الاجتهاد في الاصطلاح الفقهي
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
قد يستفاد من كلمات الفقهاء في مواطن عديدة عند استعمالهم كلمة الاجتهاد بالاصطلاح الفقهي أنّهم يعنون به بذل الجهد للتوصّل إلى معرفة الموضوعات الخارجية التي تعلّق بها الحكم الشرعي عن طريق الأمارات والعلامات التي تورث غلبة الظن بها عند تعذّر القطع والعلم، كما في
بذل الجهد لمعرفة جهة القبلة عن طريق بعض العلامات. وقد تطلق الكلمة عندهم ويراد بها بذل الجهد لطلب شيء خارجي يمكّنه من أداء الوظيفة
الاختيارية ويرفع العذر والوظيفة
الاضطرارية ، كما في بذل الجهد لتحصيل الماء لأجل الطهارة.
وهو لغة القصد والطلب، وتحريت الشيء أي قصدته، تحرّيت في الأمر أي طلبت فيه.
و
التحرّي : قصد الأولى والأحق.
وقد يطلق في كلمات الفقهاء ويراد نفس المفهوم الفقهي المتقدّم للاجتهاد.
وهو لغة بمعنى التحرّي، توخّيت الأمر أي تحرّيته في الطلب،
وقال ابن منظور:
التوخّي بمعنى التحرّي للحق، يقال: توخّيت الشيء أتوخّاه توخّياً إذا قصدت إليه وتعمّدت فعله.
ويأتي أيضاً بمعنى الاجتهاد بالمفهوم الفقهي.
بالرغم من أنّ
التعويل على الطرق والعلامات الظنّية لمعرفة الموضوعات الخارجية ذات الصلة بالأحكام الشرعية مع
إمكان العلم والقطع بها أمر لم تجزه الشريعة، وقد صرّح بذلك الفقهاء في أكثر من مقام؛ لعدم
اعتبار الظن المطلق وعدم حجّيته، إلّا أنّ الشارع قد رخّص- في بعض الموارد وعند عدم إمكان تحصيل العلم أو تعذّره- في
الاعتماد على الظن المطلق الحاصل من خلال الاجتهاد والتحرّي لتحصيله؛ ولعلّه لأجل التيسير على المكلّفين ونفي الحرج، ومن تلك الموارد:
صرّح فقهاؤنا في مسألة
استقبال القبلة في الصلوات بوجوب الاجتهاد في تحصيل الظن بجهتها عند عدم إمكان العلم بها، ولا فرق في ذلك بين أسباب تحصيل الظن سواء حصل من الأمارات الخاصة المذكورة في بحث القبلة أو من غيرها،
بل صرّح بعضهم بأنّ المهم هو تحصيل الظن بجهة القبلة ولو كان المخبر فاسقاً أو كافراً إذا كان من
أهل الخبرة.
قال السيد اليزدي: «عند عدم إمكان تحصيل العلم بالقبلة يجب الاجتهاد في تحصيل الظن، ولا يجوز
الاكتفاء بالظن الضعيف مع إمكان القوي، كما لا يجوز الاكتفاء به مع إمكان
الأقوى . ولا فرق بين أسباب حصول الظن، فالمدار على الأقوى فالأقوى، سواء حصل من الأمارات المذكورة أو من غيرها، ولو من قول فاسق، بل ولو من كافر، فلو أخبر عدل ولم يحصل الظن بقوله وأخبر فاسق أو كافر بخلافه وحصل منه الظن من جهة كونهما من أهل الخبرة يعمل به».
وقد يقع الكلام في تقديم البيّنة على الاجتهاد أو عدمه، وللفقهاء في المقام قولان:
أحدهما: الاكتفاء بالبيّنة إذا كانت مستندة إلى الحسّ لا الحدس. بل قيل بالاكتفاء بها حتى مع إمكان تحصيل العلم.
بل لم يستبعد البعض كفاية شهادة
العدل الواحد، بل مطلق الثقة أيضاً.
ثانيهما: الاكتفاء بالبيّنة والتعويل عليها ما لم تتعارض مع اجتهاده، ومع التعارض معه فإن كان
الإخبار حسّياً والاجتهاد ظنياً قدّم الخبر وإلّا فالمتبع الأمارات المنصوصة شرعاً، وإلّا فالظن الفعلي من أي سبب.
وتفصيل البحث تجده في مصطلح (قبلة).
من المتّفق عليه بين الفقهاء عدم جواز الصلاة قبل دخول وقتها، وعليه يجب العلم بدخوله حين الشروع فيها، ومن لم يتمكّن من تحصيل العلم لعذرٍ ما كالسجين أو الأعمى، عليه الاجتهاد لتحصيل الظن بدخول الوقت ليصلّي، وقيل بعدم وجوب التأخير عليه حتى يعلم.
