التوكيل في الإبراء
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
ولتفصيل أكثر انظر
الإبراء (توضيح)
وهو عدّ
الإبراء من الامور القابلة
للنيابة والوكالة.
الظاهر عدم
الخلاف بين الفقهاء في عدّ
الإبراء من الامور القابلة للنيابة
والوكالة ، فيصحّ التوكيل فيه بشروط الوكالة المقرّرة في محلّها، كما صرّح بذلك جمع من الفقهاء
كالشيخ الطوسي والمحقق الحلّي والعلّامة الحلّي والمحقق الكركي والمحقّق النجفي والسيّد اليزدي والسيّد
الإمام الخميني .
وأطلق آخرون صحّه التوكيل والوكالة بنحو يشمل التوكيل في الإبراء أيضاً.
وعلى ضوء ذلك يصحّ للدائن مثلًا أن يوكّل شخصاً في القيام بابراء مدينه عن الدين، سواءً كان التوكيل عامّاً يشمل
الإبراء بعمومه أم كان خاصّاً بالابراء.
والدليل على ذلك ما يدلّ على صحّة الوكالة والنيابة في العقود والإيقاعات، بل وفي كلّ التصرفات الانشائية القابلة للانتساب إلى الشخص بالتوكيل والنيابة والتي منها الإبراء
والإسقاط للحق، ولا يوجد دليل خاصّ يمنع عن التوكيل في الإبراء، كما لا يوجد دليل خاص يدلّ على أنّ من شروط إبراء الدائن مدينه مباشرته شخصيّاً لعملية الإبراء.
الظاهر عدم الخلاف بين الفقهاء في أنّ التوكيل في الخصومة لا يُعدّ عندهم توكيلًا في الإبراء ولا إذناً فيه، فلو وكّل الدائن شخصاً للقيام بمخاصمة المدين لم يكن للوكيل الحق في إبراء المدين عن الدين، فلو أبرأه- والحال هذه- كان الإبراء لاغياً باطلًا.
وقد صرّح بذلك جمع من الفقهاء، قال العلّامة الحلّي: «الوكيل بالخصومة لا يملك
الصلح ، ولا الإبراء منه، ولا نعلم فيه خلافاً؛ لأنّ الاذن في الخصومة لا يقتضي شيئاً من ذلك».
وقال أيضاً: «وليس التوكيل بالخصومة إذناً في
الاقرار ، ولا الصلح ولا الإبراء».
وقال المحقق الكركي- في شرح العبارة الثانية للعلّامة الحلّي-: «لعدم دلالته على شيء من ذلك باحدى الدلالات الثلاث».
وقال
المقدس الأردبيلي في شرح عبارة العلّامة: «لأنّ الوكالة ما اقتضت شيئاً من ذلك، وهو ظاهر».
وقال السيّد
الإمام الخميني : «الوكيل بالخصومة لا يملك الصلح عن الحق أو
الإبراء منه، إلّا أن يكون وكيلًا في ذلك أيضاً بالخصوص».
الظاهر عدم الخلاف بينهم في أنّ التوكيل في البيع ليس توكيلًا في الإبراء من الثمن ولا إذناً فيه، فلو أنّ مالك الدار مثلًا وكّل شخصاً للقيام ببيع داره لم يكن للوكيل الحق في إبراء المشتري من الثمن، فلو أبرأه- والحال هذه- بدون إذن الموكّل كان الإبراء لاغياً باطلًا، وقد صرّح بذلك جمع من الفقهاء، قال
الشيخ الطوسي : «فأمّا الإبراء منه (من الثمن) فليس للوكيل ذلك، وإذا أبرأ الوكيل بغير إذن الموكّل لم يصحّ؛ لأنّ الثمن لا يملكه الوكيل، فلا يصحّ منه الإبراء».
وقال
ابن إدريس : «ولا يصحّ إبراء الوكيل من دون الموكّل من الثمن الذي على المشتري».
وقال
ابن سعيد الحلّي : «ومن وكّل غيره في
البيع والشراء لم يكن... ولا يصحّ منه إبراء المشتري من الثمن».
وقال العلّامة الحلّي: «ولا يملك الإبراء من الثمن».
وقال المحقق الكركي في شرح عبارة العلّامة الحلّي ما حاصله: أنّ الوكالة لا تتناول الإبراء من الثمن؛ لأنّه مفهوم آخر، ولا تدلّ الوكالة عليه بشيء من الدلالات.
