إجارة الأعيان
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
تجوز
إجارة كلّ ما يمكن
الانتفاع به مع بقاء عينه، ويملك المستأجر بالإجارة تلك المنفعة، ولا يشترط أكثر من تملك المنفعة وإن لم تكن الرقبة قابلة للتمليك
والبيع كما في العين
الموقوفة أو
المصحف الشريف عند من لا يجيز بيعه.
ولا بد من تعيين نوع المنفعة وتحديد مدتها ومشاهدة العين وأوصافها إلى غير ذلك من الشروط العامة في الإجارة.
وقد تعرّض الفقهاء لبعض أنواع إجارة الأعيان لأهميتها ولما لها من أحكام خاصة نتعرّض لها تفصيلًا.
•
إجارة الأرض والعقار، لا إشكال ولا خلاف
في جواز
إجارة الأرض والعقار للسكنى
والزرع والغرس والبناء ونحوه أو لجميع ذلك كما هو صريح الفقهاء؛ لما فيها من منافع عقلائية محلّلة.
صرّح الفقهاء
بجواز استئجار الدار لاتخاذها مسجداً يصلّى فيه، بل نفى عنه الخلاف في
الجواهر ،
بل في نهج الحق نسبته إلى
الإمامية .
واستدلّ له بأنّه غرض مقصود محلّل متقوّم، فلا مانع من صحة الإجارة وجواز العمل المذكور.
وإنّما تعرضوا له بالخصوص رداً على أبي حنيفة حيث منع منه، بدعوى أنّ فعل
الصلاة لا يجوز استحقاقه بعقد إجارة بحال، فلا تجوز الإجارة لذلك.
وأجاب الأعلام عن هذا الإشكال بأنّه يمكن الاستئجار على نحوين:
الاستئجار لغرض بناء
مسجد في الأرض، فإنّ ما يستحقه المستأجر بالإجارة هو فعل البناء وإيجاده فيها، وأنّ الصلاة غايته لا أنّه مملوك بعقد الإجارة.
لو فرض أنّه استأجر المكان ليصلّي فيه الناس- كما هو ظاهر الفرع المذكور- لكنه لا يقتضي لزوم الصلاة؛ إذ ليس الاستئجار على الصلاة.
.
أنّ استحقاق الصلاة ولزومها بالإجارة لا يقتضي
بطلانها كما في صلاة الأجير.
ولم يرتض
المحقق الاصفهاني هذه الإجابات فقال- بناءً على جواز الاستئجار ليصلّي فيها الناس-: «والأرض أو الدار وإن كانت مورد الإجارة كما في إجارة الأعيان دائماً إلّا أنّ المملوك بعقد الإجارة هي المنفعة، وما يتصوّر منها ليس إلّا فعل الصلاة من الناس، وحينئذٍ فلازمه استحقاق فعل صلاة الناس فيه كما ذكره
أبو حنيفة ... فلا مملوك بالإجارة إلّا فعل الناس لأنفسهم مع أنّ أمرها بأيديهم».
ثمّ أجاب عن الإشكال بناء على ما اختاره من مسلك المشهور في حقيقة الإجارة فقال: «أمّا على مسلك المشهور- على ما يتراءى منهم من أنّ سكنى الساكن هي منفعة الأرض أو الدار- فقد أصلحناه بأنّ السكنى وإن كان عرضاً للساكن ولا يملكه بما هو مالك الدار، لكن إيجاده في الدار ليس تحت اختياره، وليس زمام أمره بيده بل بيد صاحب الدار، فبالإجارة يملك إيجاد السكنى فيها فكذا هنا، فإن فعل
الصلاة بما هي وإن لم يكن مملوكاً لمالك الدار لكن أمر إيجادها في داره بيده، فالمستأجر يملك هذا المعنى، ولا فرق في هذا المعنى بين أن يستأجرها لأن يصلّي فيها أو أن يصلّي فيها الناس فأمر فعل صلاة الناس بيدهم، إلّا أنّ ايجادها في الدار بيد المستأجر فعلًا كالمؤجر قبلًا».
