الاستحالة (مطهريتها)
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
لتصفح عناوين مشابهة، انظر
الاستحالة (توضيح) .
عدّ كثير من الفقهاء الاستحالة بهذا
المعنى من جملة
المطهّرات ويستدلّ على مطهّرية الاستحالة بأنّها توجب
عرفاً أن يتولّد
موضوع جديد غير الموضوع الأوّل
المحكوم بالنجاسة؛ لأنّه ينعدم بالاستحالة ويزول، وتبعاً
لانعدامه ينعدم حكمه وهو النجاسة؛
لامتناع بقاء الحكم مع عدم
بقاء موضوعه.
عدّ كثير من الفقهاء الاستحالة بهذا المعنى من جملة المطهّرات من دون فرق في ذلك بين استحالة
الأعيان النجسة وبين استحالة الأشياء المتنجّسة، فالنطفة- مثلًا- تطهر إذا استحالت حيواناً طاهراً، وكذا
الخشب المتنجّس يطهر إذا استحال رماداً.
ولكن نبّه بعض الفقهاء هنا على أنّ
نتيجة الاستحالة وإن كانت طهارة الموضوع الجديد وزوال النجاسة عنه إلّا أنّ هناك
مسامحة في عدّها مطهّرة؛ لأنّ فرض المطهّرية هو فرض
انحفاظ موضوع النجاسة وذات النجس ثمّ زوال النجاسة عنه، وفي مورد الاستحالة لم ينحفظ ذات النجس؛ لأنّ الاستحالة توجب انعدامها لا أنّها توجب عروض الطهارة على الجسم مع بقائه على حاله كما في أكثر المطهّرات.
ومن هنا قد تكون الاستحالة موجبة لتغيّر الحكم من الطهارة إلى النجاسة ومن
الحليّة إلى
الحرمة ، فالجسم الطاهر ينجس إذا استحال إلى أحد الأعيان النجسة، كما لو أكل
الكلب طعاماً طاهراً فصار جزءاً من بدنه.
ويستدلّ على مطهّرية الاستحالة بأنّها توجب عرفاً أن يتولّد موضوع جديد غير الموضوع الأوّل المحكوم بالنجاسة؛ لأنّه ينعدم بالاستحالة ويزول، وتبعاً لانعدامه ينعدم حكمه وهو النجاسة؛ لامتناع بقاء الحكم مع عدم بقاء موضوعه.
والموضوع الجديد تارةً يكون ممّا دلّ على طهارته دليل لفظي أو لبّي
كإجماع أو سيرة، واخرى يكون ممّا لم يدلّ على طهارته ونجاسته دليل أصلًا. فعلى الأوّل حكم الموضوع الجديد هو الطهارة
استناداً إلى تلك الأدلّة، والحكم حينئذٍ بالطهارة هو
الحكم الواقعي . وعلى الثاني الحكم هو الطهارة أيضاً؛ لجريان قاعدة الطهارة، إلّا أنّ هذا الحكم يكون ظاهريّاً لا واقعيّاً.
ثمّ إنّه لا بدّ هنا من ذكر نكتة مهمّة أشار إليها
السيّد الخوئي وهي: أنّه يكفي في الحكم بالطهارة في الأعيان النجسة تغيّر العنوان، وهذا ما قد يسمّى بالانقلاب في
اصطلاح الفقهاء، فإنّه لا يتوقّف على انعدام جسم وتولّد جسم آخر؛ لقيام النجاسة في الأعيان النجسة بالعناوين الخاصّة، فإذا تبدّل
العنوان إلى عنوان آخر لم يشمله دليل النجاسة. كما لا يجري
استصحاب النجاسة أيضاً؛ لقيام النجاسة الذاتيّة بالعنوان، ومع زواله لا تكون وحدة الموضوع التي هي شرط في جريان الاستصحاب الحكمي تامّة فيحكم بالطهارة ولو من باب
الأصل العملي، وهذا بخلاف المتنجّسات فإنّ موضوع النجاسة فيها إنّما هو الجسم ولا دخل فيها للعناوين الخاصّة، فلا يكفي في الحكم بالطهارة فيها تبدّل العنوان والاسم، بل لا بدّ فيها من استحالة الذات والصورة النوعيّة.
وفي قبال هذا القول بمطهريّة الاستحالة مطلقاً، قولان آخران:
إنّ الاستحالة ليست مطهّرة
مطلقاً لا في الأعيان النجسة ولا في المتنجّسات، وقد عزي ذلك إلى المحقّق والعلّامة الحليّين.