في الجنايات الموجبة للقصاص إذا وكّل وليّ الدم- الذي هو صاحب الحق في القصاص- شخصاً للمصالحة مع الجاني على أن يدفع الجاني ما لا يملكه
المسلم ولا يقع عوضاً في المعاملة-
كالخمر والخنزير- فهل يعتبر التوكيل في الصلح هذا توكيلًا له في
إسقاط القصاص عن الجاني وإبرائه عنه بدون عوض، فاذا أبرأ هذا الوكيل الجاني عن القصاص صحّ الإبراء وسقط عنه القصاص وحصل
العفو ، أم لا يعتبر التوكيل في
الصلح توكيلًا في الإبراء، فاذا وقع الإبراء عن القصاص من قبل الوكيل كان لاغياً وباطلًا فلا يسقط القصاص عن الجاني بذلك ولا يحصل العفو عنه؟
استشكل العلّامة الحلّي في صحّة هذا
الإبراء وحصول العفو به حيث قال: «ولو وكّله على الصلح عن الدم على خمر ففعل حصل العفو كما لو فعله الموكّل، ولو صالح على خنزير، أو أبرأ فإشكال».
وقد وضّح المحقق الكركي الاشكال بما مضمونه: إنّه نابع من جهتين متقابلتين:
فمن جهة نلاحظ أنّ صاحب القصاص لمّا رضي بجعل الخمر أو الخنزير عوضاً عن القصاص وهما ممّا لا يملكه
المسلم كان في الواقع قد رضي باسقاط القصاص بلا عوض، فالتوكيل في الصلح من قبله بمنزلة التوكيل في إسقاط القصاص عن الجاني وإبرائه بأيّ طريق كان، فيصحّ الإبراء الصادر من الوكيل، ويسقط القصاص عن الجاني، ويحصل العفو.
ومن جهة اخرى نلاحظ أنّ مقتضى الوكالة هو أن يصالح الوكيل الجاني عن القصاص بالخمر عوضاً عنه، فهو وكيله في العفو عن القصاص بهذا الشكل، وليس مقتضى الوكالة أن يعفو عن القصاص بأيّ طريق كان، فالعفو والإبراء الصادر منه يعتبر كالعفو الصادر من الفضولي لا يصحّ، ولا يوجب سقوط القصاص عن الجاني ما لم يُجِز صاحب القصاص ذلك.
ثمّ قال المحقق الكركي: «وضعف الأوّل ظاهر».
هل يشترط في صحّة التوكيل في الإبراء علم الموكّل بالمبلغ المبرأ منه؟
وهل يشترط في صحّته علم الوكيل بذلك؟ وهل يشترط في صحّته علم من عليه الحق بذلك؟
أمّا علم الموكّل فقد يظهر من بعض الفقهاء كالعلّامة في بعض كتبه اشتراطه حيث قال: «والتوكيل بالابراء يستدعي علم الموكّل بالمبلغ المبرأ عنه».
ولكنه في البعض الآخر من كتبه صرّح بعدم الاشتراط، بل قد يظهر من كلامه
الاجماع على ذلك حيث قال: «ولو قال: وكّلتك في أن تبرئه من الدين الذي لي عليه ولم يعلم الموكّل قدره ولا الوكيل صحّ أيضاً عندنا»؛
إذ قد يستظهر من كلمة «عندنا» إجماع الطائفة.
وممّن صرّح بعدم الاشتراط أيضاً المحقق الكركي حيث نقل تصريح العلّامة الحلّي هذا وقال: «وهو الذي يقتضيه النظر».
وممّن صرّح أيضاً بعدم الاشتراط
المحقّق النجفي قائلًا: «لا دليل على اعتبار علم الموكّل في الوكالة على الإبراء».
وممّن صرّح أيضاً بعدم الاشتراط
السيّد اليزدي حيث قال: «لو وكّله في إبراء ماله من الدين على شخص صحّ وإن لم يعلم هو ولا الوكيل مقدار ذلك الدين».
هذا، وقد نزّل المحقق الكركي كلام العلّامة الحلّي الأوّل على فرض التوكيل في
الإبراء من بعض الدين، فإنّه يشترط حينئذٍ علم الموكّل بالقدر الذي يريد من الوكيل إبراء المدين منه، أمّا في فرض التوكيل في الإبراء من كلّ الدين فلا يشترط علم الموكّل، باعتبار أنّه بمنزلة التوكيل في الإبراء من كل قليل وكثير، الذي صرّح العلّامة الحلّي نفسه في ذيل ذلك الكلام بصحّته.
ولكن المحقّق النجفي لم يرتضِ كلام
المحقق الكركي قائلًا: «وهو كما ترى».
