إقرار المدعى عليه
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
يلزم
الإقرار إذا كان جائز الأمر، رجلا كان او امرأة؛ فان التمس المدعي الحكم به حكم له؛ ولا يكتب على المقر
حجة إلا بعد المعرفة باسمه ونسبه او يشهد بذلك عدلان إلا أن يقنع المدعي بالحلية؛ ولو امتنع المقر من التسليم أمر الحاكم خصمه بالملازمة، ولو التمس حبسه حبس؛ ولو ادعى الإعسار كلف
البينة، ومع ثبوته ينظر؛ وفي تسليمه إلى الغرماء
رواية، وأشهر منها: تخليته؛ ولو ارتاب بالمقر توقف في الحكم حتى يستبين حاله.
أمّا
الإقرار فيلزم الحق، ويثبت به في ذمّة المقرّ إذا كان جائز الأمر والتصرف، باستجماعه شرائط الإقرار المقرّرة في بابه المتقدم مطلقاً رجلاً كان المقرّ أو امرأة أو غيرهما، بخلاف ما إذا أقام المدّعى بيّنةً، فإنّه لم يثبت بمجرد إقامتها؛ لأنّها منوطة باجتهاد الحاكم في قبولها وردّها.
ومظهر ثمرة الفرق بين المقامين بذلك جواز مقاصّة المدّعى حقّه إذا كان عيناً وادّعاها مع عدم علمه بها بالإقرار دون
البيّنة إذا لم يحكم الحاكم.
فإن التمس المدّعى الحكم له به أي: بالحق الثابت بالإقرار حكم الحاكم له به وجوباً. وفي جوازه بدون مسألته قولان: من أنّه حق له فيتوقف على سؤاله. ومن
شهادة الحال بطلبه. ويأتي الوجهان في مطالبة الحاكم المدّعى عليه بالجواب قبل التِماس المدّعى.
والأشهر العدم في المقامين على الظاهر المصرح به في
المسالك، بل قال في
المبسوط في المقام الثاني: إنّه الصحيح عندنا
، مؤذناً بدعوى
الإجماع عليه، مع أنّه قوّى الجواز أخيراً، وحكاه في
المختلف عن
الشيخين والديلمي والحلّي أيضاً، واختاره، قال: لأنّ الحاكم منصوب لذلك، وربما خفي على المدّعى أنّ ذلك حق له، وهاب الحاكم فضاع حقه
.
وفي هذا الدليل نظر؛ لأخصّيته من المدّعى؛ لاختصاصه بصورة جهل المدّعى، فربما كان المانع يسلّم الجواز هنا، كما اتفق له في
التحرير، حيث قال بعد الحكم بأنّه ليس للحاكم أن يحكم عليه إلاّ بمسألة المدّعى: لأنّه حقّه فيتوقف استيفاؤه على مطالبته، ويحتمل أن يحكم عليه من غير مسألته. أمّا لو كان المدّعى جاهلاً بمطالبة الحاكم فإنّ الحاكم يحكم عليه أو ينبّهه على ذلك؛ لئلاّ يضيع حقّه بجهله فيترك المطالبة
.
ومنه يظهر وجه آخر للنظر فيما ذكره في المختلف، وهو أنّ جهل المدّعى بذلك لا يوجب جواز الحكم له بالإقرار من غير مسألته؛ لاندفاع الضرر المترتّب عليه بتنبيهه على ما جهله. فكيف كان فمستند القولين غير واضح، كمستند القول بالتفصيل بالجواز في المقام الأوّل، وعدمه في المقام الثاني، كما هو ظاهر
الماتن في
الشرائع، كما اعترف به
شيخنا في شرحه
، أو بالعكس فالمنع في الأوّل، والجواز في الثاني، كما هو ظاهر
الفاضل في التحرير، حيث قال قبل ما قدّمنا نقله عنه: إذا حرّر المدّعى دعواه فللحاكم أن يسأل خصمه عن الجواب، ويحتمل توقّف ذلك على التماس المدّعى؛ لأنّه حقّه فيتوقف على المطالبة، والأقرب الأوّل؛ لأنّ شاهد الحال يدل عليه، فإنّ إحضاره والدعوى إنّما يراد بهما ليسأل الحاكم الغريم
.
