بلوغ الشاهد
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
فلا تقبل
شهادة الصبي ما لم يصر مكلفا؛ وقيل: تقبل اذا بلغ عشرا، وهو شاذ؛ واختلفت عبارة
الأصحاب في قبول شهادتهم في الجنايات و محصلها القبول في الجراح مع بلوغ العشر ما لم يختلفوا، ويؤخذ بأول قولهم؛ وشرط
الشيخ في
الخلاف: ألا يفترقوا.
البلوغ بلا خلاف فيه في الجملة، وبه صرّح في
الغنية مطلقاً، ولكن قال فيما بعد: وتقبل شهادة الصبيان في الشجاج والجراح خاصّة إذا كانوا يعقلون ذلك، ويؤخذ بأوّل أقوالهم ولا يؤخذ بآخرها؛ بدليل إجماع الطائفة
. هذا مضافاً إلى ما ستقف عليه من الإجماعات المحكية.
فلا تقبل شهادة الصبي غير المميّز إجماعاً كما في
الإيضاح والدروس والمسالك. وكذا المميز ما لم يصر مكلّفاً بالبلوغ، بلغ عشراً أم لا، إجماعاً في الثاني إذا شهد في غير الجنايات، كما في الإيضاح
والمهذّب وشرح الشرائع للصيمري. وكذا إذا شهد فيها عند معظم الأصحاب، على الظاهر المصرح به في المهذّب
، بل يظهر من التنقيح عدم الخلاف فيه، حيث حمل إطلاق بعض النصوص الدال على قبول شهادته على ما إذا بلغ عشراً، قال: إذ لا قائل بقبولها لدون العشر
.
ولكن في الكتب الثلاثة المتقدّمة المحكي فيها الإجماع في المسألة السابقة حكي الخلاف هنا عن ظاهر الخلاف
والإسكافي، حيث أطلقا القول بقبول شهادته في الجراح من دون تقييد بالعشر.
والأصح ما عليه الأكثر؛ لما سيظهر.
وعلى الأظهر في الأوّل أيضاً إذا كان في غير الجنايات، وهو الأشهر، بل عليه عامّة من تأخّر، بل ومن سبق إلاّ من شذّ وندر، ويستفاد من جملة من العبارات
الإجماع عليه كما سيظهر؛ للأصل، بل الأُصول، مع عدم دليل يدل على القبول عدا إطلاقات
الكتاب والسنّة، وخصوص بعض النصوص، كالخبرين:
في أحدهما: «إذا كان للغلام عشر سنين جاز أمره وجازت شهادته»
.
وفي الثاني: «شهادة الصبيان جائزة بينهم ما لم يتفرقوا ويرجعوا إلى أهلهم»
.
وفي الجميع نظر؛ لعدم عموم في الأوّل لغةً، بل ولا عرفاً بعد اختصاصه بحكم
التبادر وغيره بالبالغ من الرجال، ومع ذلك معارض بعموم كثير من النصوص الدالة على اعتبار أُمور في
الشاهد، مع القطع بعدم وجود شيء منها في الصبي بلا شبهة.
وقصور سند الخبرين؛ بالقطع في الأوّل، وطلحة بن زيد العامي في الثاني، مع ضعف دلالتهما باحتمال الحمل على القبول في الصورة الآتية المتفق عليها حمل المطلق على المقيد، وتضمن الأوّل ما لا يقول بإطلاقه أحد من أصحابنا، واحتمال الثاني الموافقة للعامّة العمياء، بقرينة
الراوي الذي مضى.
ومع ذلك معارضان بإطلاق كثير من النصوص المانعة عن القبول فيه، كالصحيح: في الصبي يشهد على
الشهادة، فقال: «إن عقله حين يدرك أنّه حق جازت شهادته»
.
وأظهر منه القويان، القريب أحدهما منه: «إنّ شهادة الصبيان إذا شهدوا وهم صغار جازت إذا كبروا ما لم ينسوها»
. والمراد من الكبر فيه والإدراك في الأوّل بحكم التبادر بل
والاستقراء البلوغ.
وأظهر منهما
الصحيح: تجوز شهادة الصبيان؟ قال: «نعم في
القتل، ويؤخذ بأوّل كلامه، ولا يؤخذ بالثاني منه»
.
