شهر رمضان
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
شهر رمضان من
الشهور القمرية التي وصفت الأحاديث الإسلامية بأسماء ونعوت متعدّدة، تدلّل بأجمعها على عظمة هذا الشهر، وتحكي الدور الإيجابي العميق الفعّال الّذي ينهض به في رفعة
الإنسان وسموّه، وتحقيق سعادته في
الدنيا والآخرة، وركّزت عليها روايات
أهل البيت (عليهمالسلام)، أنّ هذا الشهر هو أوَّل السَّنة، فكذلك يأتي شهر رمضان ليكون بداية سنة الإنسانية من منظور
الإسلام، ففي هذا الشهر الكريم تتجدّد الحياة المعنوية لأهل
السير والسلوك الذين يُغِذّون السير صوب الكمال المطلق، وتنبلج نفوسهم عن طاقات تجعلهم على اُهبة الاستعداد
للقاء اللّه، الخصيصة البارزة الّتي تتألّق في سماء هذا الشهر الفضيل، هي الإمكانات الّتي يتيحها لضيافة اللّه سبحانه، على ما نطق به
رسول اللّه (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) بقوله في وصف هذه الخصلة: «هُوَ شَهرٌ دُعيتُم فيهِ إلى ضِيافَةِ اللّه ِ، وَجُعِلتُم فيهِ مِن أهلِ كَرامَةِ اللّه ِ»، بعبارة اُخرى، يمكن القول إنَّ ضيافة اللّه في هذه المدّة الزمنية والأغذية المعنوية الخاصّة الّتي أعدّها سبحانه لضيوفه في هذه الضيافة، هي منشأ التحوّلات المعنوية العميقة الّتي تطرأ على
حياة الإنسان في هذا الشهر الفضيل، وهي مائدة مفتوحة للجميع يصيب من ينهل منها بركات عظيمة تنأى على الحصر.
ينحدر لفظ رمضان من الجذر «رَمَضَ» بمعنى: المطر الّذي يهطل أوّل
الخريف، وينقّي الأجواء من غبار
الصيف، ويطهّرها من أتربته، أو بمعنى: سخونة الصخر وحرارته من شدّة لهب
الشمس. أمّا عن علّة هذه التسمية، فقد ذهب
الزمخشري إلى القول: «فإن قلتَ: لِمَ سُمّيَ شهر رمضان ؟ قلت:
الصوم فيه
عبادة قديمة، فكأنّهم سمّوه بذلك لارتماضهم فيه من حرّ
الجوع ومقاساة شدّته، كما سمّوه ناتقا؛ لأنّه كان ينتقهم أي يزعجهم إضجارا بشدّته عليهم. وقيل: لمّا نقلوا
أسماء الشهور عن اللغة القديمة سمَّوها بالأزمنة الّتي وقعت فيها، فوافق هذا الشهر أيّام رمض الحرّ»
. ثمَّ عَدَدٌ من الروايات علّلت التسمية على أساس ما ينهض به رمضان من دور في تطهير
النفس ممّا يشوبها من لوث
الذنوب، وتنقية
الروح من أدران الخطايا، حيث روي عن
النبي (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم)، قوله: «إنّما سُمّيَ رَمَضانُ؛ لِأَ نَّهُ يُرمِضُ الذُّنوبَ»
.هذا الوجه في تعليل التسمية يتّسق مع الجذر اللغوي لكلمة «رمضان» من جهةٍ، كما يتناسب مع بركات هذا الشهر ومعطياته، وآثاره من جهة اُخرى.
يتحدّث عدد من النصوص الروائية الواردة عن الفريقين صراحةً، على أنَّ «رمضان» اسم من
أسماء اللّه سبحانه
، ومِن ثَمَّ فقد نهت عن تسميته مجرّدا من دون إضافة لفظ «شهر» إليه
، بحيث لا ينبغي للإنسان أن يقول «هذا رَمَضانُ» أو «جاءَ رَمَضانُ» أو «ذَهَبَ رَمَضانُ» أو «صُمتُ رَمَضانَ» ومن قاله فعليه أن يتصدّق ويصوم كفّارةً لقوله
. بَيدَ أنّ هذه الروايات تواجه العديد من الصعوبات، وهي مخدوشة سندا ودلالةً، كما يتّضح من الجوانب التالية: أوّلاً: ليست هناك رواية معتبرة سندا من بين النصوص الروائية المذكورة بهذا الشأن. ثانيا: عند مراجعة الأحاديث الّتي تضمّنت إحصاء أسماء اللّه سبحانه، يلاحظ خلوّها من هذا الاسم. ثالثا: جاءت كلمة «رمضان» في عدد كبير من الروايات الصادرة عن النَّبي
وأهل البيت (صلواتاللّهعليهمأجمعين) خاليةً غير مصدّرةٍ بكلمة «شهر»، حيث من المستبعد جدّا أن يكون الرواة أنفسهم قد بادروا إلى حذف المضاف من جميع هذه الروايات
.