واختلف الفقهاء في أنّ جواز العمل بالاجتهاد هل يختص ببعض الأعذار أو يعمّ جميعها؟ فذهب بعضهم إلى جواز التعويل عليه سواء كان العذر من الأعذار العامة كالغيم والغبار ونحوها، أو من الأعذار الخاصة كالعمى والحبس ونحوها.
وفصّل بعض آخر بين الأعذار العامة فيجوز معها التعويل على الظن الحاصل بالاجتهاد، وبين الأعذار الخاصة فلا يجوز معها التعويل عليه، بل لا بد من الاحتياط فيها وتأخير الصلاة إلى حصول العلم بدخول الوقت.
وتفصيل الكلام في موطنه (مواقيت الصلاة وأحكامها من مصطلح صلاة).
لو كان المكلّف ممّن لا يتمكّن من تحصيل العلم بشهر الصيام، كما في
الأسير والمحبوس فيجوز له الاجتهاد لتحصيل الظن بالشهر فيصومه، هذا هو المشهور، بل ادعي عليه الاجماع،
وقد قام الدليل على حجّية اجتهاده في المقام مثل
صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن الصادق عليه السلام: «قلت له: رجل أسرته الروم ولم يصح له
شهر رمضان ، ولم يدر أي شهر هو، قال يصوم شهراً يتوخّى (يتوخّاه) ويحسب...».
وتمام الكلام في موطنه من مصطلح (صوم).
من الموارد التي يكلّف فيها الشخص بالاجتهاد والتحرّي ما إذا وجبت
الزكاة على شخص ويريد دفعها إلى مستحقها فعليه الاجتهاد في طلبه ومعرفته، فلو أدّى زكاته إلى
إنسان ، ثمّ علم بعد ذلك أنّه قد وضع زكاته في غير موضعها، فقد ذكر جمع من فقهائنا
أنّه يكون ضامناً لمقدار الزكاة لو لم يكن قد اجتهد في طلب المستحق، أمّا إذا كان قد اجتهد في معرفة
المستحق فلا ضمان عليه، قال المحقق النجفي: «ومن هنا جعل جماعة المدار في الضمان وعدمه على الاجتهاد وعدمه، بل لعلّه المشهور بين المتأخّرين».
لو اشتبه ثوبا المصلّي وهو يعلم بنجاسة أحدهما، ولم يكن متمكّناً من غسلهما أو تطهير أحدهما والصلاة فيه، قال الفقهاء في المقام بوجوب الصلاة بكل منهما، ومع عدم تمكّنه إلّا من الصلاة في أحدهما فقط فقد اختار بعضهم القول بوجوب الاجتهاد والتحرّي عليه لتحصيل الظن بالنجس ليجتنبه أو الطاهر ليصلّي فيه.
قد يقال بوجوب التحرّي والاجتهاد في تحصيل الظن بمقدار الفائت من الصلوات لو لم يكن المكلّف قد أحصاها، قال
الشهيد الثاني : «لو فات المكلّف من الصلاة ما لم يحصه لكثرته تحرّى أي اجتهد في تحصيل ظن بقدر، ويبني على ظنه، وقضى ذلك القدر...».
ولكن هناك بعض الروايات يستفاد منها أنّ التحرّي والاجتهاد إنّما يكفي في مورد فوات
النافلة لا
الفريضة .
قد يقال أيضاً بجواز اكتفاء
الصائم بالظن الحاصل لديه نتيجة اجتهاده وتحرّيه لدخول الليل و
افطاره عندئذٍ، قال
العلّامة الحلّي : «ولو اجتهد وغلب على ظنه دخول الليل، فالأقرب جواز
الأكل ».
وقال
المحقق السبزواري معلّقاً على قوله: «وظاهره وجود الخلاف في الحكم المذكور، وما قرّبه متجه».
كما ذكرنا في بداية البحث أنّ كلمة الاجتهاد بالمفهوم الفقهي قد تستعمل في بذل الجهد لطلب شيء خارجي يمكنه من أداء الوظيفة الاختيارية ويرفع العذر والوظيفة الاضطرارية، كبذل الجهد لطلب الماء للطهارة المشروطة بها الصلاة، وقد أفتى الفقهاء بوجوب الاجتهاد في تحصيل الماء لهذا الغرض قبل
الانتقال إلى التيمم بحيث لو أخلّ به لم يصح عندهم تيمّمه، قال
الشريف المرتضى : «ولا يجوز التيمم إلّا عند تضيّق (وقت) الصلاة، ويجب طلب الماء والاجتهاد في تحصيله».
وقال
القاضي ابن البراج : «ويجتهد في طلب الماء في رحله وفي
الأرض الحزنة... وفي السهلة... أمامه وخلفه ويمينه وشماله».
وقال
ابن ادريس : «ومن شروطه (التيمم) طلب الماء، والاجتهاد في طلبه...»
ونحو ما تقدّم عبائر أغلب الفقهاء.
الموسوعة الفقهية، ج۵، ص۲۳۸-۲۴۲.