وأمّا علم الوكيل فلم نعثر على من اشترطه، بل نجد التصريح بعدم اشتراطه في كلام العلّامة الحلّي،
بل قد يستفاد من كلامه
الاجماع على عدم الاشتراط،
كما أنّه يستفاد عدم الاشتراط أيضاً من كلام المحقق الكركي
والمحقّق النجفي،
ونجد أيضاً التصريح بعدم الاشتراط في كلام السيّد اليزدي.
فلو وكّله في إبراء دينه من دون أن يعلم الوكيل مقدار الدين صحّ التوكيل استناداً إلى إطلاقات أدلّة صحّة الوكالة وعموماتها، وعدم وجود دليل خاصّ يدلّ على اشتراط علم الوكيل بمبلغ الدين ولا مانعية جهله به، فإنّه لا يلزم منه غرر على أحد على أنّ دليل شرطية عدم الغرر أو معلومية المقدار مخصوص بالبيع أو المعاوضات لا الوكالة.
وأمّا علم من عليه الحقّ فقد صرّح
العلّامة الحلّي في بعض كتبه بعدم اشتراطه،
وفي البعض الآخر منها جعل الاشتراط وعدمه مبنيّين على اعتبار الإبراء محض إسقاط أو اعتباره تمليكاً. فعلى القول بأنّه
إسقاط تكون النتيجة عدم اشتراط علم من عليه الحق بالمبلغ
المبرأ منه، وعلى القول بأنّه تمليك يشترط علمه به كما يشترط- في
الهبة - علم المتّهب بمقدار الهبة.
كما قد صرّح أيضاً بعدم اشتراطه المحقّق الكركي حيث قال: «وأمّا علم من عليه الحق فليس بشرط أصلًا، وربما قيل باشتراطه بناءً على أنّ الإبراء تمليك لا إسقاط».
وقد يستفاد عدم الاشتراط من كلام المحقّق النجفي أيضاً.
والمستند ما تقدم من عدم دليل على مانعية الجهل في المقام، بل يستشعر من كلام المحقق الكركي أنّه حتى على القول بكون الإبراء تمليكاً لا إسقاطاً أيضاً لا يشترط علم المبرأ بمبلغ الدين حيث عبّر عنه بقوله: «وربما قيل باشتراطه»، وهذا هو الصحيح؛ لأنّه لا دليل على مانعية الجهالة حتى على هذا التقدير؛ لعدم لزوم الغرر، وعدم صدق عنوان الهبة عليه حتى إذا اشترطنا علم المتّهب بمقدار الهبة.
إذا وكّل الدائن مدينه في إبراء نفسه من الدين فالظاهر صحّة هذا التوكيل عند الفقهاء، وقد صرّح به جمع منهم الشيخ الطوسي،
وابن سعيد
والعلّامة الحلّي.
قال الشيخ الطوسي: «فأمّا إذا وكّل (المضمون له) الضامنَ في إبراء نفسه... فالأقوى انّه يصحّ ذلك؛ لأنّه استنابة في إسقاط الحق عن نفسه، كما لو وكّل العبد في اعتاق نفسه».
وقال العلّامة الحلّي: «ولو كان له على رجل حقّ فوكّل صاحب الحق من عليه الحق في إبراء نفسه صحّ؛ لأنّه وكّله في إسقاط حقّ عن نفسه فوجب أن يصحّ، كما لو وكّل العبدَ في
إعتاق نفسه، والمرأة في
طلاقها ، وهو المشهور عند الشافعية، وقال بعضهم: لا يصحّ؛ لأنّه لا يملك إسقاط الحق عن نفسه بنفسه، كما لو كان في يده عين مضمونة عليه، فإنّه لا يصحّ أن يوكّله في إسقاط
الضمان عن نفسه.
وهو ضعيف؛ لأنّه يخالف إسقاط الحق عن الذمّة؛ لأنّ ذلك لا يسقط إلّا بالقبض، ولا يكون قابضاً من نفسه، وهنا يكفي مجرّد الإسقاط».
وقد تقدم عن
الشهيد الأوّل في قواعده أنّ تولّي
المبرأ الإبراء عن
المبرئ بوكالته جائز على القول بكونه إسقاطاً، وعلى القول بكونه تمليكاً يبنى على جواز تولّي طرفي العقد شخص واحد.
ولا فرق في صحّة هذا التوكيل بين أن يعيّن الدائن المدين فيوكّل المدين المعيَّن في إبراء نفسه، وبين أن يطلق بنحو يشمل كل مدين له، فيوكّل المدين مطلقاً في إبراء نفسه، فالتوكيل صحيح في كلا الفرضين كما صرّح به العلّامة حيث قال: «ولو وكّل غريماً له في إبراء نفسه صحّ، سواءً عيّن أو أطلق».
