الاختضاب (حكمه التكليفي)
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
لتصفح عناوين مشابهة، انظر
الاختضاب (توضيح) .
الاختضاب مستحبّ عند علمائنا أجمع؛ لدلالة الروايات الكثيرة و
السيرة القطعيّة المستمرّة إلى زماننا عليه.
فعن
الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «أربع من سنن المرسلين:
التعطّر و
السواك و
النساء والحنّاء».
وعن
أمير المؤمنين عليه السلام قال: «الخضاب هدي إلى
محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من السنّة».
وظاهر هاتين الروايتين وغيرهما
استحباب الاختضاب مطلقاً، فلا يختصّ بزمان معيّن ولا بموضع من
البدن .
لكن ورود بعض الروايات باستحبابه في حالات معيّنة ومواضع خاصّة، واخرى بالنهي عنه في بعض الحالات، أدّى إلى
إنكار استحبابه مطلقاً لدى بعض الفقهاء، بل إنكار جوازه أيضاً.
فمن ذلك: ما رواه
أحمد بن أبي عبد اللَّه عن
أبيه رفعه قال: نظر
أبو عبد اللَّه عليه السلام إلى رجل وقد خرج من
الحمّام مخضوب اليدين، فقال له أبو عبد اللَّه عليه السلام: «أ يسرُّك أن يكون اللَّه خلق يديك هكذا؟» قال: لا واللَّه، وإنّما فعلت ذلك لأنّه بلغني عنكم أنّه من دخل الحمّام فليُرَ عليه أثره- يعني الحنّاء- فقال: «ليس ذلك حيث ذهبت، إنّما معنى ذلك إذا خرج أحدكم من الحمّام وقد سلم فليصلّ ركعتين شكراً».
وظاهر كلام الإمام أنّ المراد من
الضمير في «أثره»
أثر الحمّام، وقد فسّره الراوي بالحنّاء فخطّأه الإمام عليه السلام وفسّره
بصلاة الشكر . ونوقش بأنّه محمول على
التقيّة لإنكار المخالفين له، أو على
الإفراط في ذلك، أو على
التشبّه فيه بالنساء بفعل
التخطيط و
النقش .
قال : «وربّما سبق إلى الوهم من هذه الأخبار
اختصاص استحباب
الحنّاء أو جوازه بكونه بعد النورة خاصّة؛ ولذلك أنكر بعض المتعسّفين استحبابه أو جوازه في غير ذلك، وربّما استندوا في ذلك إلى ما رواه
الصدوق في كتاب
معاني الأخبار عن أبيه عن
سعد عن أحمد بن أبي عبد الله عن أبيه رفعه»، وذكر
الحديث ثمّ قال: «والظاهر كما هو
المفهوم من كلام جملة من
الأصحاب أنّه لا اختصاص له بالنورة، ومن
أظهر الأدلّة على ذلك ما رواه الصدوق قدس سره في كتاب
الخصال بسنده فيه عن
أمير المؤمنين عليه السلام قال: «
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم »
»، وذكر الحديث المتقدّم عنه صلى الله عليه و
آله وسلم «فإنّه دالّ بإطلاقه على أنّه في حدّ ذاته من السنن لا بخصوص موضع كالأفراد المعدودة معه، ويظهر ذلك أيضاً من بعض الأحاديث الآتية في فضل
الخضاب واستحبابه كما سنشير إليه إن شاء اللَّه... وأمّا الخبر الذي نقلناه من معاني الأخبار
فالأقرب عندي أنّه إنّما خرج مخرج التقيّة؛ لما عرفت من سياق جملة من الأخبار المتقدّمة من إنكار الناس ذلك، وأنّ
المعروف بين المخالفين بل عامّة الناس- لشهرة
الأمر بين المخالفين- إنكار ذلك... ويمكن حمله على الإفراط و
المداومة للرجل، بل ظاهره ذلك بقرينة قوله: «خلق يديك»؛ إذ لو كان اللون خلقيّاً لدام... وربّما احتمل بعض أيضاً كون المتحنّي فعل بالحنّاء ما يشبه النساء من التخطيط والنقش بالحنّاء، قال: وقد ورد النهي عن التشبُّه بالنساء وذمّه، فلعلّ الإنكار كان لذلك... أقول: والكلّ عندي بمحلٍّ من
التكلّف الذي لا ضرورة إليه بعد ما ذكرناه، وانطباق سياق الخبر على هذه الاحتمالات على غاية من البعد».