ومن
المعلوم أنّ
المقصود من هذا القول ليس إنكار الكبرى أي أصل مطهريّة الاستحالة والتغيير في موضوع حكم النجاسة؛ إذ لا شكّ ولا كلام فيها لأحد، بل المقصود منه
إنكار الصغرى، بمعنى أنّ الاستحالة والتغيير في الصور النوعيّة لا يوجب الاستحالة والتحوّل في موضوع النجاسة، بل يبقى حتى بعد تحوّل الصور النوعيّة.
واستدلّ على ذلك بما ذكره
المحقّق الحلّي في مقام
الاستدلال على بقاء الأعيان النجسة على النجاسة بعد الاستحالة من أنّ النجاسة قائمة بالأجزاء النجسة لا بأوصاف الأجزاء، فلا تزول بتغيّر أوصاف محلّها، وتلك الأجزاء باقية، فتكون النجاسة باقية لانتفاء ما يقتضي
ارتفاعها .
وببيان
المحقّق الآشتياني : أنّ معروض النجاسة هو نفس الأعيان النجسة وذواتها أو الذوات
باعتبار الأوصاف لا أوصافها الزائلة بالاستحالة، ومن المعلوم أنّ ذوات الأجسام لا ترتفع بارتفاع الأوصاف القائمة بها.
وهذا الدليل يختصّ بالأعيان النجسة، وأمّا
الدليل على عدم مطهريّة الاستحالة في المتنجّسات فلعلّه ما سيأتي في دليل القول الآتي.
واجيب عن هذا الدليل بأنّ ظاهر أدلّة نجاسة الأعيان النجسة هو أنّ حكم
النجاسة يدور مدار العنوان الذي تعلّق به الحكم، وأنّه تابع لذلك العنوان حدوثاً وبقاءً؛ بحيث إذا انتفى انتفى حكمه، فظاهر دليل نجاسة الكلب- مثلًا- هو أنّ عنوان الكلب له دخل تامّ في تعلّق حكم النجاسة به، فإذا زال عنوان الكلب باستحالته ملحاً زال حكم النجاسة.
وعلى هذا، فالاستحالة في الصورة النوعيّة كافية لتبدّل موضوع حكم النجاسة عرفاً، فإذا تحوّلت الصورة النوعيّة للنجس إلى صورة نوعيّة اخرى محكومة بالطهارة يحكم بالطهارة حينئذٍ، بل تقدّم أنّ بعض الفقهاء ذهب إلى كفاية تغيير العنوان من دون حاجة إلى تبدّل الصورة.
التفصيل بين الأعيان النجسة والمتنجّسات، فالاستحالة مطهّرة في الاولى دون الثانية، كما ذهب إليه جمع من الفقهاء
كالفاضل الاصفهاني والمحقّقين القمّي و
النراقي ،
وتردّد في ذلك
الفاضل السبزواري .
وقد استدلّ له بأنّ موضوع حكم النجاسة في المتنجّسات هو الجسم لا العناوين الخاصّة كالخشب والثوب ونحوهما، وما يزول بالاستحالة هو العنوان الخاصّ لا الجسم، فإنّه لا يزال محفوظاً فيبقى حكمه وهو النجاسة، وهذا بخلاف الأعيان النجسة فإنّ موضوع النجاسة فيها هو العنوان الذي يرتفع بالاستحالة.
وبعبارة اخرى: أنّ معروض النجاسة الذاتيّة ليس ذوات الأعيان النجسة وصورها الجنسيّة؛ إذ من المعلوم أنّ العناوين الخاصّة كالكلب و
الخنزير و
الدم و
البول و
الغائط لها دخل في عروض النجاسة، وأمّا في المتنجّسات فلا دخل لها في عروض النجاسة، بل ما يوجب فيها عروض النجاسة هو
ملاقاة الجسم بما هو جسم للنجس، كما دلّ على ذلك
فتوى الفقهاء بأنّ كلّ جسم لاقى نجساً مع وجود
رطوبة في أحدهما فهو نجس، فالحكم بالطهارة في الأعيان النجسة بعد الاستحالة إنّما هو من أجل زوال موضوع النجاسة بها، وهذا لا يجري في المتنجّسات بعد كون الموضوع فيها هو الجسم الذي لا يزول بالاستحالة فلا يحكم بالطهارة.
