نكول المنكر عن اليمين
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
ولو نكل المنكر عن
اليمين وأصر، قضي عليه بالنكول، وهو المروي؛ وقيل: يرد اليمين على المدعي، فان حلف ثبت حقه، وان نكل بطل؛ ولو بذل المنكر اليمين بعد الحكم بالنكول لم يلتفت اليه.
ولو نكل المنكر عن اليمين وعن ردّها معاً قال له الحاكم: إن حلفت وإلاّ جعلتك ناكلاً، مرّةً وجوباً، ويكرّر ذلك ثلاثاً استظهاراً لا فرضاً، كذا قالوه. وإن أصرّ، قضى عليه بالنكول ويلزم بحق المدّعى بمجرده، وفاقاً
للصدوقين والشيخين والديلمي والحلبي.
للنبوي المتقدم المستفيض: «البيّنة على المدّعى واليمين على من أنكر» فإنّه جعل جنس اليمين في جانب المدّعى عليه، كما جعل جنس
البينة في جانب المدّعى، والتفصيل قاطع للشركة، وردّ اليمين على المدّعى حيث يحكم عليه بها جاء من قبل الردّ لا بأصل
الشرع المتلقّى من الخبر.
وللصحيح المشار إليه بقوله: وهو المروي: عن الأخرس كيف يحلف؟ قال: «إن
أمير المؤمنين (علیهالسّلام) كتب له اليمين وغسلها وأمره بشربها، فامتنع، فألزمه
الدين»
.
وظاهره أنّه لم يردّ اليمين على خصمه، وإلاّ لنقل، ولزم تأخير البيان عن وقت الخطاب، بل عن وقت الحاجة.
مع أنّ قوله: «فألزمه» دالّ على تعقيب الإلزام للامتناع بغير مهلة لمكان الفاء، وهو ينافي تخلّل
اليمين بينهما، وفعله (علیهالسّلام) حجة كقوله.
والفرق بين الأخرس وغيره ملغى بالإجماع.
والخبر: عن رجل يدّعي قِبَل الرجل الحق، ولا يكون له بيّنة بماله، قال: «فيمين المدّعى عليه، فإن حلف فلا حق له، وإن لم يحلف فعليه»
.
فرتب ثبوت الحق على عدم حلفه، فلا يعتبر معه أمر آخر. وقصور
السند بالجهالة مجبور بتلقّي الأصحاب إيّاه بالقبول في غير مورد المسألة، وهو الحكم بثبوت اليمين على المدّعى على
الميت مع بيّنته.
وفي الجميع نظر:
فالأوّل: بعدم دلالته على الحكم بالنكول صريحاً، بل ولا ظاهراً، وإنّما غايته إفادة أنّ جنس اليمين على المنكر، وأنّه وظيفته، ونحن لا ننكره، وليس فيه دلالة على ذلك بشيء من الدلالات الثلاث بعد ملاحظة أنّ المتبادر منه بيان الوظيفة الشرعية في الأصل والإبتداء لكل من المنكر والمدّعي، وهو لا ينافي ردّ اليمين على المدّعى من باب الردّ، ولو من الحاكم الذي هو نائب المنكر حيث يستعصي ويوقف الأمر على حاله، ويبقى النزاع الموجب للفساد على حاله، لا بأصل الشرع المتلقّى من
الخبر، كما اعترف به المستدل في جوابه عن النقض المتقدم.
وبالجملة: إن ارتفع المنافاة بما ذكره في محلّ النقض ودفعه فلترتفع به أيضاً في محل البحث، وعدم قيام دليل على ثبوت الردّ فيه على تقدير تسليمه لا يوجب المنافاة على تقدير ثبوته.
وبالجملة: المقصود من ذلك دفع المنافاة التي هي الأصل والبناء في صحة الاستدلال، وحيث فرض عدمها بالرد في محل البحث أيضاً ولو على تقدير ثبوته، لم يصح الاستدلال بالخبر المذكور على الحكم بالنكول وردّ القول بالردّ.
