ما يتحقق به تسليم منفعة الإجارة
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
والكلام هنا فيما يتحقق به
التسليم الواجب الذي تستقر معه
الأجرة على المستأجر؛ بمعنى
ضمانها وجواز مطالبة المؤجر بها لا المملوكية فانّها تحصل بنفس العقد.
والمملوك
بالإجارة إمّا منفعة عين شخصية أو كلّية، وإمّا عمل ايجادي محض
كالحج النيابي عن الميت والعاجز، أو عمل متقوّم باستيفاء المستأجر كحمل المتاع.
أمّا
المنفعة فتسليمها في إجارة الأعيان يكون بتسليم العين الشخصية أو فرد من العين الكلية.
ويتحقق تسليم العمل بايجاده، إلّا أنّه لا يراد من التسليم هنا نفس
الاقباض بيد المستأجر واستيفائها وتحقق العمل خارجاً، بل المراد مجرد التمكين وبذل العين، أو عرض الأجير نفسه على المستأجر لأنّه المراد من التسليم المعاوضي الذي هو مقتضى المعاوضة أو شرط فيها لا أكثر. مضافاً إلى أنّه لا يجب إلّا ما هو تحت اختيار كلّ منهما، وليس هو إلّا تمكين المالك من
استيلاء المستأجر على العين وامكان استيفائه المنفعة.
وكلّما تحقق التسليم المعتبر في متعلّق الإجارة لأجل الوفاء بالعقد ولم يكن المؤجر مقصّراً فإنّ
التفويت يكون على المستأجر وتستقر بذلك الاجرة، بلا فرق فيه بين أنواع الإجارات.
الإجارة الواقعة على عين شخصية لمدة معيّنة نحو سكنى هذه الدار شهراً، فلو تسلّمها المستأجر ولم يستوف منافعها حتى مضت المدة فلا شبهة في فوات المنفعة عليه بانقضاء الأجل؛ لأنّه هو الذي فوّتها على نفسه بترك استيفائها، فتستقر الاجرة عليه حينئذٍ بتسليم العين، ولا يملك المستأجر منفعة بعدها ليبقى مجال لاستيفائها، وهو صريح كلمات جملة من الفقهاء،
بل ادعي عليه
الإجماع ،
وفاقاً لمقتضى القاعدة في المعاوضات، وعموم الأمر بالوفاء،
ويشهد له رواية
اسماعيل بن الفضل (قال: سألت
أبا عبد اللَّه عليه السلام عن رجل استأجر من رجل أرضاً فقال: آجرنيها بكذا وكذا إن زرعتها أو لم تزرعها اعطيك ذلك، فلم يزرع الرجل؟ فقال: «له أن يأخذه بما له إن شاء ترك وإن شاء لم يترك».
وهي وإن كان مفادها ومدلولها المطابقي صحة الإجارة مع ترك الاستيفاء للمنفعة من قبل المستأجر، إلّا أنّ صحة الإجارة لازمها استحقاق المستأجر للُاجرة وبضم كون الإجارة من العقود اللازمة يثبت الاستقرار لا محالة. وقد استدلّ بها في
الرياض وجواهر الكلام ) المصرّحة باستقرار الاجرة على من استأجر أرضاً ليزرعها فلم يفعل، وغيرها من الأخبار (كخبر
ابن يقطين وخبر
سهل وأبي بصير .
) وكذا
لو بذل المؤجر العين المستأجرة ولم يتسلّم المستأجر حتى انقضت مدة الإجارة، بلا خلاف فيه بين من تعرّض له.
ولو وقعت الإجارة على كلّي مع ضبط المدّة وتعيينها، كما لو آجر دابة كلّية للركوب في هذا اليوم- مثلًا- فسلّمه المؤجر ولم يركب أو لم يقبل فردَّه مع عدم استحقاقه لفرد آخر ومضى زمن يمكن فيه الاستيفاء فلم يستوف، استقرت الاجرة عليه؛ لأنّ تعيّن الكلّي وإن كان منوطاً بقبول المستأجر- بمعنى أنّه لو لم يقبل لم يتعيّن- إلّا أنّ امتناعه عن تسلّم هذا الفرد مع عدم استحقاقه لفرد آخر مفوّت لتلك المنفعة المملوكة والقائمة بكلّي العين»؛ لأنّه الذي فوّتها على نفسه بعد التعيين كما هو صريح كلمات بعض
وظاهر آخرين،
حيث حكموا باستقرار الاجرة في الإجارات الكلية في صورة تسليم فرد منها.
أمّا إذا كانت المنفعة مطلقة من حيث زمان الاستيفاء كما إذا استأجر دابة لحمل متاع وسلّم فرداً من العين وتسلّمه ومضى زمان يمكن فيه الاستيفاء ولم يستوف المنفعة
فقد صرّح
السيد اليزدي بعدم استقرار الاجرة، وهو ظاهر آخرين أيضاً (ونسب إلى الشيخ التفصيل بين العين المعيّنة والمطلقة، فتستقر الاجرة في الأوّل دون الثاني
ولعلّ الوجه في ذلك ما اختاره الشيخ من أنّ
الإطلاق في الأوّل يحمل على الزمان المتصل بالعقد، فيصير كما إذا كانت المدة معيّنة بخلاف الثاني
وهو المحتمل من عبارة
الشرائع أيضاً وانظر
المسالك كما أنّ ظاهر
المهذب البارع والمنسوب إلى
إيضاح النافع أيضاً عدم ضمان اجرة المسمى في المتعلّقة بالذمة المجردة عن الزمان.
