استئجار المرضعة
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
يجوز
استئجار المرأة
للإرضاع بلا خلاف، بل عليه
الإجماع ؛
لقوله تعالى: «فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ»،
ولما أرسله غير واحد من استرضاع
النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام لأولادهم،
مضافاً إلى كونه من الإيجار على عمل مرغوب فيه عند العقلاء- كالخياطة
والكتابة - فيكون صحيحاً بمقتضى المطلقات.
ولو آجرت نفسها للإرضاع أو
الارتضاع بمعنى تمليك منفعتهما للمستأجر فيملك المستأجر ذلك من بدنها.
أو آجرت نفسها بمعنى تمليك اللبن في الضرع فقد وقع البحث والاشكال فيهما؛ لأنّ مفاد الإجارة تمليك المنفعة مع بقاء العين، ولازم استئجار المرضعة في الفرض الأخير- أي تمليك اللبن- استهلاك العين وذهابها، فيكون بيعاً لا إجارة. ومن هنا فقد ذهب بعض الفقهاء إلى أنّ الإجارة على اللبن مستثناة وعلى خلاف الأصل، والبعض الآخر بأنّ المنفعة أمر عرفي يصدق على اللبن وغيره، وقد تقدم تفصيل الوجوه في ذلك في حقيقة الإجارة، فراجع.
ثمّ إنّه قد يشكل على الفرض الأوّل أيضاً بأنّ إيجار الحرّ على غرار إجارة الأعيان مستلزم
للتسليط على رقبة الحرّ وتمليك لشأن من شئونه وصفة من صفاته. وتمليك الحرّ نفسه منافٍ لاعتبار الحرية، فما لم تكن الرقبة مملوكة وغير قابلة للتمليك- كما في العبد والحيوان وسائر الأعيان الاخرى- لا يمكن أن تكون المنفعة بهذا المعنى مملوكة أو قابلة
للتمليك بالإجارة.
واجيب عنه بأنّ الإجارة ليست تسليطاً على الرقبة أو الإنسان الحرّ، بل هي تسليط عليه بلحاظ الانتفاع الذي استؤجر من أجله- كما تقدم ذلك في حقيقة الإجارة- فلا يكون منافياً للحرية أصلًا.
وبذلك يتضح أنّ إجارة الحرّ لا تنحصر بتمليك العمل بل يعقل فيه تمليك المنفعة أيضاً لو كانت فيه حيثية قائمة بذاته وشخصه على حد قابلية الأعيان للمنافع كحيثية قابلية الدار للسكنى.
لا إشكال في لزوم معلومية العمل والاجرة في استئجار المرضعة، وكذا كلّ ما له دخل في الأغراض النوعية والسوقية، وهذا مما لا كلام فيه كبروياً.
إنّما البحث في لزوم ذلك من بعض الجهات صغروياً، وأنّه هل تجب المعلومية- حسب أنواع الإجارات المعقولة في المرضعة- من جميع الجهات المذكورة أم لا؟ فالبحث في ذلك يقع ضمن الموارد التالية:
صريح كلمات غير واحد من الفقهاء لزوم ضبط
الإرضاع وتقديره بالمدة؛ لعدم إمكان تقديره إلّا بذلك لا بالسعي والعمل لاختلافه، كما لا يمكن تقديره بعدد المرات
لجهالة قدر ما يصل إلى المرتضع من اللبن كلّ مرة مما يلزم الجهالة
والغرر .
ذهب فقهاؤنا
إلى لزوم
مشاهدة الصبي الذي استؤجرت المرأة لإرضاعه بلا خلاف؛
لاختلاف الصبيان فيه من حيث الصغر والكبر والقوّة والضعف وغير ذلك
مما يؤدي إلى اختلاف الاجرة على وجه تتحقق الجهالة مع عدم تعيينه، فلو فرض عدم معرفته بالمشاهدة وجب اختباره لمعرفة ذلك. وربّما يومئ اقتصارهم على المشاهدة إلى عدم الاكتفاء بالوصف،
بل هو صريح بعضهم أيضاً،
وصرّح المحقق الأردبيلي وغيره
بالاكتفاء بالوصف على وجه يرتفع به الغرر.