وهذا مع ما قدمناه عنه ظاهر في اختياره التفصيل المتقدم كما ذكرناه.
وفيما ذكره هو وغيره من
الأصحاب من تعليل الجواز بقرينة شاهد الحال دلالة على الاتفاق على اعتبار إذن المدّعى في مطالبة الجواب، والحكم له بمقتضاه، وعدم جوازهما من دونه، وأنّ خلافهم إنّما هو في اعتبار
الإذن الصريح أو الاكتفاء بشاهد الحال.
وحيث قد تمهد هذا فالأوفق بالأصل حينئذٍ هو الأوّل اقتصاراً على المتيقن، مع اعتضاده بظاهر إجماع المبسوط المتقدم، ومع ذلك فهو
أحوط.
وعلى تقدير التردد بين القولين وعدم وجود
أصل يرجع إليه في البين كما هو ظاهر جمع
يكون ما ذكرناه أيضاً متعيّناً؛ لغلبة
الظن به من حيث كونه مشهوراً.
وصورة الحكم هنا وفي غيره من الأبواب على ما ذكره الأصحاب: ألزمتك، أو: قضيت عليك، أو: ادفع إليه ماله، ونحو ذلك ممّا يكون صريحاً فيه، دون قوله: ثبت عندي حق خصمك، أو ما شابه ذلك.
واعلم أنّ فائدة الحكم هنا بعد اتفاقهم على ثبوت الحق بالإقرار كما مضى غير واضحة، عدا ما ذكره شيخنا في المسالك من أنّ فائدته إنفاذ حاكم آخر إيّاه ونحو ذلك
.
وحيث يتحقق الحكم فإن رضي المحكوم له بالاقتصار على تلفظ الحاكم به فذاك.
وإن التمس أن يكتب له به حجة بحقّه يكون في يده فلا يكتب له على المقر حجة إلاّ بعد المعرفة منه باسمه أي المقر ونسبه أو يشهد بذلك أي بكلّ من الاسم
والنسب عدلان مرضيان عنده خوفاً من
التزوير بتواطؤ المتداعيين لإثبات إقرار على ثالث فيكتب عليه حجة بخط الحاكم وختمه؛ ليحكم الحاكم عليه بحكمه السابق المتذكر له بخطه وختمه حيثما يجاء به، والحال أنّه غير المقر عنده أوّلاً، فيقع الخطأ بالتزوير في حكمه وهو لا يعلم به، فلا يجوز له ذلك.
إلاّ أن يقنع المدّعى بالحِلية وهي بكسر الحاء المهملة ثم الياء المنقطة نقطتين من تحت بعد اللام: الصفة، فيكتب صفة المقر من طوله وقصره وبياضه وسواده، ونحو ذلك من الأوصاف التي يؤمن معها التزوير.
ولا خلاف في شيء من ذلك إلاّ من الشيخين
والحلبي والديلمي والقاضي في الاكتفاء بالحلية فلم يذكروه، لكن
الشيخ في
الخلاف بعد نقل ذلك عنهم ونسبة خلافه والاكتفاء بها إلى من خالفهم من
الفقهاء قال: والذي قاله بعض أصحابنا يحمل على أنّه لا يجوز أن يكتب ويقتصر على ذكر نسبهما، فإنّ ذلك يمكن استعارته
. وعلى ما ذكره يرتفع الخلاف كما هو ظاهر الأصحاب، حيث لم ينقلوه، وقد صرح به
الفاضل في
المختلف فقال: والتحقيق أنّه لا مشاحّة هنا؛ لأنّ
القصد تخصيص الغريم وتمييزه عن غيره وإزالة الاشتباه، فإن حصل ذلك بالحلية جاز.
واعلم أنّ فائدة كتاب الحاكم هنا مع الاتفاق على عدم جواز الرجوع إليه له ولغيره من الحكّام إلاّ بعد العلم بالواقعة والقطع بها، جعله مذكّراً ومنبّهاً عليها، فإذا وقف
الإنسان على خطه فإن تذكرها أقام الشهادة عليها، وإلاّ فلا.