وقد اجيب عنه:
بأنّ موضوع النجاسة في المتنجّسات ليس الجسم أو الشيء، وما اشتهر في كلمات الفقهاء من أنّ (كلّ جسم لاقى نجساً مع رطوبة أحدهما ينجس) لا يمكن
الاستناد إليه؛ لأنّه ليس مدلولًا لدليل شرعي من آية أو رواية، بل إنّما هو قاعدة مستنبطة من الأدلّة الخاصّة الواردة في موارد معيّنة من الثوب والبدن والماء ونحوها، فالجسم في
العبارة المذكورة لا موضوعيّة له، بل هو عنوان
انتزاعي مشير إلى تلك العناوين الخاصّة، فللصور النوعيّة والعناوين الخاصّة دخالة في حكم النجاسة، فإذا زالت بالاستحالة زال عنها حكمها كما هو الحال في الأعيان النجسة.
ونوقش فيه بمنع دخالة العناوين المشخّصة في حكم النجاسة في المتنجّسات، وأنّ موضوعها هو الجسم أو الشيء، ولا خصوصيّة للعناوين المذكورة في الأدلّة، ويشهد لذلك صحّة الحكم بنجاسة كلّ ما لاقى النجس وإن لم يذكر بخصوصه في الأدلّة، فإنّ لازم ذلك عدم دخل شيء من الخصوصيّات في ترتّب حكم النجاسة، مع أنّه وإن لم ترد في النصوص العبارة المتقدّمة إلّا أنّه قد ورد فيها ما يوافق هذا المضمون، كقوله عليه السلام في موثّق
عمّار في الرجل يجد في إنائه فأرة: «إن كان رآها في
الإناء قبل أن يغتسل أو يتوضّأ أو يغسل ثيابه، ثمّ فعل ذلك بعد ما رآها في الإناء فعليه أن يغسل ثيابه، ويغسل كلّ ما أصابه ذلك الماء».
فإنّ معنى قوله عليه السلام: «يغسل كلّ ما أصابه» يغسل كلّ شيء أصابه.
بأنّ هناك فرقاً بين التبدّل في الخصوصيّات الشخصيّة أو الصنفيّة كما في تبدّل الثوب قطناً أو القطن ثوباً أو صيرورة الحنطة طحيناً أو خبزاً، وبين التبدّل في الأوصاف النوعيّة كتبدّل الثوب المتنجّس تراباً أو الخشب المتنجّس رماداً، ففي الأوّل أنّ النجاسة العارضة على تلك الأشياء بملاقاة النجس لا ترتفع عنها بالتبدّل في تلك الأوصاف؛ لأنّ الثوب هو القطن حقيقةً، وإنّما يختلفان في وصف التفرّق و
الاتّصال ، كما أنّ الحنطة هي الخبز واقعاً، وإنّما يفترقان في الطبخ وعدمه، والنجاسة مترتّبة على عنوان الجسم أو الشيء، وهما صادقان بعد التبدّل أيضاً، بل الشيء قبله هو الشيء بعده بعينه عقلًا وعرفاً، والتبدّل في الأوصاف الشخصيّة أو الصنفيّة غير مغيّر للحقيقة بوجه، وعليه فلا مانع من التمسّك
بالإطلاق أو الاستصحاب
لإحراز بقاء الموضوع و
اتّحاد القضية المتيقّنة والمشكوك فيها.
وهذا بخلاف الثاني- أي التبدّل في الأوصاف النوعيّة الذي سمّي بالاستحالة- فإنّه لا يمكن التمسّك فيه بالإطلاق أو الاستصحاب؛ لمغايرة أحدهما الآخر وارتفاع موضوع النجاسة عقلًا وعرفاً أو عرفاً فحسب، والنجاسة بالملاقاة وإن كانت مترتّبة على عنوان الجسم أو الشيء إلّا أنّ المتبدّل إليه شيء والمتبدّل عنه- الذي حكم بنجاسته بالملاقاة- شيء آخر، والذي لاقاه النجس هو الشيء السابق دون الجديد، ولا يسري حكم فرد إلى فرد آخر مغاير له.
أنّ بالتبدّل في العناوين المنوّعة يرتفع الشيء السابق ويزول ويتحقّق شيء آخر جديد، فلا مجال معه للتمسّك بالإطلاق أو الاستصحاب، وعلى هذا فالاستحالة في المتنجّسات كالاستحالة في الأعيان النجسة موجبة لانعدام الموضوع السابق و
إيجاد موضوع جديد.
الموسوعة الفقهية، ج۱۱، ص۱۷۹-۱۸۴.