مسائل في الوقوف بعرفات
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
(وأما اللواحق فمسائل) ثلاث : الاولى :
الوقوف ركن، فإن تركه عامداً بطل حجه، الثانية : لو فاته الوقوف
الاختياري وخشي طلوع الشمس لو رجع اقتصر على
المشعر ليدركه قبل طلوع الشمس، وكذا لو نسي الوقوف بعرفات أصلاً اجتزأ
بإدراك المشعر قبل طلوع الشمس، الثالثة : لو لم يدرك عرفات نهاراً وأدركها ليلاً ولم يدرك المشعر حتى طلعت الشمس فقد فاته الحج.
(الاولى :) مسمى (
الوقوف ) بعرفة (ركن، فإن تركه عامداً بطل حجه) إجماعاً، كما في كلام جماعة،
وعن التذكرة وفي المنتهى وغيره
أنه قول علماء
الإسلام ؛ لفحوى الأخبار بأنه لا حج لأصحاب
الأراك وأن الحج عرفة.
وما ورد بخلافه
شاذّ مؤولّ.
وإطلاق العبارة ونحوها، بل ظاهرها يقتضي عدم الفرق في الحكم بالبطلان بترك الوقوف عمداً بين قسميه الاختياري والاضطراري، حتى لو ترك الاختياري عمداً بطل الحج مطلقاً وإن أتى بالاضطراري، وكذا لو ترك
الاضطراري عمداً حيث يفوته الاختياري مطلقاً. وهو الموافق للأُصول؛ لعدم
الإتيان بالمأمور به على وجهه. وليس فيما يدل على كفاية الاضطراري عموم يشمل نحو ما نحن فيه؛ لاختصاصه بغيره كما يأتي.
نعم، في القواعد قصر الحكم على الاختياري، فقال : الوقوف الاختياري بعرفة ركن، من تركه عمداً بطل حجه.
وهو مشعر بأن الاضطراري ليس كذلك، فلو تركه حيث يتعين عليه عمداً لم يبطل حجه، ولا دليل عليه؛ ولذا قيل : إنما اقتصر عليه ليعلم أنه لا يجزئ
الاقتصار على الاضطراري عمدا، بل من ترك الاختياري عمدا بطل حجه وإن أتى بالاضطراري.
وهو حسن.
(وإن كان) تركه (ناسياً تداركه ليلاً ولو إلى الفجر) متصلاً به إذا علم أنه يدرك المشعر قبل طلوع الشمس؛ لما مرّ من
الإجماع والصحاح فيمن لا يتمكن من الوقوف نهاراً أجزأه ليلاً.
وهي وإن قصرت عن التصريح بالناسي إلاّ أنه مستفاد من التعليل في بعضها بأن الله تعالى أعذر لعبده،
فإنّ النسيان من أقوى الأعذار. بل قيل : يمكن
الاستدلال به على عذر الجاهل، كما هو ظاهر اختيار الدروس.
ويدلُّ عليه عموم قول
النبي صلي الله عليه و آله وسلم : «من أدرك عرفات بليل فقد أدرك الحج».
وقول
الصادق عليه السلام : «من أدرك جَمْعاً فقد أدرك الحج».
وهو
حسن حيث يكون الجهل عذراً، بأن يكون ساذجاً لم يشبه تقصيراً أصلاً، وإلاّ فمشكل. ولعلّ في
اشتراط العبارة النسيان
إشعاراً باختصاص الحكم به. ولا ينافيه اشتراط التعمد في
البطلان سابقاً؛ لاحتمال كون الجهل المشوب بالتقصير عند المصنف عمداً.
ثم إن وجوب التدارك ليلاً إنما هو مع
الإمكان ، ويتحقق بعلمه بإدراك المشعر قبل طلوع الشمس لو وقف بها كما قدّمنا، وكذا لو ظنّ ذلك كما في صريح الأخبار،
وينتفي بظن الخلاف كما فيها.
وفي تحققه باحتمال الأمرين على السواء إشكال، بل قولان، ومفهوم اشتراط الظن في الأخبار متعارضة، فلم يبق فيها ما يدل على شيء من القولين وإن توهّم لأحدهما، وهو نفي الإمكان بذلك و
الاجتزاء بالمشعر.