وقال
المحقق البهبهاني في
رسالة الإجارة : «لو زاد الوقت المعيّن في استيفاء المنفعة لا تستقر الاجرة بمجرد القبض حتى تمضي جميع المدة والعين في يده وإن استقرت بالاستيفاء في بعض المدة»
) لأنّ الملاك في استقرار اجرة المسمّى وصدق فوات المنفعة على المستأجر قبل استيفائه لها، أن يكون زمان التسليم- الذي هو زمان استيفاء المستأجر للمنفعة المملوكة- معيّناً، إمّا بأصل العقد وإمّا بالتسليم بقصد الوفاء والتعيين من قبل المتعاملين وأمّا في الإجارة التي لا يكون فيها زمان الانتفاع معيّناً لكون المنفعة كلّية من حيث الزمان والتي يكون أمر التعيين فيها بيد المستأجر فلا يكفي مجرد التسليم ومضي زمان يمكن فيه الاستيفاء؛ لاستقرار الاجرة وكون الفائت من ملك المستأجر سواء كانت العين المستأجرة شخصية أو كلية (الظاهر من صدر عبارة
العروة الوثقى أنّه بصدد التفصيل بين تعيين الوقت وعدمه، من غير فرق بين كون العين شخصية أو كلية، حيث إنّه قدس سره اختار الحاق الكلّي بالشخصي مع تعيين الوقت، وان قيل: إنّ الظاهر من ذيل كلامه يوهم خلاف ذلك.
) كما لو آجر دابته ساعة لحمل متاعه في ساعة من ساعات هذا اليوم؛ لبقاء المنفعة المملوكة- أي الكلّي في المعيّن- على ملكه، فإن أتلف فرداً من المنفعة المملوكة لا يضمن له اجرة المسمّى، وحينئذٍ فإن كان تسليم العين بعنوان
الأمانة لينتفع بها حين يشاء فلا يضمن اجرة المثل أيضاً، وإن كان تسليمه لأجل إرادته للتعيين بحيث لا يرضى ببقائها عنده من دون استيفاء المنفعة المملوكة له- كما هو الغالب- فأصبح المستأجر ضامناً لُاجرة المثل بالنسبة للمنفعة المفوتة على مالكه بحيث يصدق في هذه الحالة التفويت أو الاستيلاء على منفعة مال الغير بلا رضى صاحبه.
وبذلك يظهر وجه كلام السيد اليزدي من عدم المنافاة بين
ضمان ما فات من المنفعة بقيمة مثله وعدم استقرار
أجرة المسمى بمضي الزمان، فلا يرد ما ذكر بعض المحققين بأنّ الحكمين المزبورين لا يكاد يجتمعان في مورد واحد.
إلّا أنّه خالفه جمع من الفقهاء ممن علّق على العروة،
وفاقاً لظاهر بعض المتقدمين
(وعباراتهم مطلقة تشمل الإجارة الواقعة على العين الشخصية والكلية، وفي الكلية مع تعيين الوقت وعدمه.)
فذهبوا إلى تحقق التفويت واستقرار اجرة المسمّى على المستأجر مع مضي زمان يمكن فيه الاستيفاء،
ولا وجه لضمانه لُاجرة مثل ما فات على المؤجر في تلك المدة، مع أنّ المفروض تسليمه تعييناً لما آجره من الكلّي فيها وابقائه على التوسعة من حيث الزمان لا يتصوّر له وجه.
هذا إذا كان عدم الاستيفاء باختياره، أمّا إذا كان لعذر فسيأتي الكلام فيه مفصّلًا.
لكن صرّح
المحقق الاصفهاني بأنّ الفرق بين الموقت وغيره وبين الكلّي والشخصي إنّما هو من حيث فوات المنفعة المملوكة وعدمه لا من حيث استقرار الاجرة لكفاية مجرد التسليم لاستقرار الاجرة، على أن يصدق التفويت بمضي مدة يمكن فيها الاستيفاء؛ لأنّها غير موقتة بوقت معيّن، بل يصدق بمضي تمام الوقت.
هذا كلّه في إجارة الأعيان.
فقد ذهب الفقهاء إلى استقرار الاجرة على المستأجر إن بذل الأجير نفسه ولم يستعمله المستأجر حتى انقضت المدة؛
لما مرّ من تحقق
التمكين والتسليم من ناحية الأجير، واقتضاء عقد الإجارة ملك الاجرة، ولأنّ عدم الاستيفاء إنّما كان لتقصير من المستأجر.
