إنكار المدعى عليه
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
وأما الإنكار فعنده يقال للمدعي: ألك بينة؟ فان قال: نعم، امر باحضارها فاذا حضرت سمعها؛ ولو قال: البينة غائبة، اجل بمقدار احضارها؛ وفي تكفيل المدعى عليه تردد، ويخرج من
الكفالة عند انقضاء الأجل؛ وإن قال: لا بينة، عرفه الحاكم أن له
اليمين؛ ولا يجوز إحلافه حتى يلتمس المدعي؛ فان تبرع او احلفه الحاكم لم يعتد بها، واعيدت مع التماس المدعي؛ ثم المنكر: إما أن يحلف او يرد او ينكل، فان حلف سقطت
الدعوى، ولو ظفر له المدعي بمال لم يجز له
المقاصة؛ ولو عاود الخصومة لم تسمع دعواه؛ ولو أقام بينة لم تسمع، وقيل: يعمل بها ما لم يشترط الحالف سقوط الحق بها؛ ولو أكذب نفسه جاز مطالبته وحل مقاصته؛ فان رد اليمين على المدعي صح؛ فان حلف استحق؛ وان امتنع سقطت دعواه؛ ولو نكل المنكر عن اليمين وأصر، قضي عليه بالنكول، وهو المروي؛ وقيل: يرد اليمين على المدعي، فان حلف ثبت حقه، وان نكل بطل؛ ولو بذل المنكر اليمين بعد الحكم بالنكول لم يلتفت اليه؛ ولا يستحلف المدعي مع بينة إلا في
الدين على
الميت يستحلف على بقائه في ذمته استظهارا؛ وأما السكوت: فان كان لآفة توصل إلى معرفة إقراره او انكاره؛ ولو افتقر إلى مترجم لم يقتصر على الواحد؛ ولو كان عنادا حبسه حتى يجيب.
وأمّا الإنكار فاعلم أنّ عنده أي عند الإنكار يجب أن يقال للمدعي: ألك بيّنة؟ إن جهل مطالبتها منه، وإن كان عالماً بها جاز للحاكم السكوت عن ذلك، كما جاز له السؤال عنها فإن قال المدّعى: نعم لي البيّنة جاز للحاكم أمره بإحضارها مطلقاً، كما عليه أكثر أصحابنا، على ما صرح به في
المسالك وغيره
، ومنهم
الشيخان والديلمي والحلبي والقاضي في أحد قوليه، وأكثر المتأخرين
.
خلافاً
للمبسوط والمهذب والسرائر، فلم يجوّزوه مطلقاً؛ لأنّه حق له فله أن يفعل فيه ما يرى.
وللفاضل في
المختلف والقواعد والشهيد في
الدروس، فالتفصيل بين علم الحاكم بمعرفة المدعي بكون المقام مقام بينة فالثاني؛ لما مرّ، وجهله بذلك فالأوّل؛ لئلاّ يضيع حقه.
وحجج هذه الأقوال غير واضحة، عدا ما استدل للأكثر من أنّ الأمر هنا ليس للوجوب والإلزام، بل لمجرد
إذن وإعلام.
والتحقيق أن يقال: إن قصد المانع عن الأمر بالإحضار في الجملة أو مطلقاً المنع عنه
حرمة مطلقاً ولو كان المقصود به الإرشاد ونحوه دون الوجوب، فالحق مع المجوّز؛ للأصل، مع عدم دليل عليها كذلك، والدليل المتقدم له لا يفيدها، بل مفاده المنع عن الأمر إذا قصد به
الوجوب، لا مطلقاً.
وإن قصد المنع عنه كذلك مع قصد الوجوب منه خاصّة لا مطلقاً كما أفاده دليله، فالمنع متوجّه حينئذٍ، إلاّ أنّ الظاهر من المجوّز ودليله كما عرفته اختصاص الجواز بما إذا قصد بالأمر الإرشاد
والإعلام، وحينئذٍ فيعود النزاع لفظياً في المقام.