وأمّا بناءً على مختاره في حقيقة المنفعة من أنّها حيثية للعين موجودة بوجودها على حد وجود المقبول بوجود القابل، فأجاب قائلًا: «هذا الإشكال... مندفع من أصله، فإنّ حيثية الدار مسكنيتها وقبولها لهذا المبدأ، وهي المملوكية دون سكنى زيد، أي ما هو عرض من أعراضه. فكذا هنا، فإنّ الأرض أو الدار لهما هذه الحيثية وهي كونها مصلّى لأحد، فاستئجار الأرض ليستحق به هذه الحيثية في قبال سائر الحيثيات لا يلزم منه استحقاق فعل الصلاة من الناس».
وقد يشكل الحكم بالجواز أيضاً من حيث
السفهية ؛ لعدم عود نفع إلى المستأجر؛ لأنّ المنتفع بها هو المصلّي لا المستأجر، فبذل المال بإزاء ما يعود نفعه إلى الغير سفه.
واجيب عنه بأنّ الاستئجار
لخياطة ثوب زيد أو لبناء داره أو
لكنس المسجد كذلك، ويكفي في الخروج عن السفاهة عود نفع اخروي من هذا الاستئجار إليه وإن لم ينتفع بنفس العين المستأجرة.
وهذا ما يظهر مما ذكر في حقيقة المنفعة، فراجع.
بقي الكلام في أنّ هذه الأرض التي جعلت مسجداً هل يترتّب عليها آثار المسجدية من حرمة التلويث ودخول
الجنب والحائض ونحو ذلك، أو هي نظير المصلّى الذي يتخذ في الدار وهو الذي عبّر عنه بالمسجد في لسان الأخبار؟
صرّح معظم الفقهاء بعدم ثبوت أحكام المسجدية لها؛ نظراً إلى أنّ شرطه هو كونه موقوفاً، وشرط
الوقف التأبيد، والإجارة تنافيه، فإذا تنافيا في الحكم تنافيا في الخاصية، وهي من جملة الأحكام.
فإطلاق المسجدية على الأرض المذكورة بسبب إعدادها للصلاة إمّا بحسب المجاز لهذه المناسبة، أو بجعل المسجد مشتركاً بين ما له حرمة وغيره كمسجد يتخذه الإنسان في بيته لصلاته وصلاة أهله.
لكن
المحقق الأردبيلي منع كون المسجد اسماً للعين الموقوفة، بل هو موضوع للأعم منه ومن المقام،
خصوصاً في مثل المدة الطويلة كالمائة سنة ونحوها.
وربّما يؤيّد باطلاق المعظم هنا اسم المسجد عليه، ولأنّ الأصل فيه الحقيقة.
كما أنّ
المحقق البهبهاني - وبعد أن صرّح بأنّ في شمول الأدلّة الدالّة على أحكام المساجد لمثل المقام تأمّل- قال: «وإن كان
الأحوط المراعاة».
وفصّل
السيد اليزدي بين استئجار الأرض أو الدار لتتخذ مصلّى فلا تثبت فيه آثار المسجد، وبين ما إذا قصد عنوان المسجدية لا مجرد الصلاة فيه وكانت المدة طويلة فلا يبعد ترتّب آثار المسجد؛ لصدق المسجد عليه حينئذٍ.
وخالف في ذلك أكثر المعلّقين على
العروة ؛
نظراً إلى أنّ عنوان المسجد- المساوق لعنوان كون هذا المكان للَّه تعالى وبيتاً من بيوته سبحانه- ليس كبقية الأوقاف التي قد تكون ملكاً لجهة أو لجماعة، فهو عنوان نظير
العتق في الإنسان، وهذا أمر يعتبر فيه الدوام والتأبيد الذي لا يكاد يجتمع مع التوقيت الملحوظ في مورد الإجارة؛ ولذا فإنّ الوقفية لا تزول بخراب المسجد، بخلاف سائر الأوقاف المعنونة بعناوين خاصة فانّها تزول بزوال العنوان
كالرقبة التي ترجع إلى ملك الواقف، كما لو خرب المكان الذي وقف على أن يكون مصلّى- حيث تتعذّر الصلاة فيه بتعذّر المنفعة المقصودة من الوقف- فإنّ الوقفية تبطل بذلك.
هذا مضافاً إلى كونه أمراً مرتكزاً في أذهان عامة المتشرعة يمكن استفادته من بعض الأدلّة أيضاً كقوله تعالى: «وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً»،
فإنّ ظاهره اختصاص المسجد به تعالى، فلا يكون ملكاً لأحد؛ لعدم كونه موقّتاً بوقت.