وكيف كان فإنّ الاختضاب مستحبّ في نفسه وإن تركه
الإمام علي عليه السلام لخصوصيّة فيه كشوقه إلى
الشهادة و
انتظاره تحقّق نبوءة رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم باختضاب لحيته بدم رأسه.
فعن
عبد اللَّه بن سنان عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «خضب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يمنع عليّاً إلّا قول رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: تخضب هذه من هذه، وقد خضب
الحسين و
أبو جعفر عليهما السلام ».
وعن
الأصبغ بن نباتة قال: قلت لأمير المؤمنين عليه السلام: ما منعك من الخضاب وقد اختضب رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: «انتظر أشقاها أن يخضب لحيتي من دم رأسي بعهد معهود أخبرني به حبيبي رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم».
وعن
حفص الأعور قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن خضاب الرأس واللحية أ مِن السُنّة؟ فقال: «نعم»، قلت: إنّ أمير المؤمنين عليه السلام لم يختضب، قال: «إنّما منعه قول رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ هذه ستخضب من هذه».
وفي بعض الروايات ما يدلّ على أنّ
امتناعه كان لمصابه برسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، ففي
المرسل عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قيل له: لو غيّرت شيبك يا أمير المؤمنين، فقال:«الخضاب زينة، ونحن قوم في
مصيبة » يريد برسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم.
ولا
منافاة بين ما دلّت عليه هذه الروايات وما دلّ على استحباب الاختضاب في نفسه؛ لأنّه إنّما لم يفعل لخصوصيّة تعود إلى شخصه، مع أنّ الرواية الأخيرة واردة في ظرف خاصّ هو قرب
وفاة رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، فلا دلالة لها على
أصل الحكم.
نعم، ما ورد في رواية اخرى من أنّ امتناعه كان
لانتفاء الغرض من الاختضاب قد ينافي استحبابه؛ إذ روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه سئل عن قول رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: غيّروا الشيب، ولا تشبّهوا باليهود، فقال: «إنّما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك والدين قُلٌّ، وأمّا الآن وقد اتّسع نطاقه وضرب بجرانه فامرؤ وما اختار»،
فإنّها تدلّ على أنّ الأمر بالاختضاب كان لمصلحة اقتضتها أوضاع ذلك الزمان وهي غير موجودة فعلًا، فلا استحباب في الاختضاب.
كما ينافيه أيضاً ما رواه
حنّان بن سدير عن أبيه قال: دخلت أنا وأبي وجدّي وعمّي حمّاماً
بالمدينة ، فإذا رجل في بيت
المسلخ ... فقال (لجدّي): «يا كهل ما يمنعك من الخضاب؟» فقال له جدّي: أدركتُ من هو خير منّي ومنك لا يختضب، قال: فغضب لذلك حتّى عرفنا غضبه في الحمّام، قال: «ومن ذاك الذي هو خير منّي؟» فقال: أدركت
علي بن أبي طالب عليه السلام وهو لا يختضب، قال: فنكّس رأسه وتصابّ عرقاً فقال: «صدقت وبررت»، ثمّ قال: «يا كهل إن تختضب فإنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم قد خضب وهو خير من عليّ، وإن تترك فلك بعليّ سنّة»، قال: فلمّا خرجنا من الحمّام سألنا عن الرجل فإذا هو
علي بن الحسين ومعه
ابنه محمّد ابن علي عليهما السلام ؛
ولذا قال الشهيد الأوّل: «يستحبّ الخضاب تأسّياً بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويجوز تركه تأسّياً بعليّ عليه السلام».
وقد يتغيّر حكم الخضاب بطروّ بعض العناوين عليه، فيحرم- مثلًا- للمحتدّة وبقصد
التدليس ، ويكره للحائض والجنب والمحرم للزينة، كما أنّه قد يشتدّ الاستحباب ويضعف. وسيأتي بحث كلّ ذلك.
الموسوعة الفقهية، ج۷، ص۳۴۶-۳۴۹.