كما هو المصرّح في مسألة قلع الضرس، بلا فرق فيه بين
العبد والحر
وسواء اشتغل في ذلك الوقت بشغل آخر لنفسه أو لغيره.
لكنه اشكل فيه تارة من جهة عدم تعيّن حق المستأجر هنا بمجرد تمكين المؤجر إمّا مطلقاً
أو فيما إذا لم تقع الإجارة على عمل جزئي
(ويمكن استظهاره من
التحرير حيث تردد في استقرار الاجرة أوّلًا فيما لو كانت الإجارة متعلّقة بعبد وشبهه على عمل موصوف قد بذل المؤجر العين ومضت مدة يمكن الاستيفاء فيها، فإنّه مع ذلك حكم بثبوت الاجرة فيما لو استأجره لقلع ضرسه فمضت مدة العمل لكن المستأجر امتنع من قلعه.
) فلا يكون الفائت حينئذٍ من ملك المستأجر.
واخرى من جهة عدم ضمان عمل الحر إلّا
بالاستيفاء والإتلاف دون الفوت؛ لعدم دخول منافع الحر تحت اليد، لا استقلالًا؛ لأنّها معدومة، ولا تبعاً؛ لعدم ملكية الحر ودخوله تحت اليد؛ إذ أنّه ليس مالًا، كما أنّه لم يحصل الإتلاف؛
لأنّه متفرع على مال موجود له ليرد الإتلاف عليه، وليس في المقام مال موجود؛ لأنّ منافع الحر قبل الاستيفاء لم تكن مملوكة له.
نعم، يصح العقد على تلك المنافع، لكن ذلك لا يصحح إطلاق اسم المال عليه.
ومن هنا ذهب معظم الفقهاء في باب
الغصب إلى عدم استقرار الاجرة فيما لو استأجر حراً أجيراً في عمل فحبسه ولم يستعمله،
وهو خلاف ما صرّحوا به هنا.
واجيب عن الإشكال الأخير
بأنّ منافع الحر بعد العقد عليها تصير مالًا للمستأجر لكنه أتلفها بعدم الاستيفاء فيكون تلفها منه.
بأنّا لا نسلّم عدم ضمان منافعه إلّا بالاستيفاء بل تضمن بالتفويت أيضاً، كما إذا حبسه وكان كسوباً فإنّ عمل الحر الكسوب مال موجود عرفاً يصدق عليه التفويت للمال بالحبس مدة يمكنه العمل فيها، فيكون ضامناً.
ومن هنا فقد حاول في
الرياض حمل القول بعدم الضمان على ما إذا لم يكن حبسه سبباً للتفويت، وإن نوقش في كلا الجوابين.
هذا كلّه فيما إذا لوحظ نفس عمل الحرّ.
أمّا إذا لوحظت المنفعة القائمة بنفس العامل- وهي إمكان العمل وفرصته واستعداده له- أمكن حينئذٍ دعوى صدق التفويت لمال فعلي، سواء كان مملوكاً للغير بالعقد أم لا.
ويمكن ذكر وجه ثالث لضمان المسمّى من قبل المستأجر لكن لا من جهة الإتلاف لارتباطه بضمان المثل والقيمة، بل من جهة ضمان المعاوضة، أي من جهة صحة العقد ونفوذه، حيث لم يكن على الأجير أكثر من بذل نفسه للعمل وفاءً بالعقد، فيستحق على المستأجر المسمّى
بلا فرق في ذلك بين الحرّ والعبد، فإنّ استقرار الاجرة في إجارة العبد بمجرد بذل مولاه له ليس من جهة إثبات اليد عليه أو الإتلاف، بل من جهة تحقق التسليم بالبذل وإن لم يكن العبد تحت اليد.
هذا وقد بنى بعض الفقهاء المسألة على أنّ إجارة الحرّ نفسه هل هي تمليك للمنافع بعوض أو التزام للعمل في الذمة؟ يحتمل الأوّل؛ لأنّ له التصرف فيها باجارة ونحوها، ولذا لو استعمله آخر كان ضامناً اجرة المثل للمستأجر. ويحتمل الثاني نظراً إلى معدومية المنافع وعدم تبعيتها للعين المملوكة، فعلى الأوّل تستقر الاجرة، وعلى الثاني لا تستقر بمضي مدة العمل، بل يبقى العمل في ذمته لا يسقط إلّا بالاستيفاء أو
الإبراء .
إلّا أنّ هذا البناء غير صحيح لأنّه على الثاني أيضاً تستقر الاجرة ببذل العامل نفسه للمستأجر واستعداده للعمل بما في ذمته، إمّا لكونه تسليماً معاوضياً من قبل الأجير، أو اتلافاً لذلك المال الذمي على نفسه من قبل المستأجر، بل لو لم يكن تمليك للمال الذمي في إجارة الأعيان أيضاً وإنّما مجرد التزام وحق شخصي مع ذلك كان ذلك تفويتاً لهذا الحق الشخصي على نفسه فتستقر الاجرة عليه.
الموسوعة الفقهية، ج۴، ص۲۰۵-۲۱۲.