والخبر: عن شهادة الصبي، قال: فقال: «لا، إلاّ في القتل، يؤخذ بأوّل كلامه ولا يؤخذ بالثاني»
.
وهذه النصوص أجدر بالترجيح وأولى؛ لوجوه شتى لا تخفى.
ومنه يظهر ضعف القول المشار إليه بقوله: وقيل: إنّه تقبل إذا بلغ عشراً مطلقاً في الجنايات وغيرها وهو مع ذلك شاذّ متروك كما هنا وفي
الشرائع وشرحه للصيمري
بحيث كاد أن يعدّ مخالفاً للإجماع، كما تشعر به العبارات المزبورة، مع أنّه لم ينقله غير الفاضلين،
والشهيد، وفي شرح الشرائع للصيمري عن
عميد الرؤساء أنّه إلى الآن لم نظفر بهذا القول.
ولكن في المهذّب والمسالك
عن صاحب
كشف الرموز أنّه حكاه عن الشيخ في النهاية. وفيه نظر؛ فإنّ الموجود في كلامه أنّ الشيخ في
النهاية حكى هذا القول
، لا أنّه حكاه عنه فيها. وقد عرفت ما يصلح دليلاً مع جوابه مفصّلاً، وزاد الأصحاب فذكروا في ردّه وجوهاً:
منها: حديث: «رفع القلم عن الصبي حتى يبلغ»
بناءً على أنّ في رفعه عنه دلالة على أنه لا عبرة بأقواله وأفعاله.
ومنها: علمه بعدم المؤاخذة له يرفع الوثوق بقوله، فلا يحصل
الظن بصدقه؛ لعدم المانع له عن
الكذب حينئذٍ.
ومنها: أنّ قوله على نفسه لا يقبل بالإقرار، فلا يقبل على غيره بالشهادة؛ لكونه أكثر شروطاً؛ ولعدم التهمة في
الإقرار وتجويزها في الشهادة، فهو من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى.
وأكثر هذه الوجوه وإن كان لا يخلو عن نظر وجهه لا يخفى، إلاّ أنّه يصلح مقوّياً لما قدّمناه من الأدلة ومؤيّداً. كلّ ذا في قبول شهادة الصبيان ذوي العشر في غير الجنايات.
واختلف عبارة الأصحاب في قبول شهادتهم في الجنايات من القتل والشجاج والجراح، بعد اتفاقهم على القبول فيها في الجملة، كما في
الانتصار والمهذّب وظاهر التنقيح وشرح الشرائع للصيمري، بل صريح الأخير والغنية
كما عرفته، وكلام التقي المحكي في التنقيح، فإنّه قال: والقدر المجمع عليه القبول في الجراح مع بلوغ العشر، ويؤخذ بأوّل كلامهم
.
ونحوه كلام
الماتن في الشرائع، وشيخنا في
الروضة، ولكنهما زادا القيودات الآتية، ولذا نسب الماتن الاختلاف هنا وفي الشرائع
إلى العبارة، وبه صرح جماعة ومنهم الصيمري في شرح الشرائع، قال: وإنّما قال المصنّف: اختلف عبارات الأصحاب في قبول شهادتهم بالجراح والقتل؛ لأنّه لا خلاف بينهم في قبول شهادتهم في الجملة، وإنّما الخلاف في العبارات، فبعضهم قَبِلَها في الجراح
والقصاص، وهو
المفيد وبعضهم قَبِلَها في الجراح دون القصاص، وهو الشيخ في النهاية والعلاّمة والشهيد
، وبعضهم اشترط اجتماعهم على مباح، وبعض لم يشترطه، وبعضهم اشترط عدم الافتراق
، ولم يشترطه بعضهم
.
وقريب منه كلام
الفاضل المقداد،
وابن فهد في شرحي الكتاب
، ولكنّهما والماتن في الشرائع
نقلا عن النهاية ما اختاره المفيد من إلحاق القصاص بالجراح، وعزاه الثاني إلى
الحلّي أيضاً، وحكى الأوّل ما نسبه الصيمري إلى الشيخ في النهاية عنه في
الخلاف.
