الإقرار بالمبهم
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
تقدّم الكلام في شرائط المقرّ به من المالية والملكية وغيرها، والكلام هنا في أنّه هل يشترط كونه معلوماً محدّداً خالياً عن
الإبهام أيضاً، أم لا يشترط ذلك؟ صريح الأخبار الواردة في تفسير الأقارير المبهمة، وكذلك كلمات الفقهاء عدم
اعتبار ذلك، بل يصحّ الإقرار بالمبهم كما صرّح به جماعة.
وقد استدلّ له بعموم أدلّة الإقرار، وبأنّ الإقرار
إخبار ، وهو يحتمل
الإجمال والتفصيل، وبأنّ الحاجة قد تدعو إليه، كما إذا كان على
الإنسان مال ولم يعلمه بالتفصيل فأراد إبراء ذمّته، فيقرّ أوّلًا بالمقرّ به على إجماله، ثمّ يرفع النزاع بين المقرّ والمقرّ له بالصلح ونحوه.
ومن هذا الباب ما أرسلوه في كلماتهم من أنّه بعد
الإقرار بالمبهم يطالب المقرّ بالتفسير، فإن فسّره بما يصحّ فيه الإقرار قبل منه، وإلّا فلا. وأنّه إن امتنع عن التفسير يحبس حتى يبيّن مراده كما ذكره بعضهم،
وإن ذهب آخرون إلى أنّه يجعل ناكلًا بمجرّد ذلك، فيردّ اليمين على المقرّ له، ويثبت ما يدّعيه مع يمينه.
فأصل المسألة ممّا لا كلام فيه، ويلاحظ من كلمات الفقهاء هنا أنّهم يجعلون العرف والعادة واللغة مرجعاً في قبول التفسير وعدمه، وأحياناً يرجعون إلى بعض النصوص الشرعية في ذلك، وسوف نلاحظ ذلك من خلال الأمثلة القادمة؛ لذا نصرف الكلام إلى ذكر نماذج من الألفاظ والأقارير المبهمة وما قيل فيها من التفسير عرفاً وشرعاً، وأهمّها ما يلي:
قال
المحقّق الحلّي : «إذا قال: (له عليّ شيء) ففسّره بجلد الميتة أو السرجين النجس، قيل: يقبل؛ لأنّه شيء، ولو قيل: لا يقبل؛ لأنّه لا يثبت في الذمّة، كان حسناً. ولو قال: (مال جليل، أو عظيم، أو خطير، أو نفيس) قُبل تفسيره ولو بالقليل. ولو قال: (كثير) قال الشيخ: يكون ثمانين، رجوعاً في تفسير الكثرة إلى رواية النذر. (وهي مرسلة
ابن أبي عمير عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام أنّه قالفي رجل نذر أن يتصدّق بمال كثير، فقال: «الكثير ثمانون فما زاد؛ لقول اللَّه تعالى.» ) وربّما خصّها بعض الأصحاب بموضع الورود، وهو حسن.
وكذا لو قال: (عظيم جدّاً) كان كقوله: (عظيم)، وفيه تردّد. ولو قال: (أكثر من مال فلان) الزم بقدره وزيادة، ويرجع في تلك الزيادة إلى المقرّ. ولو قال: (كنت أظنّ ماله عشرة) قبل ما بنى عليه إقراره ولو ثبت أنّ مال فلان يزيد عن ذلك؛ لأنّ الإنسان يخبر عن وهمه، والمال قد يخفى على غير صاحبه. ولو قال: (غصبتك شيئاً) وقال: (أردت نفسك) لم يقبل».
ومثله ما ذكره غيره.
ولو أقرّ له بمال وفسّره بحدّ القذف وحقّ
الشفعة لم يقبل تفسيره بذلك كما صرّح به بعض الفقهاء.
وكذا لو فسّره بردّ السلام؛ لأنّه لم تجر العادة بالإخبار عن ثبوت مثله في الذمّة،
بل لأنّه ليس مالًا لغة وعرفاً.
وكذا لو فسّره بتسميت العاطس والعيادة؛ لأنّهما ليسا بمال.
ولو أقرّ له بشيء وفسّره بحدّ القذف
أو حقّ شفعة قبل تفسيره بذلك.
وكذلك يقبل تفسيره بالوديعة؛ لوجوب ردّها عليه عند الطلب.
ولو فسّره بردّ السلام والعيادة والتسميت عند العطاس وجواب كتاب، لم يقبل ذلك منه؛
لأنّ ذلك لا يثبت عليه في ذمّته حتى يكون لازماً له،
ولبعده عن الفهم في معرض الإقرار؛ ولأنّها تسقط بفواتها.
واحتمل العلّامة الحلّي القبول إذا أراد: أنّ عليّ ردّ السلام إذا سلّم، وتسميته إذا عطس؛
للخبر.
وصرّح بأنّه: «لو قال: (له عليّ حقّ) فإنّه يقبل التفسير بالعيادة وردّ السلام».
وفرّق بعضهم بين المال والشيء، فلا يقبل تفسير المال بردّ السلام والعيادة، ويقبل تفسيره الشيء بذلك.
ولو قال: (له عليّ كذا) كان إليه التفسير، فيقبل تفسيره بما يقبل به تفسير (الشيء) إذا أقرّ به.
•
الإقرار بما يحتاج إلى التفسير ، فيها أمثلة عديدة ،نذكرها في عنوانها.
لو قال: (له عليّ دراهم) يحمل على الثلاثة؛ لأنّها أقلّ
الجمع .
وقيّد ذلك بعضهم بالجمع المنكّر، فقال: «الجمع المنكّر يحمل على الثلاثة».
وذكر
الشهيد الثاني في وجه هذا
التقييد أنّ الجمع المعرّف يفيد العموم، كما هو محقّق في
الأصول ، فربّما لا يحمل على الثلاثة.
ثمّ ناقش فيه بأنّ العموم هنا غير مراد، وليس له حدّ يوقف عليه، فلا فرق في الحمل على الثلاثة بين المعرّف والمنكّر.
وقد صرّح بعضهم بعدم الفرق، فقال: «الجمع يحمل على أقلّه، وهو ثلاثة، سواء كان جمع قلّة أو كثرة، وسواء كان معرّفاً بلام الجنس أو منكّراً، وسواء وصفه بالقلّة أو الكثرة أو لا، فلو قال: (له عليّ دراهم) لزمه ثلاثة، وكذا لو قال: (الدراهم)، أو: (دراهم كثيرة)، أو: (وافرة) أو: (قليلة)».
ثمّ إنّه قد احتمل بعضهم قبول تفسيره باثنين؛ لأنّ الاثنين قد يعبّر عنهما بلفظ الجمع كما في قوله تعالى: «فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ»،
والمراد:
أخوان . ولو سلّم أنّه مجاز فلا يستحيل إرادته، فإذا فسّره به قُبل؛ لأنّه أعرف بقصده.
واستقربه
الشهيد الأوّل .
وقال
المحقّق النجفي : «لو فسّره بالاثنين- بناءً على أنّه من
أهل النظر، وكان إخباره مبنيّاً على ذلك أو قلّد من يرى ذلك- قبل تفسيره به. أمّا لو فسّره به
بإرادة المجازيّة فلا يقبل إذا كان منفصلًا».
الموسوعة الفقهية، ج۱۶، ص۵۶- ۶۸.