وصفت الأحاديث الإسلامية «شهر رمضان» بأسماء ونعوت متعدّدة، تدلّل بأجمعها على عظمة هذا الشهر، وتحكيالدور الإيجابي العميق الفعّال الّذي ينهض به في رفعة الإنسان وسموّه، وتحقيق سعادته في
الدنيا والآخرة، من هذه الأسماء والنعوت: شهر اللّه
، شهر اللّه الأكبر
، شهر ضيافة اللّه
، شهر
نزول القرآن، شهر تلاوة القرآن
، شهر
الصيام، شهر
الإسلام، شهر الطهور، شهر التمحيص
، شهر
العتق، شهر
القيام شهر
الصبر، شهر المواساة
، شهر البركة
، شهر المغفرة
، شهر الرحمة
، شهر التوبة و شهر
الإنابة، شهر
الاستغفار، شهر
الدعاء و شهر
العبادة، شهر
الطاعة ، شهر مبارك، شهر عظيم، شهر يزيد اللّه في
رزق المؤمن، سيد الشهور،
، عيد
أولياء اللّه ، ربيع القرآن، ربيع الفقراء
، ربيع المؤمنين
، المضمار
والمرزوق
.
•
فضائل شهر رمضان، لشهر رمضان خصائص مهمّة، هي منشأ ما يحظى به هذا الشهر من بركات عظيمة وهي الأساس لنعَمِه الّتي لا تعدّ ولا تحصى. جلال هذا الشهر وعظمته وبركاته المعنوية والمادية الّتي تنهمر على أهل
الإيمان، هي ممّا ينأى عن الوصف من منظور الأحاديث الإسلامية، فلو توفّر المسلمون على معرفةٍ صحيحةٍ ببركات هذا الشهر الفضيل، وأدركوا عظيم مواهبه وحبواته، لتمنّوا أن تكون السَّنة برمّتها شهر رمضان، على ما يفيده
الحديث النَّبوي الشريف بهذا الشأن: «لَو يَعلَمُ العِبادُ ما في رَمَضانَ؛ لَتَمَنَّت أن يَكُونَ رَمَضانُ سَنَةً»
.
من خصائص شهر رمضان الّتي ركّزت عليها روايات أهل البيت (عليهمالسلام)
، أنّ هذا الشهر هو أوَّل السَّنة. على هذا الضوء سيواجهنا سؤالان: الأوّل: ما معنى أوَّل السَّنة، وما المقصود من ذلك؟ الثاني: ألفت
العرب أن يكون «
شهر محرّم» هو أوَّل السَّنة، وعلى هذا جرت سنّتها حاضرا إذ يعدّ «محرّم» أوّل سنتها الهجرية رسميّا، وحينئذٍ كيف نفسّر ما ذهبت إليه الروايات الإسلامية من أنّ «شهر رمضان» هو رأس السَّنة وأوّلها ؟ يكتب
السيّد ابن طاووس (ت ۶۶۴ق) في هذا المضمار: «اعلم أنّني وجدت الروايات مختلفات في أنّه هل أوّل السَّنة المُحرَّمُ، أو شهر رمضان؟ لكنّني رأيت عَمَلَ من أدركته من علماء أصحابنا المعتبرين وكثيرا من تصانيف علمائهم الماضين، أنّ أوّل السَّنة شهر رمضان على التعيين، ولعلّ شهر الصيام أوّل العام في عبادات الإسلام والمُحرَّم أوّل السَّنة في غير ذلك من التواريخ ومهامّ الأنام»
. لكن الملاحظ أ نَّنا لم نعثر على روايات دالّة على أنَّ المُحرَّم هو أوّل السَّنة، ومِن ثَمَّ يبدو من غير الصحيح ما بدا في كلام السيّد (قدسسره) من وجود تعارض في
الروايات بين ما ينصّ على أنّ أوَّل السَّنة هو المُحرَّم، أو «شهر رمضان». أجل، المشهور بين العرب أنَّ رأس سنتهم هو المُحرَّم على ما ذهب إليه
العلاّمة المجلسي. أمّا لماذا خالفت روايات أهل البيت هذه السنَّة الجارية بين العرب، وذهبت إلى أنَّ «شهر رمضان» هو أوَّل السَّنة، فهذا أمر يستبين الجواب عليه بعد اتّضاح معنى أول السَّنة وبيان المقصود من ذلك.