هذا ولكن ذهب
المحدث البحراني إلى عدم اعتبار تعيين الصبي؛ لأنّه تقييد لإطلاق النصوص من غير دليل، ونسبه
السيد العاملي إلى ظاهر جماعة أيضاً.
نعم ذهب
المحقق النجفي - بعد أن أشكل عليهم- إلى أنّه لو استؤجرت على وجه تستحق جميع منافعها- التي منها الرضاع- أمكن القول بذلك؛ معلّلًا بأنّ الصبي لا يكون موضوعاً للإجارة. ولا يعتبر في صحتها ذكر المحل أيضاً، وحينئذٍ فالمرجع في كيفية الانتفاع هو العرف، وتبعه عليه السيد اليزدي وغيره من الفقهاء المعاصرين.
وزاد
السيد الحكيم عليه استئجار المرضعة لكلّي الإرضاع بنحو تكون جميع منافع الرضاعة للمستأجر فقط، فلا حاجة حينئذٍ إلى تعيين الصبي، وهذا بخلاف استئجار الدابة لحمل شيء معيّن أو المرأة لإرضاع طفل معيّن كذلك؛ لأنّ الجهل بخصوصية المنفعة- التي يختلف بحسبها الغرض والاجرة- يوجب الغرر، فلا يختص عدم الحاجة إلى تعيين الصبي بصورة إجارتها بلحاظ جميع المنافع.
ظاهر جماعة من الفقهاء
اشتراط تعيينها كما يظهر من إطلاق عباراتهم في
بطلان الإجارة بموت المرضعة؛ للغرر الذي لا يمكن ارتفاعه بوصف الكلّي واقتصاراً فيما خالف ضابط الإجارة على المتيقّن.
بينما صرّح البعض الآخر-
كالمحقق الأردبيلي والسيد اليزدي
- بكفاية تعيين المرضعة إمّا شخصاً أو وصفاً.
وذهب في قبال ذلك بعضهم إلى عدم لزوم تعيين المرضعة، فقد استدلّ له المحدث البحراني
بأنّ اعتبار تعيينها تقييد للنصوص من غير دليل، وقوّاه المحقق النجفي أيضاً،
كما أنّه يستفاد من بعض عبارات الفقهاء
كالحلي العلّامة
والمحقق الكركي والشهيد الثاني ذلك، حيث أفتوا ببطلان الرضاع بموت المرضعة إذا كانت معيّنة، فإنّ مقتضى ذلك الصحة مع عدم التعيين، وحينئذٍ لا تنفسخ الإجارة بالموت كغيرها من الأعمال المستأجرة في الذمة، فتخرج اجرة المثل من تركتها فيستأجر غيرها للإرضاع
على ما سيأتي تفصيل حكم ذلك لاحقاً في البحث عن موت الصبي والمستأجر.
ثمّ إنّه لو أطلق العقد فهل ينزّل على المباشرة؟
ذهب بعض الفقهاء
إلى الانصراف إلى المباشرة؛
للتبادر ، ولذا قال العلّامة بأنّ المرضعة لو دفعت الصبي إلى خادمتها فالأقرب عدم استحقاقها للُاجرة؛
لعدم تحقق العمل المستأجر عليه. وحينئذٍ فلو عيّن المستأجر المرضعة للإرضاع فاسترضعته اخرى خادمة كانت أو غيرها لم تستحق أجراً، وإن جعل ذلك في الذمة استحقت الاجرة لحصول مسمّى الإرضاع،
فلو غذته بلبن شاة مثلًا لم تستحق الاجرة
بناءً على
التعيين أو الانصراف إلى المباشرة.
ولو اختلف المستأجر والمرضعة في تولّي الإرضاع بنفسها أو الدفع لغيرها أو عدم الإرضاع فالظاهر تقديم قولها لو ادعته؛ لأنّها أمينة، ولأنّه فعلها، ولتعسّر
الإشهاد عليه ليلًا ونهاراً.