وكيف كان فإذا أحضر المدّعى البيّنة عند الحاكم وعرف عدالتها سمعها وحكم بشهادتها بعد التماس المدّعى سماعها والحكم بها. ثم لا يقول لهما: اشهدا؛ لأنّه أمر وهو لا يأمرهما، بل يقول: من كان عنده كلام أو شهادة فليذكر ما عنده إن شاء، فإن أجابا بما لا يثبت به حقّ طرح قولهما. وإن قطعا بالحق المدّعى وطابق الدعوى، وعرف
العدالة، حكم كما ذكرنا. وإن عرف فسقهما ترك شهادتهما، ولا يطلب
التزكية؛ لأنّ الجارح مقدّم.
وإن جهل حالها طلب من المدّعى تزكيتها، فإن زكّاها بشاهدين أو شاهد أيضاً على قول على كل من الشاهدين يعرفان العدالة ومزيلها أثبتها، ثمّ سأل الخصم من الجرح، فإن اعترف بعدمه حكم كما مرّ. وإن ادّعاه واستنظر لإثباته أمهله ثلاثة أيّام، فإن أحضر الجارح نظر في أمره على حسب ما يراه من تفصيل وإجمال وغيرهما، فإن قبله قدّمه على التزكية على التفصيل المتقدّم إليه الإشارة.
ولا خلاف هنا في شيء من ذلك أجده حتى في توقف سؤال البيّنة والحكم بشهادتها على سؤال المدّعى، لكن في
الكفاية وغيرها
ذكر فيه الوجهان المتقدم ذكرهما في نظير المسألة.
ثم إنّ إطلاق
الأصحاب الإمهال ثلاثة أيام مع الاستنظار يقتضي عدم الفرق بين قول المستنظر: إنّ شهودي على الجرح على مسافة لا يصلون إلاّ بعد الثلاثة أيّام وغير ذلك.
قيل: وينبغي لو عيّن مكاناً بعيداً أن يمهل بقدره إذا لم يؤدّ إلى البعد المفرط الموجب للتضرر بتأخير الحق.
ولا بأس به إن لم يثبت الإجماع على خلافه، وفي وصية
علي (علیهالسّلام) لشريح في الخبر المشهور: «واجعل لمن ادّعى شهوداً غيّباً أمداً بينهما، فإن أحضرهم أخذت له بحقه، وإن لم يحضرهم أوجبت عليه القضية»
فتأمّل.
ويستفاد منه أنّه لو لم يحضرها المدّعى بل قال: البيّنة غائبة أُجلّ وضرب له وقت بمقدار إحضارها بلا خلاف فيه، وفي أنّه إن شاء الحاكم خيّره بين الصبر إلى الإحضار وبين إحلافه المنكر، بل ذكر جماعة
من دون خلاف بينهم ثبوت الخيار للمدّعي بين إحلافه وبين إقامة البيّنة ولو كانت حاضرة؛ لأنّ الحق له فله أن يفعل ما شاء منهما.
وفي جواز تكفيل المدّعى عليه وأخذ الكفيل منه ليحضره متى حضرت البيّنة هنا أي عند غيبة البيّنة وعدم ثبوت الحق بها بعد تردّد واختلاف بين الأصحاب:
فبين مجوّز كالشيخين في
المقنعة والنهاية والقاضي في أحد قوليه وابني حمزة وزهرة
، نافياً للخلاف فيه ظاهراً؛ حفظاً لحق المدّعى حذراً من ذهاب الغريم.