ونحوه الماتن في الشرائع وشيخنا في شرحه، وحكى فيه مذهب المفيد عن الأكثر حيث قال بعد نقل الروايتين الأخيرتين المتضمنتين لقبول شهادتهم في القتل: ولفظ الروايتين تضمن القتل فيمكن أن يدخل فيه الجراح بطريق أولى، فمن ثم ذكر الأكثر القتل والجراح، ومنهم من اقتصر على الجراح، كالشيخ في الخلاف والمصنّف في النافع، ولعله أراد بها ما يشمل لغةً القتل؛ لأنّ القتل هو المنصوص فيما هو مستند الاستثناء
انتهى.
ومنه يظهر كون مذهب المفيد هو مختار الأكثر، بل الكل كما يفيده توجيهه المتقدّم، مع تخصيصه فيما بعد القول بالقبول في الجرح خاصّة إلى الشهيد؛ فإنّه قال: وفي الدروس صرّح باشتراط ان لا يبلغ الجراح النفس، ثم قال: واشتراط ذلك لا يخلو من إشكال، إلاّ أن يجعل مجرّد
الاحتياط في النفوس، وإلاّ فمراعاة النصوص تقتضي إدخالها. وإطراحها نظراً إلى عدم صحتها ومخالفتها
الأصل يقتضي إخراج الجراح أيضاً
.
ومن قوله هذا يظهر وجه النظر في مختار الماتن هنا وفي الشرائع من أنّ محصّلها الذي يعتمده وفاقاً منه للخلاف
القبول في الجراح خاصّة مع بلوغ الصبي العشر ما لم يختلفوا في القول ولو اختلفوا فيه يؤخذ بأوّل قولهم إذا أراد من الجراح ما يقابل القتل، لا ما يشمله؛ لعدم استفادته من الروايتين اللتين هما الأصل في المسألة.
اللهم إلاّ أن يكون المراد من قوله: محصّلها، يعني القدر المتفق عليه من تلك العبارات والمجمع عليه بيننا، ولعله الظاهر من العبارة، سيّما وأن صرّح بأظهر منها على ذلك دلالة في الشرائع، فقال بعد نقل الروايتين: والتهجّم على الدماء بخبر الواحد خطر، فالأولى الاقتصار على القبول في
الجراح بالشروط الثلاثة بلوغ العشر، وبقاء الاجتماع إذا كان على مباح؛ تمسّكاً بموضع
الوفاق.
وهو كما ترى صريح في طرحه الروايات وأخذه بالمجمع عليه.
فما في كلام شيخنا المتقدم من أنّ اطراحها يقتضي إخراج الجراح أيضاً، محل نظر واضح؛ إذ طرح الروايات يقتضي ذلك لو انحصر المستند في مخالفة الأصل فيها، وقد عرفت من كلام الماتن استناده إلى الإجماع الذي ادّعاه، فالإطراح حينئذ لا يقتضي إخراج الجراح أيضاً، فقد يكون نظر الدروس إلى ما ذكره الماتن.
والعجب من شيخنا كيف نسب مختار الخلاف إلى الماتن هنا خاصّة مع أنّ عبارته في الشرائع
كعبارته هنا في الموافقة له، هذا.
وما ذكره من عدم صحة الروايات، محل نظر؛ فإنّ الرواية الأُولى صحيحة على المختار، وإن كان فيه إبراهيم بن هاشم، وفاقاً لجماعة من المحققين
، وحسنته كالصحيحة حجّة عند المشهور، ومنهم هو أيضاً في مواضع عديدة
.
وحينئذ يتوجه المصير إلى إلحاق القتل بالجراح، سيّما مع كونه مذهب الأكثر كما ذكره هو وجمع ممّن تأخّر عنه
ومنهم الحلّي
الذي لا يعمل بأخبار الآحاد إلاّ بعد احتفافها بالقرائن القطعية.
فهذان معاضدان للرواية أو جابران لها، مضافاً إلى اعتضادها بالرواية الثانية. وبهما مضافاً إلى الإجماعات المحكية تجمع بين الروايات والأدلة المتقدمة المختلفة.
ومنه يظهر ضعف ما عليه
فخر الإسلام من عدم قبول شهادتهم مطلقاً؛ تمسّكاً ببعض الوجوه التي قدّمناها.
وبندرته والإجماع على خلافه صرح في المهذب وشرح الشرائع للصيمري
. وليس في مختاره احتياط بعد قيام الأدلة القاهرة على خلافه، بل يجب المصير إلى ما اقتضته حذراً من ضياع حق المجنيّ عليه، فتأمّل.