والثاني أوّلاً: بعدم القائل بإطلاقه؛ لأنّ الحكم بالنكول على تقدير القول به مشروط اتفاقاً بالنكول عن كلّ من الحلف وردّه، وليس فيه إلاّ الإشارة إلى النكول عن
الحلف خاصّة دون النكول عن ردّه، فلا بدّ من تقديره، وليس بأولى من تقدير الردّ على المدّعى وحلفه.
وبالجملة: فلا بدّ من تقدير شيء، ولا قرينة في الخبر على تعيينه، فكما يمكن تقدير ما يوافق الاستدلال كذا يمكن تقدير ما يخالفه، وحيث لا مرجّح فيه للأوّل على الثاني لم يتوجه الاستدلال به، فتأمّل.
وثانياً: بأنّ لزوم تأخير البيان عن وقت الحاجة وإن كان مسلّماً قبحه، إلاّ أنّ الحاجة في الخبر كما يظهر من صدره هو معرفة كيفيّة حلف الأخرس، لا كيفيّة الحكم في
الدعوى معه مع نكوله، ولزوم تأخير البيان عن وقت الخطاب لا بأس به، كما قرّر في محله.
وثالثاً: بأنّ الخبر قضية في واقعة، فلا تكون عامّة، فتأمّل.
ورابعاً: بأنّه فرع العمل به في كيفية إحلاف الأخرس، ولم يقل به المشهور ومنهم
الماتن وغيره ممّن حكم بالنكول وغيره، عدا نادر كما يأتي، فلا يمكنهم الاستناد إليه لإثباته.
وخامساً: بمنافاته على تقدير تسليم دلالته لما سيأتي من إطباق الجمهور على نقل خلافه عن
علي (علیهالسّلام).
والثالث: بضعف السند أوّلاً، وتلقّي الأصحاب إيّاه بالقبول جابر لخصوص ما تلقّوه لا جميعاً، كما بيّنت الوجه فيه في رسالة في الإجماع مستقصى.
وثانياً: باختلاف النسخة فيه، ففي
الكافي والتهذيب كما مرّ، وفي
الفقيه بدل محل الاستدلال وهو قوله: «وإن لم يحلف فعليه» بقوله: «وإن ردّ اليمين على المدّعى فلم يحلف فلا حق له» وعليه فلا دلالة فيه على الحكم، واختلاف النسخة موجب لتزلزل
الرواية، وإن رجّحت النسخة الأُولى بتعدد النقلة.
وثالثاً: بضعفه دلالة بما ضعّفنا به الصحيحة المتقدمة من عدم القائل بإطلاقه، فلا بدّ من تقييده إمّا بالنكول عن الردّ، كما هو مناط الاستدلال. أو بما إذا ردّ اليمين على المدّعى وحلف، وليس بمرجوح بالإضافة إلى الأوّل، كما مرّ.
ورابعاً: بإجمال مرجع الضمير في عليه والمبتدأ المقدر، فكما يحتمل المنكر ويكون المبتدأ المقدر الحق، كذا يحتمل المدّعى ويكون المقدر الحلف، أو المنكر ويكون الحق المقدر غير المال بمعنى الدعوى، ويكون كناية عن عدم انقطاع الدعوى عنه بمجرد نكوله، فلا يحسبه مفرّاً عنها، بل هي عليه باقية، وربما أوجب عليه المدّعى بعد إتيان المدّعى باليمين المردودة عليه.
وخامساً: بأنّ في ذيله ما يؤيّد القول الآتي، بل وربما يستدل عليه به، وهو قوله (علیهالسّلام): «ولو كان» أي المدّعى عليه «حيّاً لأُلزم باليمين، أو الحق، أو يُردّ اليمين عليه» بصيغة المجهول، كما هو في التهذيب المعتبر المصحح عندي مضبوط، وبه صرح بعض الفضلاء
أيضاً.
