فيه، مع مخالفته الأُصول وإطلاق
النصوص، مع تصريح جملة منها بأنّ مالهما بينهما.
ومنها: الصحيحة التي رواها، لكنها دلت على ذلك برواية الشيخ خاصّة
؛ لكونها المتضمنة للحكم المذكور. وأمّا هو فقد رواها مجرّدة عن ذلك، ولذا زعم حصول الجمع بينهما وبين الرواية الثانية بما ذكره، وإلاّ فجمعه على رواية الشيخ يتطرق إليه النظر بما عرفته.
وبالجملة: فجمعه على تلك الرواية لا وجه له، كما لا وجه لجمع الشيخ في الاستبصار
بحمل الرواية الأُولى على
التقية، أو على حكمه (علیهالسّلام) بذلك صلحاً ومصلحة، والثانية على مرّ الحق؛ لبعده، سيّما الأخير، مع عدم الداعي له، بل وعدم إمكان المصير إليه؛ لفقد التكافؤ بناء على كون الأُولى مشهورة بين الأصحاب بل ومجمعاً عليها، كما صرح به هو في الخلاف
، فالشهرة في هذه تقابل المخالفة للعامّة إن صحّت في الرواية الثانية، بل الشهرة راجحة عليها بمراتب عديدة. فالرواية الأُولى أرجح من الثانية، فينبغي صرف وجوه الحمل إليها دون الاولى. ولا حمل أجود ممّا ذكرناه، بل بعد التدبّر فيهما وملاحظة وجه الجمع الذي ذكرناه يظهر عدم التعارض بينهما أصلاً.
وقال الشيخ في المبسوط: إنّه إذا لم يكن لهما بيّنة ويدهما عليه كان بينهما نصفين بعد حلف كل منهما لصاحبه
. وتبعه
الفاضل في ظاهر
الإرشاد وصريح
القواعد وولده في شرحه
؛ أخذاً بالعمومات، وطرحاً للروايات لاختلافها.
وفيه نظر يعلم وجهه ممّا مرّ، مع أنّ ذلك من الشيخ كما عرفت على جهة
الاحتياط، فإنّه قال بعده: وقد روى أصحابنا أنّ ما يصلح للرجال فللرجل وما يصلح للنساء فللمرأة، وما يصلح لهما يجعل بينهما. وفي بعض الروايات أنّ الكل للمرأة وعلى الرجل البيّنة؛ لأنّ من المعلوم أنّ الجهاز ينتقل من بيت المرأة إلى بيت الرجل، والأوّل أحوط
. انتهى.
هذا، ويحتمل أن يريد من الأوّل ما رواه الأصحاب دون ما أفتى به؛ لكونه أوّلاً بالنسبة إلى الرواية الثانية. وحاصله حينئذٍ أنّ الرواية الأُولى أحوط.
وبه صرّح في
الخلاف، فقال: إن اختلف الزوجان في متاع البيت فقال كل واحد منهما: كلّه لي، ولم يكن مع واحد منهما بيّنة نظر فما يصلح للرجال القول قوله مع يمينه، وما يصلح للنساء فالقول قولها مع يمينها، وما يصلح لهما كان بينهما. وقد روي أنّ القول في جميع ذلك قول المرأة مع يمينها، والأول أحوط
. انتهى.
وكلامه على كلا التقديرين ظاهر في رضاه بالعمل بمذهب الأكثر، بل وعلى التقدير الثاني يستفاد منه كونه أحوط. وحينئذ فلا وجه لعدّ الشيخ في
المبسوط مخالفاً للقول الأول، إلاّ من حيث تجويزه العمل بما ذكره في المبسوط، لا من حيث منعه عن العمل بما عليه
الأصحاب. وهو في الحقيقة موافق لهم في جواز العمل بما صاروا إليه. وليس الأمر كما يستفاد من موافقيه من تعين العمل بما أفتوا به، والمنع عن العمل بما عليه القوم.
ومن هنا يظهر مرجّح آخر لما صاروا إليه من حيث موافقة الشيخ لهم في المبسوط أيضاً، بل مطلقاً، فإنّ ما ذكره في الاستبصار مع رجوعه عنه غير معلوم كونه
فتوى له، فلعله ذكره لمجرّد الجمع بين الأخبار، وقد مضى الإشارة إلى مثله مراراً، هذا. ولو جمع بينهما بنحو ما قدمناه لكان أظهر وأولى. ثم إنّ ما ذكره في الاحتياط في الكتابين محل نظر؛ لأنّه الأخذ بالمتيقن، وليس في شيء من الأقوال بمتحقق.
بقي هنا شيء ينبغي التنبيه عليه، وهو أنّ
الفاضل المقداد في شرح الكتاب رجّح ما عليه الفاضل في القواعد والإرشاد، قال: لما قلنا من تكافؤ الدعويين من غير ترجيح؛ ولأنّ الحكم لكل بما يصلح له لو كان حقاً لزم الحكم بمال شخص لغيره؛ لكونه صالحاً لذلك الغير، وهو باطل. وبيان اللزوم: أنّه جاز أن يموت للمرأة أخ فترث منه عمائم وطيالسة ودراريع وسلاحاً، ويموت للرجل أُمّ أو أُخت فيرث منها حلياً ومقانع وقمصا مطرزة بالذهب ويكون ذلك تحت أيديهما، فلو حكم لكل بما يصلح له لزم الحكم بمال الإنسان لغيره. لا يقال: قال
النبي (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم): نحن نحكم بالظاهر والله تعالى يتولّى السرائر
، وما قلناه هو الظاهر. لأنّا نقول: نمنع أنّ ذلك الظاهر؛ لأنّ الظاهر هو راجح غير مانع عن النقيض، ومع ما ذكرنا من الاحتمال الا رجحان. وما ذكره العلاّمة من العرف ممنوع؛ لأنّه لو كان قاعدة شرعية لزم الحكم بذلك في غير الزوجين لو حصل التداعي بين الرجل والمرأة في متاع هذا شأنه، وهو باطل
. انتهى. وفيه نظر.
