الطلاق في الإيلاء
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
تقدّم أنّه بعد
انقضاء مدّة التربّص يتخيّر المؤلي بين الفيئة والطلاق، فإن فاء فهو، وإلّا فيجب عليه
الطلاق ، ولا تحصل الفرقة
والبينونة بمجرّد انقضاء المدّة وعدم الفيئة، كما صرّح بذلك الفقهاء.
قال
الشيخ الطوسي : «ولا تبين بطلقة إذا انقضت المدّة».
وقال
المحقّق الحلّي : «فإذا انقضت لم تطلّق بانقضاء المدّة».
بل نفس تعبيرهم بتخييره بعد انقضاء المدّة بين الفيئة والطلاق،
ظاهر في هذا المعنى؛ إذ حصول الطلاق بنفسه بعد انقضاء المدّة يخالف
التخيير المزبور، مضافاً إلى قولهم بعد ذلك: «وإن امتنع من الأمرين يضيّق عليه حتى يفيء أو يطلّق»، فإنّه كالصريح في عدم حصول البينونة بنفس انقضاء المدّة وعدم
اختيار الفيء من دون طلاق، بل ظاهر نسبتهم الخلاف فيه إلى بعض العامة عدم الخلاف فيه عند الإمامية،
بل لعلّ ذلك صريح المحقّق النجفي.
حيث قال: «فإذا انقضت الأربعة أشهر لم تطلّق بانقضاء المدّة عندنا. خلافاً لأبي حنيفة. ويدلّ عليه قوله تعالى: «فَإِن فَاءُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ• وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ»،
حيث دلّ على بقاء تخييره بينهما بعد انقضاء المدّة، وهو ينافي وقوع الطلاق بمجرّد انقضاء المدّة.
وكذلك الروايات الواردة في حكم
الإيلاء ،
فإنّها كالصريح في بقاء التخيير بعد انقضاء المدّة، مضافاً إلى أنّه مقتضى
القاعدة من عمومات أدلّة الزوجية
واستصحاب بقائها بعد انقضاء المدّة وعدم
ارتفاعه بغير الطلاق.
نعم، قد يظهر من خبر
أبي بصير عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام: «في الرجل يؤلي من امرأته، فمكث أربعة أشهر فلم يفئ، فهي تطليقة، ثمّ يوقف، فإن فاء فهي عنده على تطليقتين، وإن عزم فهي بائنة منه».
إلّاأنّه لابدّ من طرحه أو حمله على أنّه إذا طلّق بعد الأربعة أشهر فهي تطليقة رجعيّة، فإن فاء- أي راجعها- كانت عنده على تطليقتين، وإن عزم حتى خرجت من العدّة فقد صارت بائنة لا يملك رجعتها إلّا بعقد جديد ومهرٍ مسمّى.
قال المحقّق النجفي: «(وهذا الحمل) وإن بعُد إلّاأنّه خير من الطرح الذي لابدّ منه مع فرض عدم تأويله؛
لاتّفاق الكتاب والسنّة القطعية
والإجماع على خلافه».
بل مقتضى النصوص والفتاوى أنّه لو فرض عدم طلاق الزوج لها بعد انقضاء المدّة ليس للحاكم التصدّي للطلاق
ابتداءً ، بل في
الجواهر : «بلا خلاف أجده فيه»؛
لفحوى النصوص الدالّة على حبسه وتضييق
الأمر عليه حتى يختار أحد الأمرين، كما مرّ، مضافاً إلى العمومات الواردة في باب الطلاق، من أنّ الطلاق بيد الزوج ومن أخذ بالساق،
كما استدلّ بذلك بعض الفقهاء.
نعم، إن استدام على
امتناعه وإضراره بالمرأة فرّق بينهما
الإمام بإجراء صيغة الطلاق ولايةً عليه من باب أنّ الحاكم ولي الممتنع- كما في غير المقام- بل في بعض أخبار الإيلاء التصريح به، ففي مضمر سماعة، قال: سألته عن رجل آلى من امرأته، فقال: «... وإن لم يفئ بعد أربعة أشهر حتى يصالح أهله أو يطلّق جُبر على ذلك، ولا يقع طلاق فيما بينهما حتى يوقف وإن كان بعد الأربعة أشهر، فإن أبى فرّق بينهما الإمام».
ثمّ لا يخفى أنّ
الإجبار المزبور لا ينافي صحّة الطلاق؛ لعدم شمول حديث الرفع لمثل هذا
الإكراه ، كما ثبت في محلّه.قال
الشهيد الثاني : «واعلم أنّ إجباره على أحد الأمرين لا ينافي صحّة الطلاق؛ لأنّه إجبار بحقّ، والمنافي غيره...».
وقال
الفاضل الأصفهاني : «ولا ينافي الإجبار الشرعي عيناً أو تخييراً وقوع الطلاق كما سبق، وقد روي أنّه إن أبى فرّق بينهما الإمام، ويمكن أن لا يريد به الطلاق».
ثمّ إنّ الطلاق المزبور حيث يقع إنّما يقع رجعيّاً، لا بائناً،
كما صرّح به عدّة من الفقهاء، ونسبه المحقّق في
الشرائع إلى الأشهر،
والسيّد في
نهاية المرام إلى معظم الأصحاب،
وفي
المسالك إلى المشهور،
بل في الجواهر:«لم يُعرف المخالف بعينه وإن أرسله بعض».