ليس هناك في الظاهر معنىً حقيقي لرأس السَّنة، وذلك على النحو التكويني الّذي يبدأ فيه الزمان من لحظة خاصّة تعدّ وحدها لحظة بدء السنة دون غيرها من اللحظات، وإنّما يبدو أنَّ هذه البداية هي من جملة الاُمور الاعتبارية الّتي تكتسب معاني مختلفة تبعا لتنوع الاعتبارات وتعدّدها
، وعندئذٍ يمكن أن يكون كلّ يوم أوَّل السَّنة أو نهايتها تبعا لاعتبار خاص، وهذا ما يفسّر الاختلاف الناشِئ بين الاُمم والأقوام في تحديد أوائل سنينها، إذ اختارت فارس القديمة مطلع شهر «فروردين» (الموافق ۲۱ آذار ميلادي) بدايةً لسنتها وعدّت ذلك عيدا، ولا تزال على ذلك أعرافها حتّى الوقت الحاضر، على حين اتّخذ العرب أوّل «محرّم» بدايةً لسنتهم، وفي المقابل اتّخذ النصارى «ميلاد
السيّد المسيح» رأسا لسنتهم.
عندما ندرس مفهوم أوَّل السَّنة على ضوء الثقافة الإسلامية، نجد أنّ هذه الظاهرة في الإسلام تخضع لاعتبارات مختلفة، فمن النصوص الإسلامية ما يركّز على أنَّ شهر رمضان أوَّل السَّنة
، ومنها ما يسجّل أن «
ليلة القدر» هي أوَّل السَّنة
، كما أنّ فيها ما يذهب إلى تحديد أوَّل السَّنة بـ «
عيد الفطر»
. فكما أنّ «فروردين» هو أوّل السنة الطبيعية، حيث تكتسي
الأرض في هذا الشهر حُلّةً قشيبةً وتُورِق فيه الأشجار، فكذلك يأتي شهر رمضان ليكون بداية سنة الإنسانية من منظور الإسلام، ففي هذا الشهر الكريم تتجدّد الحياة المعنوية لأهل السير والسلوك الذين يُغِذّون السير صوب الكمال المطلق، وتنبلج نفوسهم عن طاقات تجعلهم على اُهبة الاستعداد
للقاء اللّه، وبذا يمكن القول أن «فروردين» بداية تجديد دورة
الحياة المادية للنباتات في عالم الطبيعة، وأنَّ «شهر رمضان» بداية تجديد دورة الحياة المعنوية للإنسان في عالم الإنسانية.
أمّا الرواية الّتي تتحدّث عن أنّ «ليلة القدر» هي أوَّل السنة، فبلحاظ أنّ هذه الليلة هي ليلة
التقدير الّتي يقدّر فيها كلّ شيء يكون في السنة. وبشأن الرواية الّتي تتحدّث عن أنّ يوم «عيد الفطر» هو أوَّل السَّنة؛ فالاعتبار في ذلك يرجع إلى أنّ هذا اليوم أوَّل يوم في السَّنة يحلّ فيه
الأكل والشرب على ما صرّحت به الرواية نفسها؛ أو لأنّها تومئ إلى أنَّ عيد الفطر بداية شوط جديد في حياة الإنسان واستئنافه العمل مجدّدا، بعد أن رمضت ذنوبه في لهيب معاناة
الصوم، وانمحت من صحيفة أعماله واستُؤصلت منها تماما.