مضافاً إلى روايتي
الحميري وطلحة بن زيد ،
فإنّهما يدلّان على أنّ ما جعل للَّه تعالى فليس فيه رجوع، ولا ريب أنّ من أبرز مصاديقه جعل المكان مسجداً، فالمسجدية لا بد وأن تكون أبدية لا يجري فيها التوقيت، ولعلّ هذا أمر متسالم عليه بينهم، فإنّ عنوان المسجدية إن كان مأخوذاً فيه التأبيد
والدوام لم يجز التوقيت، من غير فرق بين طول الزمان وقصره بمناط واحد كما هو ظاهر الأدلّة، وحينئذٍ فلا مجال للإجارة المذكورة.
وإن لم يؤخذ فيه ذلك وبنينا على أنّ عنوان المسجد كعنوان المعبد قابل للتوقيت فلا فرق حينئذٍ بين الأمرين، فتفصيل السيد اليزدي بينهما لم يعرف له وجه صحيح.
في جواز إجارة الحائط المزوّق والبناء المستحكم للنظر إليه
والتعلّم منه أو
التنزّه فيه، قولان:
عدم الجواز، ذهب إليه
الشيخ وتبعه
العلّامة ،
وتردد فيه المحقق.
قال الشيخ في
المبسوط : «أمّا الحائط المزوق فلا يجوز إجارته للنظر إليه ولا البناء المحكم للنظر إليه والتعلّم منه».
وقد استدلّ له بامور:
۱- ما ذكره الشيخ من أنّ ذلك عبث لا غرض حكمي فيه، فيكون التعلّم منه
قبيح ، وما لم يجز التعلّم منه فإجارته قبيحة.
واستظهر بعضهم أنّ العلّة في المنع هي عدم
إباحة هذه المنفعة.
۲- إنّ هذه المنفعة غير مملوكة للمالك؛ لإمكان حصولها بدون إذنه، كما يجوز
الاستظلال بحائطه بدون ذلك أيضاً. ولذا فرّق العلّامة
بين هذا وبين إيجار الكتاب لتعلّم الخط الجيّد منه، وكأنّه جعل محلّ النزاع التزويق في جدرانه الخارجية التي يراها جميع الناس، لا ما إذا كان
التزويق داخل البيت.
۳- عدم تقوّم هذه المنفعة.
الجواز، إذا كان فيه غرض عقلائي، ذهب إليه الحلّي
والمحقق الثاني ،
واستحسنه
الشهيد الثاني ،
ورجحه في الحدائق،
وتبعهم عليه بعض الفقهاء.
قال الحلّي: «إذا كان فيه غرض- وهو التعلّم من البناء المحكم- تجوز الإجارة، كما يجوز إجارة كتاب فيه خط جيّد للتعلّم منه؛ لأنّ ذلك غرضاً صحيحاً، ولأنّه لا مانع يمنع منه».
الظاهر عدم دخول ما هو المتعارف في أيامنا هذه من مشاهدة المعارض والمتاحف والاطلاع على ما فيها من أشياء أثرية وغيرها في إجارة تلك الأمكنة، بل للإنسان أن يدفع مبلغاً لكي يؤذن له في الدخول والتصرّف، كإجارة الحمام بناء على القول بكون الاجرة للدخول وتبعية
استعمال الماء لذلك، فيكون كالمصالحة على حقّ.
المشهور
بين الفقهاء جواز إجارة
الدراهم والدنانير.
وقد يستدلّ عليه بوجود منفعة مقصودة للعقلاء في ذلك مع بقاء عينها بمثل
التزيّن والتجمّل ودفع
الفقر والفاقة بهما، فإنّ دفع ذلك غرض مطلوب شرعاً، ومع هذه المنفعة تتم أركان الإجارة، فلا مانع من الصحة.
هذا.
ولكن ذهب بعضهم إلى عدم الجواز؛ نظراً إلى أنّ الدراهم
والدنانير لا ينتفع بها إلّا بذهاب أعيانها، أمّا الإجارة فالغرض منها تملّك المنفعة أو الانتفاع، على أنّه لو كانت لها منفعة متقوّمة مقصودة شرعاً لُالزم
الغاصب بعوضها، وهذا ما لا يقول به أحد من الفقهاء. وأيضاً لا خلاف في عدم جواز وقف الدراهم والدنانير، فلو جاز إجارتها للزم القول بصحة وقفها.
