الانضباط
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
هو حفظ الشيء بالحزم و
الإحكام و
الإتقان ولزوم الشيء بحيث لا يفارقه .
الانضباط: مصدر انضبط، وهو مطاوع ضبط. ومعنى الضبط: حفظ الشيء بالحزم حفظاً بليغاً مع
الإحكام و
الإتقان .
واستعمله
الفقهاء في نفس معناه اللغوي، ومنه تعبيرهم عن التحديد بالانضباط، حيث يقولون: لا ينضبط، أي لا يخضع لتحديد واضح، فإنّ هذا راجع إلى الحفظ عن إتقان وحزم.
ومنه قول
السيّد الخوئي : «لا معنى للتحديد بما لا انضباط له في نفسه».
وكذلك قولهم في بعض الموارد بعدم انضباط العرف،
بمعنى عدم تحديده بحدّ واضح المعالم، وكذلك قولهم: «عدم انضباط أحوال الناس».
ورد الانضباط في كلمات الفقهاء في عدّة مواضع نشير إليها إجمالًا فيما يلي:
ذكر الفقهاء أنّه يكفي في تحقّق
العادة الوقتية أن يحصل لها الانضباط في الوقت بصورةٍ مّا من الصور، فإذا رأت الدم الأوّل في وقت معيّن، ورأت الدم الثاني بعده بعشرين يوماً، ورأت الدم الثالث بعشرين يوماً كذلك، تحقّقت لها بذلك عادة وقتية.
فإذا اتّفق العدد أيضاً كانت العادة وقتية عددية.
وتفصيله في محلّه.
المعروف بين الفقهاء أنّ المعاملات لابدّ أن تقع على
أمر منضبط محدّد معلوم إمّا بانضباط عقلي أو عرفي من حيث الكمّ والكيف والوزن والمقدار والزمان والمدّة والمكان والمنفعة وغيره على حسب نوع المعاملة ونوع المعقود عليه فيها. كما تحدّثوا عن ذلك مفصّلًا في شرطية معلومية العوضين وغيرهما، على تفصيل ذكر في محلّه. وقد تعرّضوا لبعض موارد الانضباط بعنوانه في مباحث
بيع السلم وفي
المضاربة ونحوها، وإجماله ما يلي:
المبيع في بيع السلم له حالتان:
الاولى: أن لا ينضبط بالوصف على وجهٍ ترتفع جهالته ولا يؤدّي إلى عزّة وجوده، وقد ذكر بعض الفقهاء هنا أنّه لا يصحّ السلَم فيه قطعاً.
نعم، قد يشكّ في بعض أفراده كاللحم- نيّه ومشويّه- والخبز،
وإن نفى الخلاف عن اللحم النيّ والمشوي في
الرياض ،
بل ادّعى
ابن زهرة عليه
الإجماع ،
فإنّه ربّما استشكل في الأوّل- اللحم- بأنّه لا فرق بين الحيوان ولحمه، وبينه وبين الشحم، فإذا جاز فيهما جاز في الآخر.
وفي الثاني- أي الخبز- بأنّ النصوص قد جوّزت قرضه، وأنّه لا بأس بالتسامح فيه، ولو كان ممّا لا ينضبط وصفه فلا يجوز قرضه مضموناً بمثله.
ويجاب عن الأوّل بأنّ الشارع قد كشف عن عدم ضبطه بالوصف، ففي خبر جابر عن
أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن السلف في اللحم، قال: «لا تقربنّه؛ فإنّه يعطيك مرّة السمين، ومرّة التاوي، (التاوي: الهالك.)
ومرّة المهزول، اشتره معاينة يداً بيد».
وعن الثاني بالفرق بين القرض والسلَم؛ فإنّه قد يتسامح في الأوّل- القرض- بما لا يتسامح في الثاني- السلَم- المبني على رفع
الغرر والجهالة.
ومن ذلك- أي ممّا لا ينضبط بالوصف- السلَم في الجلود، فالمشهور عدم جوازه؛ لعدم انضباطها بالوصف.
وقيل: يجوز مع المشاهدة التي تدفع المحذور السابق.
وقد يقال بالصحّة لو فرض
إمكان المعلومية بمشاهدة انموذج يرفع الجهالة، ولا يؤدّي إلى عزّة الوجود.
الحالة الثانية: أن يكون ممّا يمكن ضبطه بالوصف المعلوم بين المتعاقدين وغيرهم، من غير تأديةٍ إلى عزّة الوجود، كالخضر والفواكه، وكذا كلّ ما تنبته
الأرض ، وفي البيض والجوز واللوز، وقد حكموا بصحّة السلم فيه؛ لإمكان ضبطها بالوصف.
لكن ذكر
الشهيد الأوّل أنّه يذكر في الفواكه البلد والنوع والطراوة أو ضدّها، واللون إن اختلف، وفي الزبيب البلد والنوع والكبر والصغر، واللون إن اختلف نوعه والمزيّت أو غيره، وفي التمر البلد والنوع والكبر والصغر والحداثة أو العتاقة، واللون إن اختلف النوع.
وفي الرطب ذلك كلّه إلّا العتاقة، وفي الحنطة البلد والحداثة والعتق واللون والكبر أو الصغر، والصرابة
أو ضدّها.
ولا يشترط ذكر حصاد عام أو عامين، وإن ذكره جاز، وفي الشعير والقطنيّة ذلك كلّه.
والتفصيل في محلّه.
المضاربة من المعاملات التي يكون العمل فيها غير مضبوط، فلا يستحقّ العامل العوض فيها إلّابتمامه كما في الجعالة.