ووجه التأيّد ظاهر؛ إذ العدول عن قول: أو ردّ اليمين، أو يَردّ، بصيغة المعلوم إلى المجهول لا وجه له بحسب الظاهر غير التنبيه على عدم انحصار الرادّ في المنكر وإمكان كونه غيره، وليس إلاّ الحاكم.
وسادساً: بقوة احتماله كغيره على تقدير تسليمه الحمل على
التقية؛ لكونه مذهب جماعة من العامّة، كما سيأتي إليه الإشارة، ومنهم
أبو حنيفة، ورأيه مشتهر بينهم، بل وأكثرهم عليه في الأزمنة السابقة واللاحقة.
ولعلّ ما ذكرناه من وجوه النظر في هذا الخبر عدا الأخير منها هو الوجه في عدم استدلال أكثر
الأصحاب به لهذا القول في محلّ البحث.
وقيل: يَردّ الحاكم اليمين على المدّعى من باب نيابته العامّة فإن حلف ثبت حقه، وإن نكل بطل ولعلّ هذا أظهر، وفاقاً لكثير من القدماء
كالإسكافي والشيخ في المبسوط والخلاف
والحلّي وابن زهرة وابن حمزة وأكثر المتأخرين
، عدا الماتن هنا وفي
الشرائع وشيخنا
الشهيد الثاني وبعض من تبعه
، مع تردّد ما للماتن وشيخنا.
وبالجملة: لا ريب في شهرة هذا القول بين المتأخّرين، بل عليه عامتهم كما يظهر من
المسالك، وعن
الخلاف وفي
الغنية الإجماع عليه
، وفي
السرائر أنّه مذهب أصحابنا عدا الشيخ في
النهاية، وقد رجع عنه في الخلاف
والمبسوط، وظاهره أيضاً الإجماع عليه، وهو الحجة.
مضافاً إلى الأصل الدال على براءة ذمّة المنكر عن الحق المدّعى عليه، وعدم ثبوته عليه بمجرد نكوله؛ لاحتمال كونه لاحترام اليمين لا الإذعان بثبوت الحق ولزومه، فلا يخرج عنه إلاّ بدليل قائم على إثباته عليه بمجرده.
والجواب عنه بقيام الدليل على ذلك كما مرّ ضعيف، يظهر وجهه لمن تأمّل الأجوبة عنه التي تقدمت وفيها نظر.
وقريب منه الجواب عن
الإجماع بوجود المخالف من نحو
المفيد وغيره
؛ لضعفه أوّلاً: بابتنائه على أُصول العامّة في الإجماع حيث جعلوه مجرد
الوفاق، ولا يتم على ما عليه الأصحاب من أنّه هو الاتفاق الكاشف عن قول
الإمام (علیهالسّلام)، ولو كان في اثنين وخلى عنه مائة مطلقاً كائناً من كانوا.
نعم لو بلغ المخالف في الكثرة حد
الشهرة أمكن القدح فيه بالوهن لنا الموجب للمرجوحية، أو الخروج عن الحجية، وليس في المسألة بلا شبهة.
وثانياً: بعدم صراحة كلامهم في المخالفة؛ لاحتماله الحمل على ما حمل عليه الحلّي
كلام النهاية من أنّ المراد بقوله: لزمه الحق، يعني أنّ بنكوله صارت اليمين على المدّعى، بعد أن كانت له، وكل من كانت عليه فهو أقوى من صاحبه، والقول قوله مع يمينه، لا أنّه بمجرد النكول يقضي الحاكم عليه بالحق، من دون يمين خصمه.
وربما يشير إلى قرب حمله النظر في كلام الغنية
، حيث ادّعى على المختار صريحاً إجماع
الإماميّة، ومع ذلك قال فيما بعد ذلك بورقة: وإن نكل المدّعى عليه عن اليمين، ألزمه الخروج عن حق خصمه ممّا ادّعاه، فتدبّر، هذا.