ومانع
كالإسكافي والشيخ في المبسوط والخلاف
والحلّي والقاضي في قوله الثاني، وعليه أكثر المتأخّرين
، بل عامتهم كما في ظاهر المسالك
؛ للأصل؛ وكون مثل ذلك عقوبة قبل ثبوت الاستحقاق، مع أنّ الكفيل يلزمه الحق إن لم يحضر المكفول، وهنا لا معنى له قبل إثباته، ولا معنى أيضاً لكون ذلك الحق هنا هو حضور الدعوى وسماع البيّنة، مع أنّه بعد إحضارها إن كان حاضراً، وإلاّ يحكم عليه وهو غائب، ويطلب بالحق كسائر الغيّاب.
ولا ريب أنّ الأوّل مع رضا المدّعى عليه
أحوط، سيّما مع ما يظهر من الغنية
من عدم الخلاف فيه.
مع إمكان المناقشة في أدلّة المنع بمعارضة
الأصل بما دلّ على لزوم مراعاة حق المسلم عن الذهاب في
نفس الأمر، فيجب التكفيل ولو من باب المقدّمة.
وبه يظهر الجواب عن الثاني، فإنّ
التكفيل وإن كان ضرراً إلاّ أنّ ذهاب الحق أيضاً ضرر آخر، وعلى الحاكم مراعاة الأقلّ منهما ضرراً، وقد يكون التكفيل أقلّ ضرراً.
وأمّا أنّه لا فائدة في التكفيل قبل إثبات الحق، فمسلّم إن تحقق عدم إمكان إثبات الحق أصلاً في نفس الأمر، ولكنّه غير متحقق بعد احتمال حضور البيّنة وثبوت الحق بها، فيلزم الكفيل إحضاره أو الالتزام بالحق إن ثبت وهرب المدعى عليه ولم يكن له مال يقتصّ منه.
ومنه يظهر الجواب عن الأخير، فإنّ الحكم عليه وهو غائب غير كاف في التخلّص عن احتمال ذهاب الحق بعد فرض عدم مال له يقتصّ منه واحتمال عدم الوصول إليه ليداعيه، وقياس المقام على إثبات الحق على الغيّب
قياس مع الفارق؛ لإمكان التكفيل هنا، وعدمه ثمّة حين غياب الغائب.
فإذاً القول الأوّل لا يخلو عن رجحان إن خيف هرب المنكر وعدم التمكن من استيفاء الحق بعد ثبوته من ماله، ولو لم يخف عن ذلك أمكن ترجيح الثاني.
وبهذا التفصيل صرّح
الفاضل المقداد في شرح الكتاب، فقال ولنعم ما قال: ويقوى أنّ التكفيل موكول إلى نظر الحاكم، فإنّ الحكم يختلف باختلاف الغرماء، فإنّ الغريم قد يكون غير مأمون فالمصلحة حينئذٍ تكفيله، وإلاّ لزم تضييع حق
المسلم، وقد لا يكون كذلك بل يكون ذا ثروة وحشمة ومكنة فلا حاجة إلى تكفيله؛ لعدم ثبوت الحق والأمن من ضياعه، وربما كان المدّعى محتالا يكون طلبه للتكفيل وسيلة إلى أخذ ما لا يستحقه
.
وعلى القول بالتكفيل فهل يتعيّن في ضرب مدّته ثلاثة أيّام، كما عن
ابن حمزة، أو يناط بنظر الحاكم كما هو ظاهر الأكثر؟ قولان.
وعليهما يخرج الكفيل من حق
الكفالة عند انقضاء الأجل المضروب كائناً ما كان، ولا خلاف فيه على الظاهر، ووجهه مع ذلك واضح.
وإن قال المدّعى: أنّه لا بيّنة لي عرّفه الحاكم أنّ له
اليمين على خصمه المنكر لحقه، كما أنّ عليه البيّنة عليه، إجماعاً؛ للنصوص المستفيضة، بل المتواترة، منها الخبر المستفيض النقل بين
العامّة والخاصّة: «البيّنة على المدّعى، واليمين على من أنكر»
ولأنه مستند إلى البراءة الأصلية فهو أولى باليمين من المثبت إلاّ فيما استثني.