والذي يؤيّد ذلك أنّ منفعة الدراهم والدنانير، دورانهما أثماناً للأعواض، فكلّ ما ينافي ذلك باطلًا، ولما كان
الوقف للتأبيد، والإجارة غير منحصرة في مدة كانا متنافيين، ولذا توعّد على اكتنازهما وامر
بانفاقهما .
نعم، تصح إجارة المصوغ من النقدين؛ لقوّة الانتفاع به بمثل اللبس والتزين، ولعدم وقوعه ثمناً في الغالب، كما يصح وقفه.
واورد على الاستدلال بعدم صحة وقف النقدين:
أوّلًا: بمنع الملازمة بين صحة الإجارة وصحة الوقف، ويدلّ عليه: أنّ الحر وام الولد يجوز إجارتهما ولا يجوز وقفهما.
وثانياً: أنّه يمنع عدم جواز وقفهما للمنافع المزبورة؛
لقيام
السيرة العملية من صدر الإسلام إلى يومنا هذا على وقف بعض الأعيان لمجرد الزينة، كوقف ستار
الكعبة المشرفة والقناديل المصوغة من
الذهب والفضة المعلّقة في المشاهد المشرفة.
وهذه ليست إلّا للتزيّن مع أنّ منافعها المترقبة منها هي الإسراج
والإضاءة .
وثالثاً: أنّه اجيب عن إشكال
الضمان في الغصب بمنع عدم ضمان الغاصب، بل هو ضامن مطلقاً،
أو بعد إجارة النقدين ومقابلتهما بالمال نظير منافع المستأجر أجيراً خاصاً فإنّها تضمن بعد الإجارة، أمّا مع عدم مقابلتهما بالمال فلعلّ وجه عدم الضمان فيه هو عدم تحقّق المنفعة التي تعدّ مالًا عرفاً.
بل قيل بضمان الغاصب حتى مع عدم مقابلتهما بالمال إذا استعملها للتزيّن.
هذا مضافاً إلى أنّه قد يقال بعدم الملازمة بين عدم الضمان وعدم صحة الإجارة؛ نظراً إلى أنّ المناط في الضمان هو المالية، أمّا الإجارة فهي غير متقوّمة بمالية المنفعة؛ لعدم انحصار مصحح بذل الاجرة في قيام مال مقام مال كما يدعى ذلك في البيع، بل ربّما يكون المصحح للبذل تحصيل غرض عقلاني بالانتفاع بحيث لا يحصل إلّا ببذل
العوض .
إذا ثبت الجواز في إجارة الدراهم والدنانير للتزيين وغيره فهل يشترط فيه تعيين جهة الانتفاع بها أم لا؟ قولان:
اشتراط التعيين كما ذهب إليه بعض الفقهاء كالشيخ وغيره،
قال: «إذا ثبت ذلك فيحتاج أن يعيّن جهة الانتفاع بها، فإن عيّن صح، وإن أطلق لم تصح الإجارة، ويكون
قرضاً لا إجارة».
واستدلّ له بأنّ العادة في دراهم الغير ودنانيره عدم الانتفاع بها إلّا على وجه القرض؛ لكون المنفعة المقصودة منها الانتفاع بأعيانها، فإذا أطلق له الانتفاع رجع الإطلاق إلى ما يقتضيه العرف، وحينئذٍ فالإجارة قاضية لجواز إتلافها فتصير قرضاً بالإتلاف.
أنّه لا يشترط فيه التعيين؛ نظراً إلى عدم جواز التصرف في ذهاب العين المستأجرة بل في منافعها، فيحمل الإطلاق على المعهود في الشرع والعرف من النظر والتحلّي، ولا يكون قرضاً، كما ذهب إليه جماعة منهم العلّامة
والمحقق الثاني.
وقال الشهيد الثاني: «حيث جاز استئجارها لا يشترط تعيين جهة الانتفاع كغيرها من الأعيان؛ لأنّ المعتبر صلاحية العين للمنفعة المقصودة لا ذكرها في
العقد ».
الموسوعة الفقهية، ج۴، ص۳۵۲-۳۶۷.