ولعلّه لذلك جزم به العلّامة في
القواعد من دون ذكر احتمالٍ آخر أو
استشكالٍ فيه.
قال الشيخ الطوسي في
المبسوط : «فإذا طلّق هو عندنا، أو طلّقه السلطان عندهم، كانت الطلقة رجعيّة إن كانت بعد الدخول، وقال بعضهم: تكون بائنة. وإنّما قلنا ذلك لقوله تعالى: «وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ»
ولم يفرّق(بين مقام ومقام)، فإن لم يراجع حتى انقضت العدّة بانت، وزالت الزوجيّة».
وقال في
النهاية : «وهو أملك برجعتها ما لم تخرج من العدّة».
والدليل عليه عموم الآية والأخبار الواردة في باب الطلاق التي جعلت
الأصل في الطلاق أن يكون رجعياً، كما صرّح به
الشهيد الثاني حيث قال: «لوجود المقتضي له وهو وقوعه بشرائط الرجعي،
وانتفاء المانع؛ إذ ليس إلّاكونه طلاق مؤلٍ مأموراً به تخييراً، وهو لا يقتضي البينونة».
وقال المحقّق النجفي: «لأنّه الأصل في الطلاق؛ ولذا احتاج البائن إلى سبب يقتضيه».
ومرادهم من الأصل والمقتضي عموم مثل رواية
ابن بكير وغيره عن
أبي جعفر عليه السلام أنّه قال: «الطلاق الذي أمر اللَّه عزّوجلّ به في كتابه، والذي سنّ
رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم أن يخلّي الرجل عن المرأة، فإذا حاضت وطهرت من محيضها، أشهد رجلين عدلين على تطليقه وهي طاهر من غير جماع، وهو أحقّ برجعتها ما لم تنقضِ ثلاثة قروء...».
وخصوص الأخبار الواردة في باب الإيلاء، كرواية
بريد بن معاوية عن الإمام الصادق عليه السلام: «... فإذا مضت أربعة أشهر وقف، فإمّا أن يفيء فيمسّها، وإمّا أن يعزم على الطلاق فيخلّي عنها حتى إذا حاضت وتطهّرت من محيضها طلّقها تطليقة قبل أن يجامعها بشهادة عدلين، ثمّ هو أحقّ برجعتها ما لم تمض الثلاثة الأقراء».
ورواية
أبي مريم عن أبي جعفر عليه السلام قال: «المؤلي يوقف بعد الأربعة الأشهر، فإن شاء
إمساك بمعروف أو تسريح
بإحسان ، فإن عزم الطلاق فهي واحدة، وهو أملك برجعتها».
نعم، قد يظهر من بعض الأخبار كون الطلاق بائناً كما في صحيح
منصور بن حازم عن الإمام الصادق عليه السلام: «المؤلي إذا وقف فلم يفئ طلّق تطليقة بائنة»،
وروايته الآخرى: «إنّ المؤلي يجبر على أن يطلّق تطليقة بائنة».
ولكن هذا الحديث مع شذوذه قابل للحمل، إمّا على من اختار الطلاق البائن؛ إذ هو مخيّر بين أن يطلّقها بائناً ورجعياً،
أو على من يرى الإمام إجباره على أن يطلّق تطليقة بائنة بأن يباريها ثمّ يطلّقها، أو أن يكون مختصاً بمن كانت عند الرجل على تطليقة واحدة، فيكون طلاقها بائناً،
واحتمل
الشيخ الحرّ العاملي أن يكون لفظ البائن مستعملًا بالمعنى اللغوي، حيث إنّ كلّ طلاق فهو بائن يوجب التحريم على الزوج ما لم يرجع.
بل في
الكافي بعد ذكره رواية منصور ابن حازم السابقة، وعن غير منصور: «أنّه يطلّق تطليقة يملك الرجعة»، فقال له بعض أصحابه (أي أصحاب جميل أو ابن أبي عمير): إنّ هذا منتقض (أي له معارض)، فقال: «لا، التي تشكو فتقول:يجبرني ويضرّني ويمنعني من الزوج، يجبر على أن يطلّقها تطليقة بائنة، والتي تسكت ولا تشكو، إن شاء طلّقها تطليقة يملك الرجعة».
وهذا شاهد جمع.ثمّ إنّ ما ذكر من وقوع الطلاق رجعياً إنّما هو إذا لم يكن هناك ما يقتضي البينونة، وأمّا معها فيقع بائناً كما صرّح به غير واحد،
وذلك كما إذا سبق الطلاق رجعتان، أو كانت هي ممّن لا تحيض أو خالعها، أو باراها.قال المحقّق الحلّي في طلاق الشرائع: «و(طلاق) السنّة تنقسم أقساماً ثلاثة: بائن ورجعيّ وطلاق العدّة، فالبائن ما لا يصحّ للزوج معه الرجعة، وهو ستّة: طلاق التي لم يدخل بها، واليائسة، ومن لم تبلغ المحيض، والمختلعة، والمباراة ما لم ترجعا في البذل، والمطلّقة ثلاثاً بينها رجعتان.
والرجعيّ هو الذي للمطلّق مراجعتها فيه، سواء راجع أو لم يراجع».وقال المحقّق النجفي ذيل الرجعيّ: «بلا خلاف ولا إشكال، وهو ما عدا الستّة المزبورة كتاباً وسنّة وإجماعاً اعتدّت بالأقراء أو الشهور أو الوضع».
الموسوعة الفقهية، ج۱۹، ص۳۶۵-۳۷۰.