إذا وكّل الدائن مدينه في إبراء غرمائه، فهل إنّ هذا التوكيل يشمل الوكيل نفسه أيضاً بوصفه أحد الغرماء فيحقّ له أن يُبرئ نفسه ويصحّ الإبراء حينئذٍ وتفرغ ذمّته من الدين، أم أنّه لا يشمل نفسه فلا يدخل هو في جملة الغرماء فيه احتمالان- كما قال العلّامة الحلّي
- بل قولان:
عدم الشمول، وهو الذي اختاره
الشيخ الطوسي حيث قال: «إذا وكّله في إبراء غرمائه لم يدخل هو في الجملة... لأنّ المذهب الصحيح أنّ المخاطَب لا يدخل في أمر المخاطِب إيّاه في أمر غيره، فإذا أمر اللَّه تعالى نبيّه بأن يأمر امّته أن يفعلوا كذا لم يدخل هو في ذلك الأمر».
وجعله ابن سعيد قولًا حيث قال: «فإن وكّله في إبراء غرمائه وكان منهم قيل: لا يجوز إبراؤه نفسه».
ووافق
العلّامة الحلّي على ذلك في بعض كتبه وجعله الأقرب.
وقال
المحقق الكركي : إنّ فيه قوّةً، واستدل عليه بأنّ المتبادر إلى الفهم عرفاً عدم الشمول، فإنّ كون الشخص مبرَأً ومُبرِئاً لا ينتقل الذهن إليه عند
إطلاق اللفظ، ولا يتفاهمه أهل العرف، ولهذا لا يجوز له البيع من نفسه إذا وكّله في بيع داره مثلًا إلّا بالاذن، والأصل البقاء.
الشمول، وهو الذي اختاره العلّامة الحلّي في البعض الآخر من كتبه،
واختاره ولده
فخر المحققين أيضاً.
وأجاب
العلّامة الحلّي عن استدلال
الشيخ الطوسي المتقدم بما مضمونه: إنّنا أوّلًا: نمنع من عدم دخول المخاطَب في أمر المخاطِب إيّاه في أمر غيره، فإذا أمر اللَّه تعالى نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم أن يأمر امّته بشيء، فهو صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً داخل في ذلك الأمر ومشمول له. وثانياً: أنّ ما ذكره لا يساوي ولا يشابه صورة النزاع، بل المشابه لصورة النزاع أن يقول اللَّه تعالى: إنّي آمر بكذا..
ومن الواضح حينئذٍ دخول
النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في الأمر وشموله له.
واستدلّ فخر المحققين على الشمول بوجود المقتضي- وهو عموم الصيغة- وانتفاء المانع؛ إذ ليس المانع سوى اتّحاد
المبرِئ والمبرَأ ، وهذا ليس مانعاً؛ لعدم منافاته، أي أنّ كونه مبرِئاً لا يتنافى مع كونه مبرَأً وكذا العكس، والتغاير بالاعتبار
كافٍ في النسب.
وقريب منه ما ذكره المحقق الكركي في الاستدلال على هذا الوجه حيث قال: «وجه القرب- أي كون الأقرب الشمول- صلاحية اللفظ لشموله؛ لأنّه عامّ فيجب التمسّك بعمومه؛ لانتفاء المخصّص بناءً على أنّ المخاطب يدخل في عموم الخطاب، ويدخل عليه وجود المقتضي وهو العموم، وانتفاء المانع؛ إذ ليس إلّا كونه مخاطباً، وهو غير صالح للمانعيّة».
إذا وكّل الدائن مدينه المضمون عنه في إبراء الضامن صحّ هذا التوكيل باعتبار أنّ الضمان ينقل الدين من ذمّة المدين إلى ذمّة الضامن، فإذا أصبح المال في ذمّة الضامن بسبب الضمان صحّ التوكيل في إبرائه، وصحّ الإبراء كما صرّح به
الشيخ الطوسي .
وأمّا إذا وكّل الدائن الضامنَ في إبراء المضمون عنه لم يصحّ؛ لأنّه توكيل في إبراء مَن لا دين عليه، لأنّ الضامن أبرأ ذمّة المضمون عنه، فلا محلّ للابراء كما صرّح به الشيخ الطوسي أيضاً.
نعم، هذا يصح بناءً على كون
الضمان من ضم ذمّة إلى ذمّة حيث تكون ذمّة الأوّل أيضاً مشغولة، فيكون توكيل الضامن في
الإبراء موجباً لسقوط كلتا الذمّتين، أمّا الاولى فبالوكالة عن الدائن، وأمّا الثاني فلانتفاء أصل الدين فيسقط الفرع أيضاً.
الموسوعة الفقهية، ج۲، ص۳۸۸-۳۹۶.