مع التأيّد بكثير ممّا ذكره الجماعة دليلاً لهذا القول وحجة، ولا فائدة لذكرها بعد قوّة إمكان المناقشة فيها، وبسببها لا يمكن أن يتخذ حجة، لكنها للتأييد كما عرفت صالحة، هذا.
مضافاً إلى ما في
المختلف وغيره
من نسبة الجمهور هذا القول إلى مولانا
أمير المؤمنين (علیهالسّلام)، وإطباقهم على النسبة يدفع عنهم توهم
الكذب ونحوه، سيّما مع مخالفة جمع منهم له، فيكون ذلك حجة قويّة مؤيّدة بما حكاه شيخنا في حاشيته على كتابه المسالك من أنّ هذا القول
مذهب الشافعي ومالك، والأوّل قول أبي حنيفة وأحمد، وموافقة الشافعي للإمامية في أكثر الفروع مشهورة غير مستورة، وأبو حنيفة بطرف الضد من ذلك،
والظن يلحق الشيء بالأعم الأغلب، فتدبّر.
ومع ذلك فهذا القول أحوط أيضاً لو بذل المدّعى اليمين؛ لثبوت الحق عليه حينئذٍ إجماعاً.
وأمّا مع عدم بذله لها ونكوله عنها فتصور
الاحتياط في هذا القول مشكل، وإن أطلق جماعة
كونه أوفق بالاحتياط؛ لأنّ المدّعى بنكوله عن اليمين بعد ردّها عليه يوجب سقوط حقه، وعدم جواز مطالبة المنكر بشيء، وهو لا يوافق القول الأوّل لإثبات الحق فيه على المنكر بنكوله على
الإطلاق.
والاحتياط عبارة عن الأخذ بالمتفق عليه المتيقّن، والأخذ بهذا القول فيما فرضناه ليس كذلك قطعاً، لاحتمال كون الحق مع القول الأوّل، فلو عمل بهذا القول لذهب حق المدّعى لو كان.
وعلى القول الأوّل لو بذل المنكر اليمين بعد الحكم عليه من الحاكم بالنكول لم يلتفت إليه بلا خلاف فيه وفي عدم الالتفات إليه أيضاً بعد إحلاف الحاكم المدّعى على القول الثاني؛ لثبوت الحق عليه بذلك فيستصحب إلى تيقّن المسقط، وما دلّ على السقوط بيمينه مختص بحكم
التبادر وغيره بيمينه قبل الحكم عليه بنكوله، أو إحلاف المدّعى بردّ الحاكم اليمين عليه، أو ردّه في غير صورة نكوله.
هذا إذا كان الحكم عليه بنكوله بعد عرض حكمه عليه ولو مرّة.
ولو قضى بنكوله من غير عرض فادّعى الخصم الجهل بحكم النكول ففي نفوذ
القضاء إشكال: من تفريطه، وظهور عذره، ولعلّ الثاني أظهر، وبالأصل أوفق.
ولو بذلها قبل حلف المدعي فالأقرب جوازه، ولو منعناه فرضي المدّعى بيمينه قيل: فله ذلك
.
واعلم أنّ المستفاد من عبائر الأصحاب عدا الماتن هنا عدم الالتفات إلى اليمين المبذولة بعد النكول لا بعد الحكم به، وهو مشكل، ولذا اعترضهم
المقدس الأردبيلي فقال: هو فرع ثبوت الحق بالنكول فوراً، ولا دليل عليه
.
وهو حسن إلاّ أنّ احتمال مسامحتهم في التعبير وإرادتهم ما هنا قائم، فتأمّل.
رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدّلائل، الطباطبائي، السيد علي، ج۱۵، ص۸۷-۹۵.