ولا خلاف بين الفقهاء في أنّ من شروط
المزارعة تعيين المدّة، بل لعلّ الإجماع عليه؛ لعموم النهي عن الغرر،
فلو اقتصر على تعيين المزروع من غير ذكر المدّة، ففي
الاكتفاء بذلك عنها وجهان:
الأوّل: أنّه يصحّ؛ لأنّ لكلّ زرع أمداً معتاداً، فيبنى حينئذٍ على العادة ويكتفى به عن ذكر المدّة.
الثاني: أنّه يبطل؛ لأنّ المزارعة عقد لازم، فهو
كالإجارة ، فيشترط فيه تعيين المدّة دفعاً للغرر؛ لأنّ أمد الزرع غير مضبوط.
وهو- مع عدم خلاف محقّق فيه- أشبه باصول المذهب وقواعده.
من الطرق التي ذكرها الفقهاء لتحديد وزن الدرهم أنّه ستّة دوانق، والدانق ثمان حبّات من أوسط حبّ الشعير.
وفي الجواهر: «بلا خلافٍ أجده في شيء من ذلك»،
بل ادّعي عليه الإجماع.
غير أنّ بعضهم ذكر أنّ هذا الإجماع وإن كان مهمّاً إلّا أنّ المقام لا يرجع إلى تشخيص الحكم الشرعي الذي هو من
اختصاصهم ، بل إلى تحديد أمرٍ خارجي، وقوع الخطأ فيه غير عزيز، لا سيّما مع عدم وضوح التسالم،
فقد قال
الطريحي : «
المثقال الشرعي على ما هو المشهور... عبارة عن عشرين قيراطاً، و
القيراط ثلاث حبّات من شعير، كلّ حبّة عبارة عن ثلاث حبّات من الأرز، فيكون بحبّ الشعير عبارة عن ستّين حبّة»، ثمّ قال: «ومنه يعرف ضبط الدرهم الشرعي، فإنّ المشهور أنّ كلّ سبعة مثاقيل عشرة دراهم».
وهو بحساب حبّ الشعير يكون عبارة عن اثنتين وأربعين حبّة شعير، بل ذكر المحدّث البحراني أنّه بعد اعتبار ذلك بالشعير الموجود في زماننا ظهر نقصانه عن الوزن الذي ذكره الأصحاب نقصاناً فاحشاً، ومن ثمّ استظهر كون حبّ الشعير سابقاً أكبر حجماً وأثقل وزناً ممّا وجد لاحقاً.
فلا مجال
للاعتماد على الضبط المذكور؛ لوضوح
اختلاف وزن الحبّ المتوسّط بنحوٍ يكون الفرق شاسعاً في مثل الكرّ، بل الصاع حيث يكثر عدد الحبّات جدّاً، خصوصاً كون هذا التحديد مستفاداً من الفقهاء، ولا دليل على كون تحديدهم مستفاداً من الشارع، نظير تحديدهم الكرّ بالرطل، بل من القريب أن يكون منشأ التحديد في كلماتهم ضبطه بلحاظ بعض أفراد الحبّ مع الغفلة أو
التسامح في الاختلاف المشار إليه سابقاً.
وقد أشار إلى بعض ذلك
العلّامة المجلسي في محكي رسالته في الأوزان، قال: «كون الدرهم على وزن ثمانية وأربعين شعيرة لم يرد في نصٍّ، وإنّما هو عيارٌ أخذه الأصحاب من بعض شعيرات بلادهم، وقد ذكرنا اختلاف الشعيرات بحدّ لا ينضبط التقدير بالنسبة إليه، فقدّرنا بعض الشعيرات بالمثقال الصيرفي فكان مئة واثنتين شعيرة، وبعضها كان مئة وإحدى عشرة شعيرة، وبعضها تسعين، ومع هذا الاختلاف الفاحش كيف يمكن بناء الحكم عليه...».
وممّا ذكرنا يظهر حال ما عن بعضهم من التحديد بحبّ الأرز والخردل.
والتفصيل يراجع في محلّه.
يثبت
القصاص في
الجروح فيما إذا كان مضبوطاً، بأن كان القصاص بمقدار الجرح.
وأمّا إذا كان غير مضبوط فلا يجوز بلا خلافٍ ولا إشكال، بل ادّعي عليه الإجماع بقسميه؛ لأنّه يعتبر ويشترط في القصاص في الجروح عدم تعريض النفس للهلاك، ولا
إتلاف عضو آخر بالسراية، بل يعتبر أن لا يكون أكثر من جرح الجاني وإن لم يكن فيه
تغرير أو إتلاف عضوٍ.
وتدلّ على ذلك الآية الكريمة: «فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ»،
بل يمكن
استفادة ذلك من مفهوم القصاص الوارد في الكتاب والسنّة.
وتؤيّد ذلك
مقطوعة أبان : «الجائفة: ما وقعت في الجوف ليس لصاحبها قصاص إلّا
الحكومة ، والمنقلة: تنقل منها العظام وليس فيها قصاص إلّا الحكومة، وفي المأمومة ثلث الدية ليس فيها قصاص إلّا الحكومة».
ونحوها معتبرة
إسحاق بن عمّار عن جعفر عليه السلام: «أنّ عليّاً عليه السلام كان يقول: ليس في عظم قصاص...».
وأمّا ما في صحيحة
أبي بصير عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: سألته عن السنّ والذراع يكسران عمداً لهما أرش أو قود؟ فقال: «قود...»،
فلابدّ من حملها على ما لا يرجى صلاحه.
والتفصيل في محلّه.
الموسوعة الفقهية، ج۱۸، ص۲۵۹-۲۶۴.