يجب تعيين مكان الإرضاع في العقد لو اختلفت الأغراض باختلاف مكانه من حيث السهولة والصعوبة والأمان وعدمه،
إلّا إذا كان هناك ما ينصرف إليه العقد كالإتيان بالرضيع إلى مكان المرأة مثلًا، وذلك لدفع الغرر الناشئ من اختلاف الأغراض الدخيلة في المالية،
وإن تردّد المحقق
في لزوم تعيين مكان الإرضاع، ونفاه
المحدث البحراني تمسكاً بالأصل وإطلاق الروايات، وتبعهما عليه المحقق النجفي؛
نظراً لعدم كونها مما يتوقّف عليه ارتفاع الجهالة وإن كانت دخيلة في الأغراض، فللمرضعة حينئذٍ الإرضاع في أي مكان شاءت وتبرأ ذمتها بذلك.
ويلزم أيضاً تعيين كلّ ما له دخل في أغراض الأجير والمستأجر، كما يلزم معلومية الاجرة على ما تقدم سابقاً، وحينئذٍ فلو آجر بنفقتها وكسوتها مدة الرضاع لم تصح الإجارة،
إلّا إذا كان مقدارهما معلوماً ومعيّناً.
وأمّا اجرة الاستئجار فيجب بذلها من مال الطفل إن كان موسراً، وإن كان معسراً فمن مال أبيه.
وفي ذلك عدّة صور:
يجوز للمرأة المتزوّجة إجارة نفسها للإرضاع لو أذن لها زوجها
إجماعا حتى فيما يتنافى مع حقه؛ لعدم تفويت حقه بعد
إذنه أو اسقاطه بنفسه.
نعم، لو آجرت نفسها بلا إذن من زوجها فللفقهاء فيه أقوال:
ذهب
الشيخ والحلي
إلى بطلان ذلك سواء كان منافياً لحق الزوج أم لا، حيث ذكرا أنّ المرأة ما دامت معقود على منافعها بعقد
النكاح فانّه لا يجوز لها أن تعقد للغير على منافعها ثانياً؛ لأنّ له حق
الاستمتاع بها في كلّ وقت، كما لا يجوز لها الصوم بدون إذنه أيضاً.
وتبعهما
المحقق الحائري فذهب إلى البطلان حتى مع لحوق إجازة الزوج، فتكون منفعتها بالنسبة للقدر المنافي نظير من باع ثمّ ملك لا من قبيل الضدين.
واستشكل عليه بأنّه يلزم من هذا الاستدلال رعاية حق الزوج فيما لا يتنافى مع حقه كذلك.
لكن صريح المحقق والعلّامة وأكثر المتأخّرين
صحة الإجارة فيما إذا لم تكن هناك مزاحمة لحق الاستمتاع الثابت للزوج من دون حاجة إلى
استئذانه ، بل نصّ آخرون
على جوازه حتى مع منع الزوج؛ إذ ليس له منعها عمّا لا ينافي حقه من حيث المكان أو الزمان بعد كونها حرّة مالكة لأمرها ومسلّطة على منافعها التي منها الإرضاع واللبن، ومن هنا جاز لها أخذ الاجرة من زوجها على إرضاع ولده
كما سيأتي. ومن الواضح اختصاص الإطاعة الواجبة بما يعود إلى الاستمتاع
والتمكين فحسب.
وأمّا ما ذكر من حاجة الصوم إلى إذن الزوج ومنعه بدون ذلك فهو للدليل الخاص فيه.
وأمّا في فرض المنافاة والمزاحمة فالمشهور
توقّف الإجارة على إجازة الزوج؛ لتعلّق حقه بمنافعها وسبق هذا الحق وعدم سلطنة المرأة على الإرضاع شرعاً لكونها
كالفضولي ،
كما هو صريح كلام جملة من الفقهاء
كالمحقق والعلّامة في أكثر كتبه
والشهيد الثاني وغيرهم.
وأمّا على فرض عدم إجازة الزوج واستقرار المنافاة بين الإرضاع وحق الزوج فالمشهور بطلان الإجارة.
وقد يستدلّ عليه بأحد الوجوه التالية:
الأوّل: حرمة ذلك في فرض المنافاة لحق الاستمتاع وعدم إجازة الزوج، ومن شروط صحة الإجارة أن يكون العمل المستأجر عليه حلالًا ومما يجوز فعله.
ونوقش فيه: أنّه مبني على القول بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده، وهو ممنوع على ما حقق في محلّه؛ إذ الواجب هو تمكين الزوجة للزوج في الاستمتاع، والعمل المنافي معه ضد خاص له لا محالة، فلا وجه لسريان
الحرمة إليه. وأمّا على القول بالمقدمية فالحرمة غيرية لا تقتضي البطلان؛ إذ دليل شرطيته لا يقتضي أكثر من بطلان الإجارة على
المعصية ، وهي الحرام النفسي لا الغيري.