الخصيصة البارزة الثانية الّتي تتألّق في سماء هذا الشهر الفضيل، هي الإمكانات الّتي يتيحها لضيافة اللّه سبحانه، على ما نطق به رسول اللّه (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) بقوله في وصف هذه الخصلة: «هُوَ شَهرٌ دُعيتُم فيهِ إلى ضِيافَةِ اللّه ِ، وَجُعِلتُم فيهِ مِن أهلِ كَرامَةِ اللّه ِ»
. هذه الخصيصة في الحقيقة هي أساس الخصوصية الاُولى، بل هي منشأ جميع خصوصيات شهر رمضان المبارك ومنبثق كلّ البركات الّتي تحفّ به. بعبارة اُخرى، يمكن القول إنَّ ضيافة اللّه في هذه المدّة الزمنية والأغذية المعنوية الخاصّة الّتي أعدّها سبحانه لضيوفه في هذه الضيافة، هي منشأ التحوّلات المعنوية العميقة الّتي تطرأ على حياة الإنسان في هذا الشهر الفضيل، وهي مائدة مفتوحة للجميع يصيب من ينهل منها بركات عظيمة تنأى على الحصر.
في طليعة الأسئلة الّتي تحفّ بهذه الخصيصة البارزة، ما يرتبط بمعنى ضيافة اللّه سبحانه لأحبّائه في شهر رمضان وما المقصود من ذلك؟ أليس الناس جميعا وفي الأوقات كلّها هُم ضيوف اللّه ونازلين في رحابه؟ فضلاً عن أنّ قوام الضيافة هي بالطعام والشراب الّذي يهيّئه صاحب الضيافة للضيف، فما عساها أن تكون هذه الضيافة الّتي يأتي الامتناع عن تناول الطعام والشراب في أوّل شروطها؟! يأتي الجواب على هذه الأسئلة من واقع تحليل حقيقة الإنسان ومعرفة مكوّناته، فالإنسان في الرؤية الإسلامية مركّب يتألّف من
جسم وروح، فكما يحتاج الجسم إلى الأغذية المادية الّتي تمدّه بقوام ديمومته، كذلك تحتاج هوية الإنسان وحقيقته الإنسانية إلى أغذية معنوية من سنخها. على هذا الضوء يتبيّن أنَّ
اللّه سبحانه لم يهيّئ الضيافة الرمضانية لاستضافة أجسام أحبّائه وما به قوام وجودهم المادي، فأبدان هؤلاء ـ كما جميع
الخلق ـ في ضيافة اللّه دائما وأبدا. وبتعبير شاعر شيراز: فرش الأرض سفرةً للجميع وحباها بطيّبات
الربيع فإذا بالخوان يطعمُ منه كلّ عاصٍ وكلّ عبدٍ مطيع {ادیم زمین سفره عام اوست••• بر این خوان یغما چه دشمن چه دوست}
بل أنَّ أعداء اللّه غالبا ما يستفيدون من هذه المائدة الممتدّة أكثر من غيرهم، ممّا يشير إلى أن استضافة الجسم وتأمين المتطلّبات المادية ليس بالأمر المهمّ الذي يرتقي إلى مصاف القضايا المعنويّة، خاصّةً وأن القرآن الكريم يسجّل صراحةً بأنّه لولا
الخشية على الناس من جنوحهم إلى
الكفر كافّة، لحظي
الكافر بأعلى الإمكانات المادية وأرفعها: «وَ لَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَ حِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَـنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفا مِّن فِضَّةٍ وَ مَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ • وَ لِبُيُوتِهِمْ أَبْوَ با وَ سُرُرا عَلَيْهَا يَتَّكِـونَ • وَ زُخْرُفا وَ إِن كُلُّ ذَ لِكَ لَمَّا مَتَـعُ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَ الْأَخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ»
. وفي الحديث النَّبوي الشريف: «لَو أنَّ الدُّنيا كانَت تَعدِلُ عِندَ اللّه ِ عز و جل جَناحَ بَعُوضَةٍ ما سَقَى الكافِرَ وَالفاجِرَ مِنها شَربَةً مِن ماءٍ»
. لقد استضاف اللّه (جلّجلاله) نفوس أحبّائه وأرواحهم في ضيافته الرمضانية، وليس أبدانهم وقوامهم المادّي، وهذه ضيافة لا يرقى إلى إدراك قيمتها أحد سواه، ومن هنا قال اللّه (سبحانه وتعالى): «الصَّومُ لي وَأنَا أجزي بِهِ»