نعم، في بعض الأخبار ما يرشد إليه، وفيه : «إن ظن أن يدرك الناس بجَمْع قبل طلوع الشمس فليأت عرفات، وإن خشي أن لا يدرك جمعاً فليقف بجمع ثم ليفض مع الناس فقد تمّ حجه»
وإطلاقه صدراً وذيلاً، مفهوماً ومنطوقاً دالّ على ذلك، إلاّ أنه قاصر سنداً، لكن لا بأس به، والله سبحانه أعلم.
(ولو فاته) التدارك ليلاً أيضاً (اجتزأ) بالوقوف (بالمشعر) إجماعاً بسيطاً، كما في كلام جماعة، وعن
الانتصار والخلاف والغنية والجواهر،
ومركّباً، كما في المنتهى،
وعن الانتصار أيضاً؛
فإنّ من أوجب الوقوف بالمشعر أجمع على الاجتزاء باختياريته إذا فات الوقوف بعرفة لعذر؛ وهو الحجّة. مضافاً إلى الصحاح المستفيضة المتقدم إليها
الإشارة .
(الثانية) : قد ظهر مما سبق أنه (لو فاته الوقوف الاختياري) بعرفة لعذر مطلقاً (وخشي طلوع الشمس) من يوم النحر (لو رجع) والأولى : وقف، أو أتى، ونحوهما، إلى عرفات ليتدارك الوقوف ليلاً (اقتصر على) الوقوف ب (المشعر ليدركه قبل طلوع الشمس، وكذا لو نسي الوقوف بعرفات أصلاً) أي نهاراً وليلاً (اجتزأ بإدراك المشعر قبل طلوع الشمس.)
(ولو أدرك عرفات قبل
الغروب ولم يتفق له المشعر حتى طلعت الشمس) من يوم النحر (أجزأه الوقوف به) أي بالمشعر (ولو قبل الزوال) من يومه، بغير خلاف أجده، بل عليه الإجماع في المنتهى وعن التذكرة،
وفي التنقيح وغيره
بلا خلاف.
للصحيح أو ما يقرب منه : في رجل أفاض من
عرفات إلى منى، قال : «فليرجع فليأت جمعاً فيقف بها وإن كان الناس أفاضوا من جمع»
ونحوه الموثق.
وكذا لو عكس فأدرك اختياري المشعر واضطراري عرفة أجزأه بلا خلاف، كما في
التنقيح وغيره،
مشعرين بالإجماع، كما في صريح المنتهى،
وعن الانتصار والخلاف والجواهر و
التذكرة ؛
وعموم أخبار : «من أدرك المشعر فقد أُدرك الحج» وهي صحاح مستفيضة،
وسيأتي إلى جملة منها الإشارة؛ وخصوص الصحاح المستفيضة المتقدمة فيمن لم يتمكن من الوقوف بعرفة نهاراً أجزأه الوقوف بها ليلاً، وهي صريحة في
إجزاء اختياري المشعر وحده، وعليه الإجماع في كلام جماعة.
وفي إجزاء اختياري عرفة وحده إشكال، ذكره الفاضل في المنتهى والتحرير،
وحكي عنه في التذكرة.
قيل : من عموم الصحيح : «إذا فاتك
المزدلفة فقد فاتك الحج»
وفي المرسل : «الوقوف بالمشعر فريضة، والوقوف بعرفة سنّة»
والخبر : «وإن لم يأت جمعاً حتى تطلع الشمس فهي عمرة مفردة ولا حج له».
وممّا اشتهر من النبوي : «الحج عرفة»
لكن لم نره مسنداً من طريقنا، والحسن : «الحج الأكبر الموقف بعرفة ورمي الجمار»
والأخبار فيمن جهل فلم يقف بالمشعر حتى فاته إنه لا بأس،
وفيمن تركه متعمداً إنّ عليه
بدنة ،
وهي خيرة الجامع و
الإرشاد والتبصرة والدروس واللمعة.
أقول : بل المشهور كما في كلام جماعة،
وعزاه إلى الأصحاب في
الذخيرة ،
مشعراً بعدم الخلاف فيه، كما هو ظاهر المختلف والدروس
أيضاً، وصرّح به جماعة.
