رجوع الأجنبي في الهبة
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
يرجع في
هبة الأجنبي ما دامت العين باقية ما لم يعوض عنها.
(و) يجوز أن (يرجع في هبة الأجنبي ما دامت العين) الموهوبة (باقية) ولم يتصرف فيها بشيء بالكلّية (ما لم يعوض عنها) أو يقصد بها التقرّب إلى الله تعالى، بلا خلاف، بل عليه الإجماع في
الغنية والمختلف والتنقيح وغيرها من كتب الجماعة؛
وهو الحجة. مضافاً إلى الصحاح المستفيضة وغيرها من المعتبرة المتقدمة الدالة على جواز الرجوع فيها مطلقا، أو إذا كانت لغير ذوي
القرابة خاصة.
وأمّا ما عارضها من النصوص المستفيضة الدالّة على حرمة الرجوع فيها مطلقا، وأنه كالراجع في قيئه
فمع قصور سند أكثرها محمولة على
الكراهة ، أو مقيّدة بالهبة لذوي القرابة، كما مرّت إليه
الإشارة ، أو الهبة التالفة، أو المعوض عنها، أو المتقرّب بها إلى الله تعالى، فإنه لا خلاف في لزوم هذه الثلاثة وحرمة الرجوع فيها بعد القبض وإن لم يتصرف فيها بالكلّية، بل عليه الإجماع في الغنية والتنقيح والمهذّب وعن
التذكرة ،
لكن الأخيرين نقلاه في الأُولى خاصة؛ وهو الحجة المخصّصة لتلك الصحاح.
مضافاً إلى
أصالة براءة ذمّة الموهوب له عن عوضها في الاولى، مع خصوص الصحيح فيها أيضاً : «إذا كانت الهبة قائمة بعينها فله أن يرجع فيها، وإلاّ فليس له».
وخصوص الصحيحين في الثانية، في أحدهما : «إذا عوض صاحب
الهبة فليس له أن يرجع»
وفي الثاني : «تجوز الهبة لذوي القرابة والذي يثاب، ويرجع في غير ذلك إن شاء».
وإطلاقهما كصريح المعتبرة في الثالثة، منها الصحيح، ونحوه
الموثق : «لا ينبغي لمن أعطى لله شيئاً أن يرجع فيه، وما لم يعط لله وفي الله فإنه يرجع فيه،
نحلة كانت أو هبة، حيزت أو لم تُحَز».
وفي الخبر : هل لأحدٍ أن يرجع في صدقته أو هبته؟ قال : «أمّا ما تصدّق به لله تعالى فلا».
الحديث.
وإطلاقات الإجماعات المحكيّة كالصحيحة في الأُولى تقتضي عدم الفرق في اللزوم بين كون التلف من المتّهب أو من الله تعالى، وكون التالف تمام الهبة أو بعضها، وبالأمرين صرّح جماعة من أصحابنا.
لكن ينبغي أن يقيّد البعض بالذي يصدق مع تلفه على الهبة أنها غير قائمة بعينها، لا ما لا يصدق معه ذلك عليها، كسقوط ظفر أو نحوه من العبد الموهوب مثلاً، فإن معه لا يقال : إنه غير قائم بعينه، جدّاً.
وإطلاقات الإجماعات المزبورة كالصحيحين في الثانية تقتضي عدم الفرق في لزومها بالتعويض بين اشتراطه في
العقد أو وقوعه بعده، بأن وقع العقد مطلقاً إلاّ أنه بذل له العوض بعد ذلك وأعطاه. لكنهم كما قيل صرّحوا بأنه لا يحصل التعويض بمجرّد
البذل ، بل لا بُدّ من قبول الواهب له، وكون البذل عوضاً عن الموهوب، قالوا : لأنه بمنزلة هبة جديدة ولا يجب عليه قبولها.