نعم الأحوط الأخذ بالمتفق عليه خاصّة دون غيره مما اختلف فيه، وهو ما ذكره الماتن في الشرائع، والفاضل في جملة من كتبه، والشهيدين في الدروس واللمعتين
من اعتبار قيود أربعة: بلوغ العشر، والاجتماع لمباح، وكون الحكم في الجراح
والشجاج دون النفس وما شرط في الخلاف من أن لا يفترقوا ويرجعوا إلى أهلهم بعد الفعل المشهود به إلى أن يؤدّوا الشهادة.
سيّما مع دلالة الرواية المقطوعة المتقدمة ونفي الخلاف المتقدم من
التنقيح على القيد الأوّل، وفحوى ما دل على اعتبار العدالة في البالغين على الثاني، والاحتياط المأمور به في صيانة النفس المحترمة عن التلف على الثالث، ورواية
طلحة بن زيد المتقدمة على الرابع.
وهذه الأدلة على اعتبار القيودات المذكورة وإن كان في صلوحها حجةً سيّما وإن تخصّص بها الروايتان المتقدمتان اللتان هما الأصل في المسألة مناقشة، إلاّ أنّها توجب شدّة الأمر في الاحتياط وقوّته، سيّما في مراعاة القيد الأوّل، بل لا يبعد المصير إلى تعين اعتباره؛ لانجبار المقطوعة المتقدمة الدالة عليه بما عرفته من الشهرة المحكية، بل لعلّها أيضاً ظاهرة.
ووجه ما ذكرناه من الاحتياط قوّة الأدلّة المانعة من الأُصول المؤيّدة بالاعتبار والعمومات المعتضدة بخصوص ما مرّ من الأخبار، وعدم الاطمئنان التام بتخصيصها بمثل الروايتين المتقدمتين؛ لضعف الثانية، وقصور الاولى عن الصحة على الأشهر بين
الطائفة، مع عدم وضوح جابر لهما؛ لعدم وقوف القائلين بهما على موردهما؛ لكونه القبول في القتل مطلقاً غير مقيّد بشيء من القيود المتقدمة جدّاً، مع أنّهم أطبقوا على اعتبارها كلاًّ أو بعضاً واختلفوا في القبول في القتل الذي هو مورده كما هو ظاهر الشيخين والحلّي
، وعدمه كما هو ظاهر كل من اقتصر على ذكر الجراح خاصّة
كالتقي،
والمرتضى،
وابن زهرة،
والفاضلين في كتبهم المتقدمة
، وصريح
الشهيدين في الدروس والروضة
، وظاهر الانتصار والغنية
دعوى الإجماع على عدم القبول في غيرها.
ولا ريب أنّ المتبادر منها الجراح التي لا تؤدّي إلى النفس، ولذا فهم الفرق بينها وبين القصاص جماعة من أصحابنا، فجعلوا القول بكل منهما مقابلاً للآخر..
والقائلون باختصاص القبول بها على هذا هم الأكثر، ولازم ذلك طرحهم الروايتين، فينعكس الجابر، سيّما مع دعوى الإجماع عليه في الانتصار والغنية.
وحينئذ فلعلّه يتعين الاحتياط المتقدم، كما اختاره الفاضلان والشهيدان؛ اقتصاراً فيما خالف الأُصول القطعية على المجمع عليه المتيقن.
لكن يستفاد من سياق كلمات
السيدين أنّهما أرادا بالجراح ما يعم القتل؛ حيث ذكرا على وجه الاستناد ما يدل عليه، فقالا: وقد اشتهر عند الناس أنّ
أمير المؤمنين (علیهالسّلام) قضى في ستة غلمان دخلوا الماء فغرق أحدهم، فشهد ثلاثة منهم على اثنين أنّهما غرّقاه، وشهد الاثنان على الثلاثة أنّهم غرّقوه: أنّ على الاثنين ثلاثة أخماس
الدية وعلى الثلاثة الخمسان
.
وعليه فيتقوى القبول في نفس القتل أيضاً.
ثم إنّ مقتضى الأدلّة المانعة مع اختصاص الأدلة المجوّزة فتوًى ورواية بالصبي خاصّة عدم قبول شهادة الصبية مطلقاً، وبه صرّح جماعة
كالفاضل في
التحرير، وشيخنا في الروضة
.
رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدّلائل، الطباطبائي، السيد علي، ج۱۵، ص۲۲۶-۲۳۶.