ولا ينافيه تردّد العلاّمة؛ فإنه وإن تردّد أوّلاً إلاّ أنه فيما وقفت عليه من الكتابين الأوّلين صرّح بما عليه الجماعة ثانياً، فقال : ولو نسي الوقوف بالمشعر فإن كان قد وقف بعرفة صحّ حجه وإلاّ بطل.
وعليه فلا إشكال في المسألة، سيّما وأن في الأخبار الأوّلة التي أتى بها وجهاً للمنع مناقشة؛ لقصور أسانيدها جملةً حتى الرواية الأُولى التي وصفها بالصحة؛ فإنّ في سندها على ما وقفت عليه
قاسم بن عروة ، وحاله بالجهالة معروفة. نعم منطوقها مفهوم من أخبار صحيحة، منها : «من أدرك جمعاً فقد أدرك الحج».
لكن دلالتها كمنطوق الرواية بالعموم كما ذكره، فيحتمل التخصيص بما إذا لم يدرك اختياري عرفة، ويتعيّن جمعاً بين الأدلة. وحيث كفى اختياري أحدهما في صحة الحج فاختياريهما معاً أولى. فهذه صور خمس، لا خلاف يعتدّ به ولا إشكال في إدراك الحج بكل منها : اختياريهما، واختياري أحدهما، مع اضطراري الآخر وبدونه. وبقي ثلاث صور أُخر : اضطراريهما معاً، واضطراري أحدهما.
أما اضطراري
عرفة وحده فلا يجزئ بلا خلاف أجده إلاّ من
إطلاق عبارة الإسكافي خاصة،
ولكن قيل : مراده اضطراري المشعر خاصة،
ولعلّه لذا ادّعى على عدم الكفاية الإجماع جماعة.
وأما الصورتان الأُخريان ففيهما خلاف أشار إليه في إحداهما بقوله : (الثالثة : لو لم يدرك عرفات نهاراً وأدركها ليلاً ولم يدرك المشعر) الحرام (حتى طلعت الشمس فقد فاته الحج) وفاقاً للمحكي عن ظاهر
النهاية والمبسوط؛
للنصوص المستفيضة القائلة إنّ من لم يدرك الناس بمشعر قبل طلوع الشمس من يوم النحر فلا حج له،
فإنها بعمومها تشمل محل النزاع، بل وما إذا أدرك اختياري عرفات أيضاً، لكنه خرج بالإجماع، وبقي الباقي.
لكنها معارَضة بالصحاح المستفيضة وغيرها من المعتبرة القائلة إنّ من أدرك المشعر قبل زوال الشمس من
يوم النحر فقد أدرك الحج.
وتقييدها بمن أدرك اختياري عرفة خاصة ليس بأولى من تقييد تلك بصورة عدم إدراك عرفة مطلقاً ولو اضطراريها. بل هذا أولى؛ لرجحان المعارَضة بالكثرة والشهرة و
اعتبار الأسانيد جملة، مع كون صحاحها مستفيضة، بخلاف تلك، لضعف أسانيدها جملة عدا صحيحة واحدة. وهي وإن صحّ سندها لكنها ظاهرة في عدم إدراك عرفات بالكلية؛ فإنّ فيها : عن رجل فاته الموقفان جميعاً، فقال : «له إلى طلوع الشمس يوم النحر، فإن طلعت الشمس من يوم النحر فليس له حج ويجعلها عمرة وعليه الحج من قابل»
ونحن نقول بها في هذه الصورة كما ستعرفه، هذا.
مضافاً إلى خصوص الصحيح الصريح : «إذا أدرك الحاج عرفات قبل
طلوع الفجر فأقبل من عرفات ولم يدرك الناس بجمع ووجدهم قد أفاضوا فليقف بالمشعر قليلاً، وليلحق الناس بمنى، ولا شيء عليه».