ومقتضاهما أيضاً عدم الفرق في العوض بين كونه قليلاً أو كثيراً، من بعض الموهوب أو غيره، وصرّح به في
المسالك ، قال : عملاً بالإطلاق، و
التفاتاً إلى أنه بالقبض بعد العقد مملوك للمتّهب فيصحّ بذله عوضاً عن الجملة.
ويمكن أن يقال : إن المتبادر من المعاوضة هو كون أحد العوضين غير الآخر، ولو تمّ ما ذكره للزم أنه لو دفعه المتّهب بجميعه إلى الواهب بعد القبض لصدق المعاوضة، مع أنه لا يسمّى ذلك معاوضة عرفاً، وإنما يسمى ردّاً، ولا فرق بين دفع البعض ودفع الكل، فإن كان ما ذكره إجماعاً، وإلاّ فإنّ للمناقشة فيه كما عرفت مجالاً.
(وفي) جواز (الرجوع) للواهب في هبته للأجنبي بعد القبض (مع التصرف) منه فيها في غير الصور الثلاث المستثناة (قولان، أشبههما : الجواز) مطلقاً، وفاقاً للإسكافي والديلمي والحلبي وابن زهرة العلوي
مدّعياً عليه إجماع
الإمامية ؛ وهو الحجة. مضافاً إلى
استصحاب الحالة السابقة، وهي : جواز الرجوع فيها الثابت بما تقدّم من الأدلّة. وعموم النصوص المتقدمة الدالّة على جوازه في مطلقها، خرج منها ما مضى وبقي ما عداه فيه داخلاً.
وثانيهما : القول بالمنع، إمّا مطلقاً، كما عن الشيخين والقاضي والحلّي وأكثر المتأخّرين،
أو إذا كان التصرّف مُخرِجاً للهبة عن ملكه، أو مغيّراً لها عن صورتها، كقصارة الثوب ونجارة الخشب ونحوهما، أو وطئاً لها، والجواز في غير ذلك، كركوب الدابة والسكنى واللبس ونحوها من
الاستعمالات ، كما عن ابن حمزة والدروس وجماعة من المتأخّرين،
وزاد الأوّل فقال : لا يقدح الرهن والكتابة. وهو يشمل بإطلاقه ما لو عاد إلى ملك الواهب وعدمه. وحجة هذا القول مطلقاً ومقيّداً غير واضحة؛ عدا روايات قاصرة أكثرها سنداً، وجميعها دلالةً. ووجوه هيّنة، واعتبارات ضعيفة لا تصلح للحجّية، سيّما في مقابلة ما مرّ لما في العبارة من الأدلّة في الأوّل، والصحيحة المتضمّنة لقوله عليه السلام: «إذا كانت الهبة قائمة بعينها» إلى آخرها، المتقدم إليها الإشارة
في الثاني. ولا تخلو من شبهة، لا بحسب السند كما توهّم؛ لكونه من الصحيح على الصحيح، وعلى تقدير التنزّل فهو حسن كالصحيح، ومثله حجّة على الصحيح.
بل بحسب التكافؤ لما تقدّم من الأدلّة لما في العبارة؛ لكونها صحاحاً ومعتبرة مستفيضة، معتضدة بالأصل وإجماع الغنية
اللذين كل منهما حجّة أخرى مستقلة، دون هذه الصحيحة، لوحدتها، وندرة القائل بها بتمامها. مع ما هي عليه من قصور الدلالة بإثبات جميع ما عليه هذه الجماعة، يظهر وجهه بالتدبّر فيما ذكره شيخنا في المسالك فقال في وجه
الإشكال فيها :
وأمّا الدلالة فتظهر في صورة نقلها عن الملك مع قيام عينها بحالها، فإنّ
إقامة النقل مقام تغيّر العين أو زوالها لا تخلو من تحكّم أو تكلّف، بل قد يدّعى قيام العين ببقاء الذات مع تغيّر كثير من الأوصاف فضلاً عن تغيّر يسير. وأيضاً : فأصحاب هذا القول ألحقوا الوطء مطلقاً بالتغيّر مع صدق بقاء العين بحالها معه، اللهمّ إلاّ أن يدّعى في الموطوءة عدم بقاء عينها عرفاً، وليس بواضح، أو يخصّ بما لو صارت أم ولد، فإنها تنزّل منزلة التالفة من حيث
امتناع نقلها من ملك الواطئ.