ولا يجوز هنا إحلافه حتى يلتمس المدّعى قولاً واحداً؛ لأنّه حق له وإن كان إيقاعه إلى الحاكم، وليس هنا
شهادة حال؛ إذ ربما تعلق غرضه بعدم سقوط الدعوى بل بقاؤها إلى وقت آخر، إمّا ليتذكر البيّنة، أو ليتحرّى وقتاً صالحاً.
فإن تبرّع المنكر بالحلف أو أحلفه الحاكم من دون سؤاله لغا ولم يعتدّ بها، وأُعيدت مع التماس المدّعى وبعدم الخلاف هنا صرح جماعة من أصحابنا
.
وذكر
الشهيدان وغيرهما
من غير خلاف بينهم أجده، بل ظاهر
المقدس الأردبيلي نسبته إلى الأصحاب كافة
أنّه لا يستقل الغريم باليمين من دون إذن الحاكم، لأنّ إيقاعه موقوف على إذنه وإن كان حقاً لغيره؛ لأنّه وظيفته، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يدل عليه.
ثم المنكر إمّا أن يحلف أو يردّه على المدّعى أو ينكل ويأبى عن الأمرين فإن حلف سقطت الدعوى وإن لم يبرأ ذمّته من الحق في نفس الأمر لو كان كاذباً، بل يجب عليه فيما بينه وبين الله تعالى التخلّص من حق المدّعى، بلا خلاف، كما يستفاد من المعتبرة منها الصحيح وغيره: «قال
رسول الله (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم): إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان، وبعضكم ألحن بحجته من بعض، فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً، فإنّما قطعت له قطعة من
النار»
.
ونحوهما ثالث مروي عن
تفسير مولانا العسكري (علیهالسّلام) بأدنى تفاوت، وزيد فيه: «فلا يأخذنّه»
.
ويستفاد منها ثبوت مثل ذلك في جانب المدّعى لو شهدت له البيّنة الكاذبة، وبخصوصه وردت أخبار كثيرة، منها رواية المناهي المشهورة المروية في
الفقيه، وفيها: «أنّه نهى عن أكل مال بشهادة الزور»
.
ولو ظفر له المدّعى بمال لم يجز له المقاصّة بعد إحلاف الحاكم إيّاه بسؤاله، وإن كان له ذلك قبل الإحلاف كما يأتي، ولا مطالبته به، ولا معاودة المحاكمة فلو عاود الخصومة لم تسمع دعواه كلّ ذلك للنصوص المستفيضة:
منها
الصحيح: «إذا رضي صاحب الحق بيمين المنكر بحقه فاستحلفه فحلف أن لا حق له قِبَله، ذهبت اليمين بحقّ المدّعى، ولا دعوى له» قلت: وإن كانت له بيّنة عادلة؟ قال: «نعم، فإن أقام بعد ما استحلفه بالله تعالى خمسين قسامة ما كان له حق، فإنّ اليمين قد أبطلت كل ما ادّعاه قبله ممّا قد استحلفه عليه، قال رسول الله (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم): من حلف لكم بالله فصدّقوه، ومن سألكم بالله تعالى فأعطوه، ذهبت اليمين بحقّ المدّعى، ولا دعوى له»
.
والصحيح: عن رجل وقع لي عنده مال وكابرني عليه وحلف، ثمّ وقع له عندي مال، فآخذه لمكان مالي الذي أخذه وجحده وأحلف عليه كما صنع؟ فقال: «إن خانك فلا تخنه، ولا تدخل فيما عبته عليه»
.
ومنها: في الرجل يكون له على الرجل مال فيجحده، قال: «إن استحلفه فليس له أن يأخذ منه بعد اليمين شيئاً، وإن احتسبه عند الله تعالى فليس له أن يأخذ شيئاً، وإن تركه ولم يستحلفه فهو على حقه»
.