. لابدَّ أن تأتي شروط هذه الضيافة وآدابها متوائمة مع ضيافة
النفس، ولابدَّ أن يكون الطعام والشراب فيها من سنخ ضيافة
الروح، وأن يكون الهدف المرجوّ منها هو إيجاد التحوّل الروحي وتجديد الحياة المعنوية للإنسان وتقوية بنيته الروحية. في هذا السياق ما أروع ما كتبه العالم الرباني
الشيخ رضا ابن الفقيه والفيلسوف والعارف الجليل الشيخ
محمّد حسين الإصفهاني طاب ثراهما، وهو يقول في «
الرسالة المجدية» عند شرح النبوي الشريف «شهر دعيتم فيه إلى ضيافة اللّه، وجعلتم فيه من أهل كرامة اللّه» ما نصّه: «اعلم أنّ هذه الضيافة ليست استضافة الجسد، وأنَّ بدنك ليس هو المدعوّ لهذه الضيافة، فأنت تسكن في شهر رمضان في البيت نفسه الّذي كنت تسكن فيه في
شهر شعبان، وطعامك فيه هو الخبز والمرق نفسه الّذي كنت تتناوله بقية شهور السنة وأنت ممنوع منه في أيّام هذا الشهر، إنّما المدعوّ لهذه الضيافة هي نفسك الّتي دعيت إلى منزل آخر وإلى
أطعمة اُخرى روحيّة تتواءم مع الروح ومهيأة من سنخها.
إنّ الدعوة إلى شهر رمضان دعوة إلى
الجنّة، وأطعمة هذه الضيافة من جنس أطعمة الجنّة، والاثنان هما مَضيفا اللّه، لكن اسم المَضيف هنا شهر رمضان، واسمه هناك غرف الجنان، هنا
غيبٌ، وهناك مشاهدةٌ وعَيانٌ، هنا
تسبيحٌ وتهليل، وهناك عين
سلسبيل، وهنا نِعمٌ مستورة ومواهب مخزونة، وهناك: «فَـكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ • وَ لَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ»
. فالنِعَم تبرز في كلّ عالم بلباس ذلك العالم، وقد يحصل أحيانا أن تظهر للأنبياء والمعصومين في هذه الدنيا بصورتها الأخروية، وما جاء في أخبار كثيرة من أنَّ رسول اللّه (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) جاء
للصّديقة الطاهرة فاطمة (عليهاالسّلام) أو
للحسنين (علیهماالسّلام) بفاكهة من فاكهة الجنّة أو بحلل من حللها، لدليل على هذا المطلب. أكثر من ذلك، ربّما حصلت هذه الاُمور لخواصّ
الشيعة أيضا تبعا لسعتهم الوجودية والمرتبة الّتي يحظون بها، فقد سمعت مرّات وكرات ممّن هو أقرب الناس إليّ حسبا ونسبا، أنه يقول: كنت في أحد أيّام شهر رمضان مشغولاً بالزيارة المعروفة ب
زيارة أمين اللّه في المرقد الشريف
بالنجف، وحين وصلت بعبارات الزيارة إلى: وموائد المستطعمين معدّةٌ، ومناهل الظماء لديك مترعةٌ، وفيما أنا أتأمّل بمعناها وأفكّر به، تراءت لي فجأة مائدة مصفوف عليها أنواع الأطعمة والأشربة ممّا لم أكن أتصوّره قطّ، وأنا أتناول من طعامها، وفي تلك الأثناء كنت أفكّر بمسألة فقهية، إنّها حالة عجيبة تبعث على
الدهشة ! الواقع أن هذه هي حقيقة
الغذاء، وهي ليست مفطرة للصوم....
الشراب الطهور في الحياة الدنيا هو
محبّة اللّه، والوقت الأفضل الّذي يغتنم لتحصيله هو هذه الضيافة الّتي يكون فيها
الساقي هو المضيّف نفسه، ولا تظنّنَّ أنَّ تعبيرات هذا العبد هي من قبيل خيالات الشعراء وأوهامهم، أو من
شطحيّات غلاة المتصوّفة، فحاشى أن أتجاوز لسان
الكتاب والسنّة، أو أتخطّى في معتقدي غير ما جاء به اللّه والنَّبي وأمرا به، وإنّما المقصود هو قول اللّه نفسه في
سورة هل أتى حيث يقول سبحانه: «وَ سَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابا طَهُورا»»
.
