الانفراد في المعيشة
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
قد يقع البحث في حكم
العزلة والانفراد في المعيشة، في مقابل
المعاشرة والاختلاط مع الناس، ولعلّ كثرة الروايات الواردة في أفضليّة
الاعتزال حمل البعض على
إطلاق الحكم في أفضليّته من دون تفصيل أو من دون التدبّر في ما ورد من النصوص في الحثّ على قضاء حوائج الإخوان،
والسعي في طلب العلم،
وأنّ التفقّه في الدين لا يكون إلّامن خلال
الاختلاط بأهل العلم والتعلّم منهم، وكذلك النصوص الصريحة في أنّ الناس لابدّ لبعضهم من بعض.
والأولى حمل الروايات التي رجّحت العزلة على ترك فضول الصحبة
والاجتماع بمجلس السوء والخوض مع الخائضين واعتزال أهل الدنيا والراغبين فيها، أو أنّها ناظرة إلى فترات أو أزمنة خاصّة كان قد استولى فيها
الظلم والجهل واستهين فيها بأهل العلم، فيكون اعتزالهم الناس أولى لهم من الاختلاط، إلّاأنّ هذا لا يمكن تعميمه على كلّ زمان وظرف، بل لابدّ من التفصيل في
رجحان الاختلاط أو العزلة بحسب الجلساء أو بحسب من يعاشرهم، وبحسب الغايات التي يرجوها المكلّف، وإلّا فإنّ من آفات العزلة والانفراد عن الناس فوات التعلّم والعبادة،
والتقوى تفتقر إليه، وكذا
التعليم فهو أولى أيضاً إن كان في علم الآخرة وترويج أحكام الدين، حيث ورد عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا ظهرت
الفتنة وسكت العالم فعليه لعنة اللَّه».
وكذلك من آفات العزلة فوات ثواب
إقامة الجمعة والجماعة ونحوها، وحقوق الاخوان كعيادة المرضى،
وتشييع من يتوفّى منهم،
واكتساب التجارب التي تتعلّق بها مصلحة المكلّف في الدارين.
وفي رواية
خيثمة عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «أبلغ موالينا السلام، وأوصهم بتقوى اللَّه والعمل الصالح، وأن يعود صحيحهم مريضهم، وليعد غنيّهم على فقيرهم، وأن يشهد حيّهم جنازة ميّتهم، وأن يتلاقوا في بيوتهم، وأن يتفاوضوا علم الدين؛ فإنّ ذلك حياة لأمرنا...».
وفي رواية
مرازم ، قال: قال أبو عبد اللَّه عليه السلام: «عليكم بالصلاة في المساجد، وحسن الجوار للناس، وإقامة
الشهادة ، وحضور الجنائز، إنّه لابدّ لكم من الناس، إن أحداً لا يستغني عن الناس حياته، والناس لابدّ لبعضهم من بعض».
هذا وهناك بعض الموارد الجزئية ورد بيان مرجوحية الانفراد فيها، وهي تعدّ مظاهر جزئية للانفراد في
المعيشة على مستوى بعض الدوائر التطبيقية الضيّقة، وهي:
ورد في النصوص
كراهة مبيت الرجل ونومه منفرداً:
منها: رواية
سماعة بن مهران ، قال:سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن الرجل يبيت في بيت وحده، فقال: «إنّي لأكره ذلك، وإن اضطرّ إلى ذلك فلا بأس ولكن يُكثر ذكر اللَّه في منامه ما استطاع».
ومنها: ما رواه
إبراهيم بن عبد الحميد عن
أبي الحسن موسى عليه السلام قال: «ثلاثة يتخوّف منها
الجنون ... والرجل ينام وحده».
ومنها: ما رواه
علي بن جعفر عن أخيه عليه السلام قال: سألته عن الرجل هل يصلح له أن ينام في البيت وحده؟ قال:«تكره الخلوة وما احبّ أن يفعل».
ورد في النصوص كراهة أن يأكل الشخص وحده، كما في رواية عن الإمام الصادق عن آبائه عليهم السلام- في وصيّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام- قال: «... يا
علي ، لعن اللَّه ثلاثة: آكل زاده وحده...».
وقد ذكر بعض الفقهاء بأنّ ما في الأخبار من
اللعن في المقام يمكن أن يكون معناه أنّه لا يعطي منه المحتاجين ما يسدّ رمقهم، أو يكون عدم
الإعطاء من جميع الزاد مكروهاً، أو الأكل وحده مكروهاً، وذكر اللعن
للمبالغة كالنائم وحده.
صرّح بعض الفقهاء بكراهة سفر الشخص وحده؛
استناداً إلى ما ورد من النصوص في ذلك، حيث جاء في الرواية المتقدّمة «... يا علي، لعن اللَّه ثلاثة... وراكب الفلاة وحده...».
وقد حمل على نحو ما تقدّم في الآكل وحده، ولعلّه لما فيه من المعرضية للتهلكة أو لأضرار اخرى في تلك الأزمنة، بناءً على أنّ ذكر اللعن هو للمبالغة في الكراهة، كما جاء في رواية عن الإمام الكاظم عليه السلام- في
وصية رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام-:«لا تخرج في سفر وحدك؛ فإنّ الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، يا علي، إنّ الرجل إذا سافر وحده فهو غاوٍ، والاثنان غاويان، والثلاثة نفر وفي رواية «سفر» بدل «نفر».
».
ولو اتّفق
الاضطرار إلى السفر وحده فقد جاء في رواية
عيسى بن عبد اللَّه القمّي عن أبي عبد اللَّه عليه السلام- في حديث- قال: «ومن يخرج في سفر وحده فليقل: ما شاء اللَّه، لا حول ولا قوّة إلّاباللَّه، اللهمّ آنس وحشتي، وأعنّي على وحدتي، وأدّ غيبتي».
وبناءً على ما تقدّم أفتى جمع من الفقهاء
باستحباب اتّخاذ الرفيق في السفر.
الموسوعة الفقهية، ج۱۸، ص۳۷۷-۳۸۰.