ثم قال : وعلى كل حال فتقييد تلك الأخبار الكثيرة الصحيحة الواضحة الدلالة بمثل هذا الخبر البعيد الدلالة في كثير من مدّعيات التفصيل لا يخلو من إشكال، إلاّ أنه أقرب من القول المشهور باللزوم مطلقاً. والذي يظهر أن
الاعتماد عليه أوجه حيث تظهر دلالته بصدق التغيّر؛ لأنه من أعلى درجات الحسن، بل قد عدّه الأصحاب من الصحيح في كثير من الكتب إلى أن قال ـ : وتبقى تلك الأخبار السابقة من كون الراجع في هبته كالراجع في قيئه
فإن له طريقاً صحيحاً وإن كانت أكثر طرقه ضعيفة وخبر
إبراهيم بن عبد الحميد كالشاهد له، فيكون في ذلك إعمال لجميع الأخبار، وهو خير من
اطراح هذا الخبر المعتبر والباقية.
إلى آخر ما ذكره.
وهو حسن لولا إجماع الغنية،
الذي هو في حكم رواية صحيحة صريحة في خلاف ما دلّت عليه تلك الصحيحة، ومع ذلك بإجماع المرتضى المتقدم
معتضدة. مع أن المصير إليها كما ذكره من
الاقتصار فيها على ما تظهر دلالته بصدق التغيّر عرفاً خاصة لعله إحداث قول رابع قد منعت عنه الأدلّة القاطعة. إلاّ أن يذبّ عن إجماع الغنية بوهنه بمصير الأكثر إلى خلافه، وعما بعده بالمنع عن كون مثله
إحداث قول ممنوع منه، بل هو حيث يكون ما عدا المحدَث مجمعاً عليه، وأنّى لكم بإثبات القطع بذلك. وكيف كان، فينبغي القطع بجواز الرجوع مع التصرف الذي لا يصدق معه على العين أنها غير قائمة بعينها، وأمّا فيما عداه فمحل إشكال، سيّما إذا صدق معه عليها أنها غير قائمة بعينها.
والاحتياط فيه بل لعلّه اللازم عدم الرجوع، ولو احتيط به مطلقاً كان أولى، بل
الاحتياط كذلك متعين جدّاً؛ لدعوى الخلاف على المنع مطلقاً إجماعنا وأخبارنا،
وارتضاها الحلّي في
السرائر ،
وصرّح بالإجماع أيضاً بعض أصحابنا،
ونسبه في المبسوط أيضاً إلى روايات أصحابنا.
فالقول بالجواز مع ذلك سيّما مع الشهرة العظيمة المحققة والمحكية مشكل جدّاً. كما أن
اختيار هذا القول كذلك أيضاً؛ لكثرة أدلّة القول بالجواز : من الأصل، والصحاح، وخصوص إجماع الغنية وعموم إجماع المرتضى. مع الوهن في أخبار الخلاف و
المبسوط ؛ لعدم وجود شيء منها في كتب أخبارنا التي منها كتاباه، فدليل المنع القوي هو
الإجماع المحكي، وهو معارض بمثله من الإجماع والصحاح، فتبقى المسألة في قالب الشك، فينبغي الرجوع فيها إلى مقتضى
الأصل الذي هو الجواز مطلقاً، كما قدّمناه، فتأمّل جدّاً.
رياض المسائل، ج۱۰، ص۲۲۵- ۲۳۱.