ومنها: كان بيني وبين رجل من
اليهود معاملة، فخانني بألف درهم، فقدمته إلى الوالي فأحلفته فحلف، وقد علمت أنّه حلف يميناً فاجرة، فوقع له عندي بعد ذلك أرباح ودراهم كثيرة، فأردت أن أقبض الألف درهم التي كانت لي عنده، فأحلف عليها، فكتبت إلى
أبي الحسن (علیهالسّلام) فأخبرته أنّه قد أحلفته فحلف إلى أن قال فكتب: «لا تأخذ منه شيئاً، إن كان ظلمك لا تظلمه، ولو لا أنّك رضيت بيمينه فحلفته لأمرتك أن تأخذه من تحت يدك، ولكنك رضيت بيمينه، فقد مضت اليمين بما فيها»
الخبر.
إلى غير ذلك من الأخبار
المنجبر قصور أسانيد أكثرها بالشهرة العظيمة التي كادت تكون إجماعاً، كما ستعرفه.
وأمّا
الحسن الدال على جواز المقاصّة من المنكر بعد حلفه
، فمع ضعفه عن المكافأة لما مرّ سنداً وعدداً واعتباراً شاذّ، وقد حمله الأصحاب ومنهم
الصدوق والشيخ
(رحمهماالله) على أنّه حلف من غير استحلاف صاحب الحق.
وهذا كله إجماعي بحسب الظاهر إذا لم يقم بعد إحلافه بيّنة بالحق.
وأمّا لو أقام بعده بيّنة فكذلك لم تسمع على الأظهر الأشهر، بل عليه عامّة من تأخّر، ونسبه الإسكافي إلى
الصادقين (علیهماالسّلام)، وفي الغنية وعن
الخلاف الإجماع عليه
، وهو
الحجة.
مضافاً إلى النصوص المتقدمة، فإنّها ما بين صريحة في ذلك كالصحيحة الاولى، وظاهرة فيه
بالإطلاق أو العموم كالأخبار الباقية.
مع أنّ اليمين حجة للمدّعى عليه كما أنّ البيّنة حجة للمدّعي، فكما لا تسمع يمين المدّعى عليه بعد حجة المدّعى كذلك لا تسمع حجة المدّعى بعد حجة المدّعى عليه.
وقيل كما عن
المفيد وابن حمزة والقاضي
: إنّه يعمل بها ما لم يشترط الحالف سقوط الحق بها إلحاقاً لها بالإقرار، فكما يجب الحق به بعد الحلف إجماعاً كما يأتي، يجب بها أيضاً.
وهو بعد تسليم صحته
اجتهاد في مقابلة
النص الصحيح غير مسموع، ويكون هو الفارق لو سلّم عدم فارق آخر غيره.
وعن التقي والحلّي وأحد قولي المبسوط
التفصيل بين صورتي الإحلاف مع العلم بالبيّنة والرضا به عنها فالأوّل، والإحلاف مع نسيانها أو الذهول عنها فالثاني، ومال إليه في المختلف بعد اختياره القول الأوّل، قال: لأنّه طلب الإحلاف لظنّ عجزه عن استخلاص حقه بالبيّنة
.
وهو كما ترى يرد عليه ما ورد على سابقه من المناقشة بكونه اجتهاداً صرفاً في مقابلة الرواية الصحيحة الصريحة المؤيَّدة بباقي الأخبار المتقدمة. مضافاً إلى
استصحاب الحالة السابقة، بناءً على سقوط الدعوى في مجلس الحلف إجماعاً من المسلمين كافّة، كما ادّعاه جماعة
كفخر الدين في
الإيضاح،
وابن فهد في
المهذب، فيستصحب في محل البحث إلى أن يتحقق صارف، وليس بمتحقق، ولو لم يكن في المسألة سواه من الأدلة لكفانا دليلاً لترجيح القول الأوّل وحجةً.