وحيث ثبت الحق بالإقرار أو غيره كلّف أداؤه وإن امتنع المقر ومن في حكمه ممن ثبت عليه الحق من التسليم مع قدرته عليه أمر الحاكم خصمه بالملازمة له حتى يؤدّي.
ولو التمس من الحاكم حبسه حبس بلا خلاف؛ للخبر: «ليّ
الواجد يحل عقوبته وعرضه»
وفسّر العقوبة بالحبس، والعرض بالإغلاظ له في القول، كقوله: يا ظالم، ونحوه.
وفي
الموثق: «كان أمير
المؤمنين (علیهالسّلام) يحبس الرجل إذا التوى على غرمائه، ثم يأمر فيقسّم ماله بينهم بالحصص، فإن أبى باعه فيقسّمه بينهم» يعني: ماله
.
وفي معناه أخبار أُخر مروية في
التهذيب في أواسط باب الزيادات من هذا الكتاب، ويستفاد منها جواز بيع ماله عليه للحاكم إذا أبى عنه بعد الحبس
، وبه أفتى الأصحاب أيضاً.
وإن ادّعى الإعسار وهو عندنا كما في
كنز العرفان عجزه عن أداء الحق؛ لعدم ملكه لما زاد عن داره وثيابه اللائقة بحاله ودابّته وخادمه كذلك، وقوت يوم وليلة له ولعياله الواجبي
النفقة، فإن كان له أصل مال قبل ذلك، أو كان أصل الدعوى مالاً، كلّف البينة على تلفه، فإن لم يقمها حبس إلى أن يتبين الإعسار، على المشهور؛ للنصوص ففي الموثق وغيره: «أنّ
عليّاً (علیهالسّلام) كان يحبس في
الدين فإذا تبيّن له إفلاس وحاجة خلّى سبيله حتّى يستفيد مالاً»
.
وأمّا الصحيح: «كان (علیهالسّلام) لا يحبس في السجن إلاّ ثلاثة: الغاصب، ومن أكل
مال اليتيم ظلماً، ومن ائتمن على
أمانة فذهب بها، وإن وجد له شيئاً باعه، غائباً كان أو شاهداً»
فقال الشيخ: إنّه لا تنافي بينه وبين الخبرين الأوّلين، لأنّ الوجه فيه أحد شيئين:
أحدهما: أنّه ما كان يحبس على جهة
العقوبة، إلاّ الذين ذكرهم.
والثاني: أنّه ما كان يحبسهم حبساً طويلاً، إلاّ الثلاثة الذين استثناهم؛ لأنّ الدين إنّما يحبس فيه بقدر ما يتبين حاله، فإن كان مُعدِماً وعلم ذلك من حاله خلي سبيله، وإن لم يكن مُعدِماً الزم الخروج مما عليه، أو يباع عليه ما يقضى به دينه
. انتهى.
وفي الوجهين بُعد، ولا سيّما الثاني، إلاّ أنّه لا بأس بهما؛ لرجحان الأخبار الأوّلة على الصحيحة من وجوه عديدة، أظهرها كونها مفتى بها دون هذه؛ لمخالفة الحصر فيها للإجماع جدّاً.
وإن لم يعرف له أصل مال، ولا كانت الدعوى مالاً، بل كانت جناية، أو
صداقاً، أو نفقة زوجة، أو قريب، أو نحو ذلك، قُبِل قوله بيمينه؛ لموافقة دعواه الأصل، فيكون كالمنكر، بخلاف ما إذا كان أصل الدعوى مالاً، فإنّ أصالة بقائه يمنع قبول قوله.
ومع ثبوته أي ثبوت إعساره بالبيّنة، أو
اليمين، أو تصديق المدّعى ينظر ويمهل حتى يمكن له الوفاء ويتيسر، على الأظهر الأشهر، كما صرح به الماتن هنا وفي الشرائع وجمع ممّن تأخّر
؛
للأصل؛ وقوله سبحانه «وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ»
.