•
مراقبات شهر رمضان، بديهي لا يستطيع الإنسان أن ينفذ إلى عالم الضيافة الإلهية وينعم بها في سبيل تجديد الحياة المعنوية، الّتي تعدّ بدورها النقطة الأساسية لفلسفة خلق الإنسان والذروة القصوى المرجوّة لوجوده؛ من دون أن يتوفّر على الاستعدادات اللازمة والمؤهّلات الضرورية لولوج هذا المضمار. والبحث عن هذه الاستعدادت ورصد شروط التهيّؤ للضيافة والتأهّل لها، هي المهمّة الّتي اضطلع بها القسم الثاني من الكتاب. لقد استلزمت
المعرفة شرطا أوّليّا في طليعة الشروط الأساسية الّتي تستلزمها عملية الدخول إلى نطاق الضيافة الإلهية. والمعرفة هذه تكتنز اُفقا وسيعا يبدأ بمعرفة معنى ضيافة اللّه، ويمتدّ إلى معرفة
فلسفة الصوم، والقيمة الّتي يحظى بها الصوم والصائم، ثُمَّ دور الصيام في الحياة المادية والمعنوية للإنسان، وكذلك معرفة مراتب الضيافة الربانية، فمن دون أن يدرك ضيوف اللّه هذه المسائل ويستوعبوها لا يمكنهم التهيّؤ للتزوّد من ضيافته سبحانه والنهل من عطاياها. أهمّية المعرفة في نطاقها الشامل الّذي يستوعب مجموعة هذه المسائل، هي الّتي تفسّر اختصاص الفصل الأوّل من القسم الثاني بها، حيث جاء بعنوان «معرفة ضيافة اللّه». النقطة الأساسية الاُخرى الّتي تنطوي على أهمّية كبيرة، هي ضرورة التخطيط لتهيئة المسلمين وتأهيلهم للنفوذ إلى دائرة الضيافة الرمضانية، فدراسة سيرة أهل البيت (عليهمالسلام) في هذا المضمار تكشف عن
العناية الخاصّة الّتي يبذلها هؤلاء الكرام في هذا الموضوع، إذ يكفي لإثبات المدّعى وما تنطوي عليه هذه الفكرة من أهمّية ملاحظة خطب رسول اللّه (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم)،
والإمام أمير المؤمنين (عليهالسلام)، الّتي أدليا بها على مشارف شهر رمضان ولغرض التهيّؤ له واستقباله، ممّا أثبتنا نصوصه في الفصل الثالث من هذا القسم. فمراجعة هذه الخطب تزيد من المسؤولية الّتي تقع على عاتق القيادات السياسية والدينية والثقافية في البلدان الإسلامية، لجهة إعداد
المسلمين وتهيئتهم للنفوذ إلى عالم الضيافة الإلهية وتأهيلهم للتزوّد من بركاتها ومواهبها. على أنَّ المسألة في التهيّؤ للضيافة الإلهية لا تقتصر على المعرفة وحدها، بل ثَمَّ ضرورة لعدد من الأعمال والأدعية الّتي تصبّ في الاتّجاه ذاته وتحقّق الغاية المرجوّة.