أمّا أوّلاً: فبأنّه
اجتهاد في مقابلة الأدلة المتقدمة من النصوص المعتبرة والمستفيضة، والإجماعات المنقولة المعتضدة بالشهرة العظيمة المحققة والمحكية في كلام جماعة كما عرفته، وإطراح لجميع ذلك بالكلية. ولا يرتكبه ذو فطنة ودُربة.
وأمّا ثانياً: فبأنّ قوله: لتصادم الدعويين مع عدم الترجيح. إلى آخره ممنوع.
أمّا على القول الأوّل فمطلقاً؛ لما عرفته من دعوى الحلّي وغيره الرجحان عرفاً وعادة.
وأما على القول الثاني الذي اختاره في
المختلف ففيما إذا حصل الرجحان بالعادة كما هو الغالب، ولذا ادّعاه الحلي وغيره مطلقاً، وإنكاره حينئذ لا معنى له، بل فاسد جدّاً.
وإن كان مراده من إنكاره دعوى عدم إمكان حصول الترجيح بالعادة بالكلية وأنّه من الأُمور المحالة عادةً، فهو أوضح حالاً في الفساد من أن نبيّنه، كيف لا؟! ولا وجه له عدا ما ذكره من الاحتمال، وهو بمجرده غير مانع من الظهور ما لم يتساو هو والاحتمال المقابل له، ولا ريب أنّ ما ذكره من الاحتمال غير مساوٍ للاحتمال الآخر غالباً، بل هو أرجح إمّا مطلقاً، كما ادّعاه الحلّي وغيره، أو في أغلب الأحوال وأكثر العادات، كما هو المقطوع به الذي لا شك فيه.
وحال الظهور في المسألة لا يقصر عن الظهور المحكوم به في جزئيات مسائل الدعاوي التي ذكرها العلاّمة من نحو ظهور اليد في الملكية. ولا ريب أنّ ما ذكره من الاحتمال مثله بل وأمثاله جارٍ فيها، سيّما وإذا كان اليد يد نحو السارق والظلَمة. ولا ريب أنّه لا ينافي ظهورها في الملكية عنده وعند العلماء كافّة.
ونحو الظهور في تلك المسائل الظهور المحكوم به في المسألتين السابقتين، على المشهور في الأُولى منهما، وعلى قول بل واحتمال في الثانية.
وبالجملة: دعوى عدم إمكان حصول الظهور من العادة مطلقاً مكابرة صرفة لا يرتاب في فسادها ذو مسكة.
وأمّا ثالثاً: فبأنّ قوله: وما ذكره العلاّمة من العرف ممنوع، إن أراد به منع حكم
العرف بالظهور، فمع أنّه لا يساعده التعليل بقوله: لأنّه لو كان قاعدة شرعية. إلى آخره، فيه ما عرفته من أنّه مكابرة.
وإن أراد عدم حجّية مثله كما هو الظاهر من التعليل وإن لم يساعده العبارة، ففيه أوّلاً: أنّه وإن كان مقتضى
الأصل كما عرفته، إلاّ أنّ الخروج عنه لازم بما تقدم من الأدلة من النصوص والإجماعات المنقولة. فالقول بحجّية الظهور في المسألة مستند إليها، وهو لا يوجب حجّيته مطلقاً حتى فيما نقض وعارض به العلاّمة ممّا لم يتحقق فيه مثل تلك الأدلة.
نعم ربما يرد عليه النقض بما ذكره من حيث استناده إلى
الاستقراء المفيد لحجيّة الظهور في الدعاوي كلّية، ولكن للعلاّمة الذبّ عنه بالتزامه الحكم في كل ما لم يقم الدليل على خلافه من إجماع أو غيره. ودعواه حينئذٍ بطلان اللازم غير مجدٍ لالتزامه به، بل لا يجدي إلاّ حيثما يعترف بالبطلان فيه، ولعله لا يعترف به إلاّ حيث يقوم دليل عليه فيه. ومعه النقض غير مانع؛ لكون الدليل حينئذٍ هو الفارق، ولولاه لالتزم بالحكم فيما نقض به، فكيف يدّعي بطلانه فيه؟.
وثانياً: بأنّ إنكار حجّيته إن كان من حيث منعه حصوله فقد قدّمه، ولا وجه لإعادته، بل ولا لنقضه. وإن كان من حيث عدم دليل عنده على حجّيّته مع تسليم ظهوره، ففيه بعد ما عرفت من وجود الدليل عليها إمّا مطلقاً أو فيما نحن فيه خاصّة: أنّ
الحديث المذكور في كلامه دليل على حجّيته حتى باعترافه، حيث إنّه لم يناقش فيه لا في سنده ولا في دلالته، وإنّما منع حصول الظهور فيما نحن فيه، فإذا سلّمه كما هو المفروض فلا ينبغي أن يتكلم في حجّيته.
رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدّلائل، الطباطبائي، السيد علي، ج۱۵، ص۱۷۶-۲۰۰.