وللأخبار المتقدّمة أخيراً، حتى الصحيح منها، نظراً إلى مفهوم الحصر فيه الدال بعمومه على عدم الحبس هنا. فما في المسالك
من عدم وضوح دلالته كما ترى.
والعجب منه ومن
الفاضل المقداد في
شرح الكتاب حيث لم يقفا على ما عدا الصحيحة من الموثق وغيره المتقدمين قبلها مع كونهما مرويين في
التهذيب والاستبصار في هذا الكتاب، فروى ما عدا الموثق في الأوّل في أواخر باب كيفية الحكم والقضاء
، وروى
الموثق والصحيحة في أواسط باب الزيادات منه
.
وروى فيه بعد الصحيحة بلا فاصلة رواية ظاهرة الدلالة على المختار كالسابقة هي للسكوني كالصحيحة برواية
عبد الله بن المغيرة عنه، وقد حكي على تصحيح ما يصح عنه إجماع العصابة
وفيها: «إنّ امرأة استعدت على زوجها أنّه لا ينفق عليها، وكان زوجها معسراً، فأبى (علیهالسّلام) أن يحبسه، وقال: إنّ مع العسر يسراً»
.
ولكن في تسليمه إلى الغرماء ليؤاجروه أو يستعملوه رواية
عمل بها في
النهاية وقد عرفت أنّ الأشهر منها ما دل على تخليته وإنظاره إلى يساره، وهو مع ذلك أكثر عدداً، وأوضح سنداً، وأوفق بالأصل
والآية الكريمة كما مضى، فلا تكافؤ بينهما أصلاً، سيّما مع كون هذه شاذّة لا عامل بها، حتى الشيخ؛ لرجوعه في الخلاف
عما ذكره في النهاية إلى ما عليه أصحابنا.
ولابن حمزة قول ثالث في المسألة، ففصّل بين ما إذا كان المعسر ذا حرفة يكتسب بها فالثاني، وغيره فالأوّل، مستدلاً عليه بالرواية الأخيرة
. والمناقشة فيه واضحة؛ لعدم دلالة فيها على التفصيل المزبور، بل ولا إشارة.
ولا يمكن الاستدلال له بالجمع بين الأدلّة والروايات المختلفة؛ لعدم التكافؤ أوّلاً، وعدم وضوح الشاهد عليه ثانياً.
فهذا القول ضعيف كسابقه، بل وأضعف جدّاً، وإن نفى عنه البعد في
المختلف.
كضعف ما اعتذر به من أنّه يتمكن من أداء ما وجب عليه، وإيفاء صاحب الدين حقه، فيجب عليه كما يجب عليه السعي في المئونة، ومع تمكنه من الكسب لا يكون معسراً؛ لأنّ اليسار كما يتحقق بالقدرة على المال، يتحقق بالقدرة على تحصيله، ولهذا منع القادر على التكسب من أخذ
الزكاة، إلحاقاً له بالغني القادر على المال.
وذلك فإنّ غاية ما ذكره وجوب تكسبه كيف شاء، لا تسلّط الغريم على منافعه
بالاستيفاء والإجارة، كما ذكره ابن حمزة.
نعم لو توانى عن هذا الواجب بحيث يترتب به ضرر على الغرماء أمكن أن يجبره الحاكم على التكسب، دفعاً للضرر، والتفاتاً إلى أنّه نوع أمر له بالمعروف.
ولو رأى أنّه لا ينجع فيه جبره وإقامته على الفعل الواجب إلاّ بالدفع إلى الغرماء أمكن الجواز؛ لما مرّ، ويمكن أن يحمل عليه الخبر الذي مرّ.
واعلم أنّه لو ارتاب الحاكم بالمقر وشك في بلوغه أو عقله أو اختياره، أو نحو ذلك ممّا هو شرط في صحة
إقراره توقف في الحكم بإقراره حتى يستبين حاله من
بلوغ ورشد ونحو ذلك، بلا إشكال، ووجهه واضح.
رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدّلائل، الطباطبائي، السيد علي، ج۱۵، ص۶۱-۷۰.