يمكن تقسيم آداب الضيافة الربانية إلى ثلاث مجموعات، هي: المجموعة الاُولى «
التهيؤ لشهر رمضان»: وتشمل الآداب الّتي تعدّ رعايتها والالتزام بها شرطا لا مندوحة عنه للدخول إلى الضيافة الإلهية؛ وهذه تتمثّل باجتناب
مفطرات الصوم بقصد القربة،
والفقه هو المجال الطبيعي الّذي يتوفّر على دراسة هذه الآداب والالتزامات وبحثها، وما دامت الرسائل الفقهية قد استوعبت هذا الأمر فلا حاجة للاستفاضة بعرض تفاصيله في إطار هذه المجموعة. المجموعة الثانية «
آداب الصيام»: وتشمل الآداب الّتي تعدّ رعايتها شرطا ضروريّا لكي ينعم الإنسان بالضيافة الإلهية وينتفع من هباتها، لجهة تجديد حياته المعنويّة وبلوغ تكامله الروحي، وقد توفّر على تغطية هذا النمط من الآداب واستيعابه قبل غيره من الآداب، تحت عنوان «
أهمّ الآداب»، والعنصر المشترك الجامع لهذه الآداب، هو
الورع عن
محارم اللّه، ولذلك جاء في الخطبة المعروفة الّتي خطبها النَّبي (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) في استقبال شهر رمضان، أنَّ
الإمام عليّ (عليهالسلام) سأل أثناءها رسول اللّه (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم)، بقوله: «يا رَسولَ اللّه ِ، ما أفضَلُ الأَعمالِ في هذَا الشَّهرِ ؟» فَأَجابَهُ النَّبِيُّ (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم): «الوَرَعُ عَن مَحارِمِ اللّه ِ»
. يمكن القول بأنَّ
الذنوب هي الآفات الّتي تهدّد الحياة المعنوية للإنسان وتحول دون ازدهارها، ومن ثَمَّ لا يمكن للصيام أن يكون مؤثّرا قطّ في إيجاد التحوّل المعنوي لدى الإنسان، إذا كانت الذنوب حائلاً يمنع عن ذلك، فالصائم الّذي يبتلى بآفة الذنوب لا ينتفع من صيامه، وبتعبير رسول اللّه (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم): «رُبَّ صائِمٍ حَظُّهُ مِن صِيامِهِ الجوعُ وَالعَطَشُ، ورُبَّ قائِمٍ حَظُّهُ مِن قِيامِهِ السَّهَرُ»
. أمّا الإمام عليّ (عليهالسلام)، فيقول بهذا الشأن: «كَم مِن صائِمٍ لَيسَ لَهُ مِن صِيامِهِ إلاَّ الجوعُ وَالظَّمَأُ، وكَم مِن قائِمٍ لَيسَ لَهُ مِن قِيامِهِ إلاَّ السَّهَرُ والعَناءُ، حَبَّذا نَومُ الأَكياسِ وإفطارُهُم»
. على هذا يتّضح بأنَّ اجتناب مفطرات الصوم هو شرط الدخول إلى الضيافة الإلهية؛ وأنَّ اجتناب الذنوب والورع عن المحارم، هو شرط النهل منها والانتفاع ببركاتها. المجموعة الثالثة«
آداب شهر رمضان»: وتشمل الآداب الّتي تعدّ رعايتها شرطا لبلوغ الاستفادة القصوى من الضيافة الإلهية والتوفّر على الكمال فيها، بحيث بادرنا إلى استقصاء جميع العناصر الّتي تنطوي عليها النصوص الإسلامية ممّا له علاقة بتحقيق أكبر قدر من الانتفاع بالضيافة الإلهية. لكن ينبغي
الانتباه إلى الطابع الاستحبابي لهذه الآداب، ومن ثَمَّ فإنَّ لكلّ إنسان أن يستفيد منها بقدر استعداده وحاله والفرصة المتاحة له.
•
ليلة القدر، هي أسمى ليالي شهر رمضان المبارك، وأكثرها تألّقا وأعمّها بركات، حيث يصفها
القرآن الكريم بقوله: «لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ». لهذا النصّ القرآني دلالته على البركات الّتي تحملها هذه الليلة الكريمة وما يكتنفها من عطايا وهبات
لأهل المراقبة؛ هذه البركات الّتي تفوق بركات الأعمال الصالحة لألف شهر أي لما يزيد على متوسط عمر الإنسان ! لذلك جاء عن النبي (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم)، قوله: «شَهرُ رَمَضانَ سَيِّدُ الشُّهورِ، ولَيلَةُ القَدرِ سَيِّدةُ اللَّيالي»
.
•
وداع شهر رمضان، للخروج من الضيافة الإلهية آدابه الّتي تختصّ به تماما، كما الدخول إلى دائرة هذه الضيافة الكريمة، وإنَّ رعاية هذه الآداب والالتزام بها يسهم في جبر النواقص الّتي تكتنف مدة إقامة الإنسان في نطاق هذه الضيافة، ويتلافى ما بدر منه من نقاط ضعف وتقصير، وتوفّر له حظا أكبر للاستزادة من بركاتها؛ لما يخدم تقوية بنيته المعنوية ورصيده الروحي. وفاءً بمتطلبات هذه المهمّة، حيث كان أبرز ما يلفت الانتباه على هذا الصعيد ويكتنز الدروس والعبر، هو
سيرة أهل البيت (عليهمالسلام) في وداع شهر ضيافة اللّه.
مراقبات شهر رمضان، المحمدي الري شهري، الشيخ محمد، ص۷-۲۷.