الثاني: أنّ الإرضاع في فرض المنافاة يكون غير مقدور شرعاً، وأنّ الممتنع شرعاً كالممتنع عقلًا فلا تصح الإجارة.
واجيب عنه: أنّ القدرة على التسليم- التي هي شرط في صحة المعاوضة- هي القدرة العقلية لا الشرعية، وهي محفوظة مع إحراز إمكان الوصول خارجاً ولو مع ما فيها من إثم ترك التمكين.
الثالث: أنّ المقام من مصاديق المنفعتين المتضادتين في الزمان الواحد، فلا يعقل اجتماع الملكيتين أو السلطنتين معاً، فإذا ملّك احداهما لأحدٍ بايجار سابق أو عقد نكاح أو أي عقد آخر لم يبق له مملوك آخر لكي يملّكه بالإجارة، فتبطل الإجارة من باب عدم المملوكية أو عدم
الولاية والسلطنة على التمليكين.
الرابع: أنّ عمومات الصحة
والوفاء لا يمكن أن تشتمل على الإيجار في صورة المنافاة؛ لأنّ شمولها لذلك مطلقاً مع الأمر باطاعة الزوج، وعدم منع حقه غير ممكن، وشمولها له مشروطاً بعصيان الزوج وإن أمكن بنحو الترتّب إلّا أنّه لا دليل عليه إثباتاً؛ لأنّ لسان أدلّة الصحة لسان إمضاء لما أنشأه العاقد، وهو انشأه مطلقاً، على أنّ الإنشاء لو كان معلّقاً لزم التعليق الموجب للبطلان في العقود.
هذا، وقد تقدم الجواب عن بعض هذه الوجوه وغيرها في مسألة المنافع المتضادة، فراجع.
ثمّ إنّه لا يخفى أنّ هذه الوجوه- ما عدا الثالث منها- كما تُثبت بطلان الإجارة المنافية لحق الزوج- كإجارة نفسها للعمل المضاد في تمام الوقت- كذلك تُثبت البطلان بإجارة نفسها بعض الوقت بحيث يكون حق الاستمتاع للزوج محفوظاً ولو بلحاظ الوقت الباقي، إلّا أنّ للزوج حق تعيين وقت الاستمتاع بنحو الكلّي في المعيّن، فإن عيّنه في وقت الإجارة كشف ذلك عن فسادها لا محالة؛ لأنّ معنى ثبوت الحق المذكور للزوج عدم ولاية الزوجة على تمليك الضد في مورد حق الزوج، وهو الوقت الذي سيختاره واقعاً لمكان التضاد.
نعم، لا يتم ذلك هنا بناءً على الوجه الثالث- أي عدم ملكية المنفعتين المتضادتين- لإمكان التفصيل بين الصورتين، فإنّ الزوج لا يملك إلّا الكلّي دون فرد المنفعة في ذلك الوقت، وإنّما يملك ذلك الفرد بالتطبيق الخارجي المساوق لتحقق الاستمتاع، فما لم يتحقق لا يكون الفرد مملوكاً ليمتنع تمليك ضده.
وللمحقق الاصفهاني تفصيل أيضاً حيث ذهب إلى البطلان مع استحقاق الزوج الاستمتاع في جميع الأوقات بنحو الاستغراق، ومع عدم الاستحقاق المستغرق لجميع أوقاتها بأن كان له حق الاستمتاع بنحو الكلّي في المعيّن مع الولاية على التعيين؛ فإنّ المنافاة تندفع حينئذٍ بينه وبين الاستئجار؛ لعدم الدليل على البطلان- وإن كان موافقاً
للاحتياط - ولجواز كلا الاستحقاقين إذا كان ذلك بنحو الكلّي في المعيّن.