(و) حينئذ فالأصح ما (قيل) بأنه (يصح حجه) : مطلقاً (ولو أدركه) أي المشعر (قبل الزوال) من يوم النحر، والقائل الأكثر، ومنهم : الصدوق و
الإسكافي والمرتضى والحلبيّان
فيما حكي، وأكثر المتأخرين، بل عامّتهم. وظاهر الأوّلين وجملة من الآخرين كفاية إدراك اضطراري المشعر خاصة؛ لعموم الصحاح المستفيضة وغيرها من المعتبرة المتقدم إليها الإشارة، بل خصوص بعضها، وهو الصحيح فيمن قال : إني لم أُدرك الناس بالموقفين جميعاً، فقال : «إذا أدرك مزدلفة فوقف بها قبل أن تزول الشمس يوم النحر فقد أدرك الحج».
لكنه ليس بصريح، بل قيل : ظاهر في إدراك عرفات أو مجمل فيه،
فسبيله كما عداه.
ومع ذلك معارض بالصحيحة السابقة المضاهية لهذه الصحيحة فيما يوجب الخصوص من التعبير في السؤال بمن فاته الموقفان جميعاً، وتعلّق الجواب بأنه لا حج له إذا أدرك اضطراري المشعر خاصة. مضافاً إلى صحيحة أُخرى أظهر من هذه الصحيحة، بل لعلّها صريحة فيما تضمنته : عن الرجل يأتي بعد ما يفيض الناس من عرفات، فقال : «إن كان في مهل حتى يأتي عرفات من ليله فيقف بها ثم يفيض فيدرك الناس في المشعر قبل أن يفيضوا، فلا يتم حجّه حتى يأتي عرفات، وإن قدم وفاتته عرفات فليقف بالمشعر الحرام، فإنّ الله تعالى أعذر لعبده، وقد تمّ حجّه إذا أدرك
المشعر الحرام قبل طلوع الشمس وقبل أن يفيض الناس، فإن لم يدرك المشعر الحرام فقد فاته الحج فيجعلها عمرة مفردة، وعليه الحج من قابل».
فلم يبق إلاّ عموم ما عداه، وهو معارض بعموم النصوص المقابلة في المسألة السابقة القائلة إنّ من لم يدرك المشعر قبل طلوع الشمس فلا حج له،
لكنّها ضعيفة الأسانيد كما عرفت. ومع ذلك ظاهر عمومها مخالف للإجماع؛ لشموله ما إذا أدرك اختياري عرفة. ولا كذلك عموم الصحاح؛ لموافقتها بعمومها لما عرفت من فتوى هؤلاء الجماعة، ولا ريب أن هذا العموم أولى من العموم السابق، سيّما مع
الأولوية عدداً وسنداً كما مضى، فيترجح ما عليه هؤلاء.
خلافاً للأكثر، فمنعوا عن ذلك؛ ولعلّه لخصوص الصحيحة الأخيرة، فإنها أوضح دلالة من الصحاح المقابلة، فلتحمل على ما إذا أدرك اختياري عرفة أو اضطراريها، حمل المطلق على المقيد أو (العام على الخاص). هذا مضافاً إلى الشهرة الجابرة للنصوص المقابلة في مفروض المسألة، المعاضدة لهذه الصحيحة الصريحة، وبذلك تترجح هذه النصوص على ما عارضها من الصحاح. مع أن في العمل بعمومها
اطراحاً لتلك النصوص طرّاً، ولا كذلك العكس، فإنّ غايته تقييد الصحاح بمن أدرك عرفات، وهو أهون
بالإضافة إلى طرح النص. ولا يقدح عمومها لما أدرك عرفات مطلقاً بعد وجود الدليل على تخصيصها بما إذا لم يدركها أصلاً، كما هو ظاهر الصحيح منها.
فما عليه الأكثر أظهر، سيّما وفي صريح
المختلف والتنقيح والمنتهى
كما حكي الوفاق عليه، وهو حجة أُخرى عليه جامعة كالصحيحة المتقدمة بين الأخبار المتعارضة، بتقييد الصحاح منها بمن أدرك عرفات مطلقاً ولو اضطراريها، والضعيفة بما إذا لم يدركها كذلك. وقد تلخّص مما ذكرنا أن أقسام الوقوفين بالنسبة إلى
الاختياري والاضطراري ثمانية، وكلّها مجزئة إلاّ الاضطراري الواحد منها، كما عليه جماعة، ومنهم الشهيد في الدروس واللمعة.
رياض المسائل، ج۶، ص۳۴۸- ۳۵۸.