وهنا قول رابع للشيخ في موضع آخر من المبسوط بالسماع مطلقاً، لم يتعرض لنقله عدا نادر، كالشهيدين في
الدروس والمسالك
والروضة، ولم ينقلا له دليلاً.
ولا ريب في ضعفه، سيّما مع ندرته وعدم معروفيته، ولذا لم يتعرض باقي الأصحاب لنقله.
ولو أكذب الحالف نفسه أو ادّعى سهوه ونسيانه واعترف بالحق المدّعى كلاًّ أو بعضاً جاز للمدّعي مطالبته بما اعترف به، بلا خلاف ظاهر مصرح به في كثير من العبائر، وفي المهذب وكلام
الصيمري في
شرح الشرائع دعوى
الإجماع عليه، وهو الحجة.
مضافاً إلى عموم: «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز» السليم هنا عن المعارض عدا ما مرّ من النصوص الدالة على ذهاب اليمين بالدعوى.
وهو بعد تسليم شموله لمحل البحث، مع قوة احتمال عدمه بانصراف الإطلاق بحكم
التبادر وغيره إلى غيره مدفوع بأنّ التعارض بينه وبين العموم من قبيل تعارض العمومين من وجه، فيصار إلى الترجيح، وهو في جانب الأوّل بلا ريب بحسب الاعتبار، وعمل الكل به في خصوص المضمار.
وخصوص المعتبرين، في أحدهما: إنّي كنت استودعت رجلاً مالاً فجحدنيه فحلف لي، ثمّ إنّه جاء بعد ذلك بسنين بالمال الذي استودعته إيّاه، فقال: هذا مالك فخذه، فهذه أربعة آلاف درهم ربحتها في مالك فهي لك ومع مالك، واجعلني في حلّ، فأخذت المال منه وأبيت أن آخذ الربح منه، وأوقفت المال الذي كنت استودعته حتى أستطلع رأيك، فما ترى؟ قال: فقال: «خذ نصف الربح وأعطه النصف وحلّله، إنّ هذا رجل تائب والله تعالى يحبّ التوابين»
.
وثانيهما الرضوي: «وإذا أعطيت رجلاً مالاً فجحدك وحلف عليه، ثمّ أتاك بالمال بعد مدّة وبما ربح فيه، وندم على ما كان منه، فخذ منه رأس مالك ونصف الربح، وردّ عليه نصف الربح، هذا رجل تائب»
.
وبالأوّل استدل الصدوق في الفقيه على المطلوب هنا، فقال بعد نقل الصحيحة الأُولى: متى جاء الرجل الذي يحلف على الحق تائباً وحمل ما عليه مع ما ربح فيه فعلى صاحب الحق أن يأخذ منه رأس المال ونصف الربح، ويردّ عليه نصف الربح؛ لأنّ هذا رجل تائب.
وروى ذلك مسمع أبو سيار عن
أبي عبد الله (علیهالسّلام)، وسأذكر هذا
الحديث بلفظة في هذا الكتاب في باب
الوديعة. انتهى.
وعلى هذا، فلو أنكر الحق عليه ثانياً أو ماطل في أدائه حلّ للمدّعي مقاصّته مع اجتماع شرائط التقاصّ المذكورة في بابه.
وبما حرّرنا يظهر لك ضعف ما يناقش به في الحكم هنا من عدم نص فيه، ولا دليل عليه أصلاً، مع كون مقتضى الروايات المتقدمة سقوط
الدعوى باليمين مطلقاً.
وقريب منه توهم ضعف الاستدلال بالروايتين على تمام المدّعى، بناءً على أنّ موردهما إنّما هو بذل المديون المال والإتيان به خاصّة.
وذلك لانجبار أخصّية المورد بعدم القائل بالفرق بينه وبين غيره.