لو آجرت المرأة نفسها في حال سفر زوجها وغيبته أو مرضه، وقلنا بصحة الإجارة ولو لعدم المنافاة، فحضر الزوج أثناء المدة أو زال مرضه وكان ذلك ينافي حقه ولم يأذن فيه، فهل تنفسخ الإجارة بمصادفتها لذلك المانع، أو تبقى على صحتها وإنّما يجب عليها تقديم الزوج فيكون للمستأجر حق الفسخ لتعذّر التسليم، أو يكون لها
الخيار في تقديم أيّهما شاءت؟
ذهب عدة من الفقهاء
إلى الحكم بالانفساخ بالنسبة إلى المدة الباقية لمنافاته مع حق الزوج، حيث لا يمكنها تمليك ما يكون متعلّقاً لحقه ومنافياً له لنفس ما تقدم في وجه بطلان المسألة السابقة، فيكشف ذلك عن فساد الإجارة في المدة المتبقية الواقع فيها الاستمتاع.
ومقتضى ذلك- أي الحكم بالانفساخ في المدة الباقية بعد حضور الزوج وعدم إجازته- صحة الإجارة بلحاظ مدة غيبته بلا حاجة إلى لحوق إجازته.
ومن هنا ذهب بعض المعلّقين على
العروة إلى البطلان مع عدم إجازته حتى في المدة الماضية بناءً على عدم ملكية المنافع المتضادة في عرض واحد، وعلى أنّ الملكية منتفية بنفس ثبوت حق الاستمتاع لفرض التضاد بينه وبين الرضاع حسب الفرض، وليس الاستمتاع الخارجي إلّا استيفاءً لذلك لا شرطاً في مملوكيته للزوج. وقد تقدم الجواب عن ذلك في المنافع المتضادة.
إلّا أنّ المحقق الاصفهاني
خالف في ذلك فذهب إلى تعلّق حق الاستمتاع بكلّي الاستمتاع في الوقت الذي يريده الزوج، فإذا غاب أو سافر فمعنى ذلك إخراج أزمنة غيبته عن المصداقية لذلك الكلّي، فتكون المنافع المتضادة بتمامها مملوكة للزوجة، وتصح إجارتها على هذا المبنى.
مضافاً إلى أنّ المعتبر في الإجارة رفع الغرر والوثوق بحصول العمل وإمكانه خارجاً ولو مع عصيان الزوجة فتصح الإجارة، فالمسألة داخلة في تزاحم الحقين، ومجرد سبق حق الزوج زماناً لا يوجب التقديم، بل لا بد من أهمية أحدهما، وإن كان تقديم حق الزوج في كلمات الفقهاء كالمسلّمات بينهم.
وحينئذٍ فعلى فرض صحة الإجارة وتقديم حق الزوج هل للمستأجر خيار تعذّر التسليم أم لا؟
صريح المحقق الاصفهاني عدم
الخيار للزوجة والمستأجر، نظراً إلى أنّه لا ضرر هنا لكي ينجبر بالخيار: «لأنّ الضرر إن كان فوات الغرض المعاملي فهو لا يحصل
بالفسخ ، وإن كان ضرر إلى أن يتيسر- كما في تعذّر المبيع الشخصي- فهو على الفرض ممتنع الحصول، لا أنّه ممكن التحصيل بالصبر، بل بانقضاء المدة يستحيل حصول المنفعة الموقتة، وإن كان بلحاظ ذهاب الاجرة هدراً، فالمفروض أنّه ملك المنفعة في قبالها، والآن على حاله على الفرض، وحيث إنّها فوّتت المنفعة على المستأجر بتقديم حق الزوج فهي ضامنة لمالية المنفعة المستأجرة، فإنّ جواز
الإتلاف بل وجوبه لا ينافي الضمان، ولا ضرر عليها لفرض بقاء الاجرة المسمّاة على ملكها، فمقتضى القواعد عدم الخيار لا للزوجة ولا للمستأجر».
وقد تقدم أنّ هذا مبني على كون هذا الخيار بملاك الضرر لا بملاك عدم تسليم المنفعة أو تعذّرها، وإلّا كان ثبوته واضحاً.
هذا إذا لم نقل بالانفساخ القهري للإجارة بترك العمل خارجاً مطلقاً، أو إذا كانت على العمل الخارجي وبانفساخ الإجارة بالنسبة للمدة الباقية يكون للمستأجر
خيار التبعّض بناءً على جريانه في الإجارة، وقد تقدم بحثه أيضاً.