مع إمكان استفادة التعميم من سياقهما سؤالاً وجواباً بنوع من التدبّر التامّ، فتأمّل جدّاً.
ولو ردّ المنكر
اليمين المتوجّهة إليه على المدّعى صحّ ولزمه
الحلف، بلا خلاف فيه في الظاهر، مصرح به في جملة من العبائر
، وعليه الإجماع في الغنية وغيره
، وهو الحجة، مضافاً إلى ظواهر النصوص الآتية.
وقد استثنى الأصحاب من ذلك مواضع ثلاثة، بغير خلاف بينهم فيه أجده، بل نسبه بعض الأصحاب
إليهم مؤذناً باتّفاقهم عليه كافّة. منها: دعوى
التهمة. ومنها: دعوى وصي
اليتيم مالاً على آخر وأنكر، سواء نكل عن اليمين أو ردّها. ومنها: ما لو ادّعى
الوصي على الوارث أنّ الميت أوصى للفقراء بخمس أو زكاة أو حج، أو نحو ذلك ممّا لا مستحق له بخصوصه.
والوجه في الأوّل واضح، بناءً على أنّ اليمين على
الميت ولا يمكن من المدّعى تهمة. وأما فيما عداه فلعلّه الأصل، وعموم ما دل على لزوم اليمين على المدّعى عليه، مع اختصاص النصوص الآتية التي هي الأصل في أصل المسألة بحكم التبادر بما إذا ثبت باليمين المردودة حق لنفس المدّعى لا لغيره، وبظهور ذلك صرح المقدس الأردبيلي
، ووافق القوم على الاستثناء لذلك، وحينئذٍ يلزم على المنكر على تقدير الإنكار إمّا دفع الحق إلى المدّعى، أو اليمين له.
وهل يمين المدّعى بمنزلة البيّنة نفسها؛ لأنّ الحجة اليمين بعد ردّها، وقد وجدت منه؟ أو بمنزلة إقرار المنكر؛ لأنّ الوصول إلى الحق جاء من قِبَله بردّه أو نكوله فيكون بمنزلة إقراره؟ قولان. ويتفرع عليهما فروع كثيرة، منها: ثبوت الحق بمجرد يمينه على الثاني، واحتياجه مع ذلك إلى حكم الحاكم على الأوّل؛ لما مرّ.
واختار المقدس الأردبيلي
وصاحب الكفاية الرجوع فيها إلى الأُصول والقواعد، وأنّه يعمل عليها في كل منها من دون أن يجعل أحد القولين أصلاً كليّاً يرجع إليه في جميعها، بل لو اقتضت الأُصول في بعضها ما يوافق أحدهما وفي الآخر ما يخالفه عمل بالأصلين معاً. وهو حسن إن لم يكن في المسألة قولاً ثالثاً يكون للإجماع خارقاً.
واختارا في الفرع المتقدم عدم التوقف على حكم الحاكم، زعماً منهما كون التوقف عليه مخالفاً للأصل، وأنّ مقتضاه ثبوت الحق من دونه. وفيه نظر.
وحيث يتوجه للمنكر ردّها على المدّعى فإن حلف استحق المدّعى؛ لما مضى.
•
نكول المدعي عن الحلف، فان حلف المنكر استحق؛ وان امتنع سقطت دعواه
.
•
نكول المنكر عن اليمين، ولو نكل المنكر عن
اليمين وأصر، قضي عليه بالنكول
، وهو المروي
؛ وقيل: يرد اليمين على المدعي، فان حلف ثبت حقه، وان نكل بطل
؛ ولو بذل المنكر اليمين بعد الحكم بالنكول لم يلتفت اليه
.
•
استحلاف المدعي مع البينة، ولا يستحلف المدعي مع بينة
، إلا في
الدين على
الميت يستحلف على بقائه في ذمته استظهارا
.
رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدّلائل، الطباطبائي، السيد علي، ج۱۵، ص۷۰-۹۸.