لو كانت المرأة خليّة فآجرت نفسها للإرضاع أو غيره ثمّ تزوجت قدّم حق المستأجر على حق الزوج في صورة المعارضة كما هو صريح غير واحد من الفقهاء؛
لأنّها حينما كانت خلية كان لها تمليك منفعتها إلى الغير باجارة ونحوها، فاذا ملكها المستأجر باجارة صحيحة ليس لها ولا لزوجها تفويت هذا الحق، فلا جرم يكون حق الزوج متمحضاً في غير هذه المنفعة، فيكون من قبيل بيع العين مسلوبة المنفعة مدة الإجارة السابقة على
البيع .
ويجوز للزوج الاستمتاع بها فيما فضل عن وقت الإرضاع،
وليس لولي الطفل منع الزوج منه مع عدم تضرّر الولد به، فإن تضرر كان له ذلك لسبق حقه.
هذا، ولكن ذهب بعض الأعلام إلى وجوب تقديم حق الزوج بناءً على أهميته،
ووافقه عليه المحقق الاصفهاني
فيما إذا كانت الإجارة في مدة خاصة وطالبها الزوج في تلك المدة بالاستمتاع، وأمّا إذا كانت الإجارة مطلقة وطالبها المستأجر بالإرضاع تزاحم حق المستأجر مع حق الزوج، فإن قلنا بتقديم أحد الحقّين فهو، وحيث إنّ السبق الزماني لا أثر له ولم تثبت أهمية أحدهما كان لها الخيار في ذلك.
يجوز استئجار الرجل امه واخته وبنته وسائر أقاربه لإرضاع الولد بلا خلاف،
إنّما وقع البحث بينهم في استئجار المرأة لرضاع ولدها، فقد ذهب الشيخ
إلى عدم الجواز؛ لأنّها جمعت بين عوض الاستمتاع وعوض التمكين منه، وتبعه عليه
القاضي .
ونوقش فيه بأنّ العوض ليس قبال التمكين، بل ازاء الإرضاع وسائر الأعمال التي لا سلطان عليها من الزوج، وليست مملوكة له، مضافاً إلى عدم وجوب الرضاع على الام؛ لأنّ ذلك من
النفقة على الابن الواجبة على الأب، فيجوز أخذ الاجرة عليه.
ومن هنا ذهب أكثر الفقهاء
-
كالحلّي والعلّامة- إلى الجواز وإن لم يجب على الأب تسليم الولد اليها مع وجود غيرها للإرضاع. نعم، لو بذلت نفسها طوعاً أو طالبت بأُجرة المثل كانت أحق بالولد من غيرها.
قال الحلّي: «الأقوى عندي أنّه يصح استئجارها على الرضاع، سواء كانت بائناً، أو في حباله... فإذا بذلت الرضاع متطوعة بذلك كانت أحقّ بالولد من غيرها، وإن طلبت أكثر من اجرة المثل في الرضاع والأب يجد من يتطوع له أو من يرضى بأُجرة المثل لم تكن الام أولى بالولد من الأب، وللأب أن يسلّم الولد إلى غيرها، فإن رضيت بأُجرة المثل وهو لا يجد إلّا باجرة المثل كانت هي أولى، فإن كان يجد غيرها بدون اجرة المثل أو متطوعة كان له أن ينزعه من يدها».
هذا إذا كانت المرأة في حبالة الزوج، أمّا إذا كانت بائنة أو كان الولد من سائر زوجاته فلا إشكال في صحة الاستئجار للرضاع.
لو استأجرها للرضاع والإرضاع فانقطع اللبن فهل ينفسخ العقد بذلك أو يكون للمستأجر الخيار
؟ هذا ما سيأتي البحث عنه في فصل
الفسخ والانفساخ .
يجب على المرضعة تناول ما يدرّ لبنها من المأكول والمشروب وكلّ ما يصلح لبنها، ويجب ترك ما يضر بالصبي مقدمة للإتيان بالعمل الذي استؤجرت عليه.
يجوز للولي إجبار أمته على الإرضاع إجارة أو تبرّعاً، سواء كانت قنّة أو مدبّرة أو ام ولد،
وأمّا
المكاتبة والمبعّضة وأمة الزوجة ففيها كلام يأتي في محلّه.
الموسوعة الفقهية، ج۴، ص۳۱۹-۳۳۱.