ملاحظة الشأن في الراحلة
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
ذهب بعض
الفقهاء إلى لزوم ملاحظة ما يناسب حال المكلّف بحسب القوّة والضعف في الراحلة وآلة الركوب، ولكن لا تجب ملاحظة ما يناسب حاله بحسب الشأن من الشرف والضعة، وهذا بخلاف الزاد فإنّه كما تجب مراعاة ما يناسب حاله بحسب القوّة والضعف، كذلك تجب مراعاة ما يناسب حاله بحسب الشرف والضعة. وعلى هذا، لو اقتضى عنوان المكلّف وشرفه أن يكون سفره بالراحلة الخاصّة ولم يجدها، إمّا لعدم تمكّنه المالي أو لعدم وجود تلك الراحلة، ولكن وجد راحلة دون شأنه، لكان مستطيعاً ووجب عليه الحجّ بالراحلة التي كانت دون شأنه.
بينما ذهب جماعة منهم إلى وجوب مراعاة الشأن في الراحلة، فلا يجب عليه الحجّ إن لم يجد راحلةً إلّا دون شأنه.
وقيّد ذلك بعضهم بما إذا استلزم عدم المراعاة العسر والحرج.
واستدلّ لعدم الوجوب بعدّة أدلّة، هي:
إطلاق آية الحجّ الشريفة والأخبار المتقدّمة الدالّة على اعتبار الراحلة.
واورد عليه:
بمنع
الإطلاق ، فإنّ
الاستطاعة غير صادقة عرفاً على ما إذا توقّف الحجّ على ما يوجب الذلّ والمهانة وهدم الشرف.
وبعبارة اخرى: أنّ ظاهر الآية والروايات الواردة في تفسير الاستطاعة هو أن يكون للمكلّف- زائداً على نفقته و
إعاشته الاعتيادية - مال يحجّ به لراحلته وزاده المناسبين لحاله، وعليه فلا إطلاق للأدلّة.
بأنّ إطلاق الأدلّة محكوم لأدلّة نفي الحرج، فإذا كان الركوب على الراحلة التي كانت دون شأنه عسراً وحرجاً على المكلّف لم تجب عليه
حجّة الإسلام .
ونوقش فيه بأنّ حكومة قاعدة نفي الحرج تقتضي نفي الوجوب لا نفي المشروعية، والكلام في الثاني، والفرق بين نفي الوجوب ونفي المشروعية في جملة من الأحكام ظاهر، منها: أنّه إذا أقدم المكلّف على ما فيه العسر والحرج كان مقتضى الجمع بين دليل نفي الحرج والإطلاقات الدالّة على الوجوب هو الصحّة و
الإجزاء عن حجّ الإسلام، فعدم
الإجزاء عن حجّ
الإسلام حينئذٍ يحتاج إلى دليل آخر.
ونظير ذلك ما إذا توضّأ الصبي ثمّ بلغ، فإنّه لا حاجة إلى
إعادة وضوئه بناءً على مشروعية عباداته وعدم كونها تمرينية، فإنّ
الوضوء الصادر منه وإن كان غير واجب لكنّه يجزئ عن الواجب، وهكذا المقام.
واجيب عن ذلك بأنّ قياس المقام وتنظيره بالوضوء في غير محلّه؛ لأنّ الوضوء هو الطهور، وهو حقيقة واحدة غير مختلفة، وهي حاصلة على الفرض، فلا وجه لإتيان الوضوء مرّة ثانية بعد حصول الطهارة، وهذا بخلاف الحجّ، فإنّ له حقائق مختلفة، فإنّ قوام الحجّ الذي افترضه اللَّه على العباد وجعله ممّا بني عليه الإسلام منوط باتصاف المؤدّى بالوجوب والفرض؛
لانتفاء التكليف في باب الحجّ عن غيره، إذ ليس متعلّق الوجوب في باب الحجّ إلّا حجّة الإسلام التي بني عليها الإسلام، فإذا فرض
ارتفاع الوجوب بدليل نفي العسر والحرج لا تبقى حقيقة حجّة الإسلام التي قوامها بالوجوب وبكونها فريضة ليقال بمشروعيتها وإجزائها عن حجّة الإسلام وإن لم تكن واجبة، وعليه فيظهر عدم إجزائه عن حجّة الإسلام؛ لمغايرة ماهيّة المأتيّ به مع ماهيّة حجّة الإسلام، إلّا أن يقوم دليل خاص على إجزائه، والمفروض عدم ثبوت هذا الدليل.
قول
الإمام الصادق عليه السلام في صحيح أبي بصير: «من عرض عليه الحجّ ولو على حمار
أجدع مقطوع الذنب، فأبى فهو مستطيع للحج»،
ونحوه من الأخبار الصريحة أو كالصريحة في عدم لزوم مراعاة الشأن في الراحلة، وتخصّص بها أدلّة نفي العسر والحرج.
ولكن ذهب بعض الفقهاء إلى أنّه لا يستفاد من الخبر المزبور عدم وجوب ملاحظة الشأن في الراحلة، حيث قال: إنّ مورد هذا الخبر ونحوه وإن كان
البذل ولكن لا خصوصيّة له، والمستفاد منه بعد
إلغاء خصوصيّة المورد وجوب الحجّ مطلقاً ولو على حمار أجدع، إلّا أنّه مطلق من حيث المبذول له، بمعنى أنّ المستفاد من إطلاق الصحيح وجوب الحجّ على كلّ مكلّف ولو على حمار أجدع يناسب شأنه أم لا، فإنّ المكلّفين يختلف شأنهم وحالهم من حيث الشرف والضعة، فهذا الخبر لا يكون صريحاً في ذلك حتى تخصّص به أدلّة نفي الحرج؛ بل تكون دلالته بالإطلاق، فيقيّد إطلاقه بأدلّة نفي الحرج، فإنّها حاكمة على الأدلّة، فمقتضى الجمع بين الأدلّة وجوب الحجّ ولو على حمار أجدع فيما إذا لم يستلزم الحرج ولم يكن منافياً لشأنه ولم يستلزم مهانة وذلّة.
على أنّ ظاهر أدلّة نفي الحرج في الدين
إباؤها عن التخصيص وعدم ملائمتها له أصلًا، وأمّا ثبوت حجّة الإسلام ولو بنحو التسكّع على من استقرّ عليه الحجّ بالاستطاعة المناسبة وعدم
الإتيان بالحجّ فلا يكون من باب التخصيص لدليل نفي الحرج، بل هو حكم تعذيبي مسوق
لإفادة العقوبة، ومن الواضح خروج الأحكام التعذيبيّة عن دائرة أدلّة نفي الحرج، وإلّا يلزم أن تكون
الحدود والتعزيرات بل القصاص وأكثر الديات مخصّصة لأدلّة نفي الحرج.
أنّهم عليهم السلام قد ركبوا الحمير والزوامل لسفر الحجّ، ومقتضى ذلك عدم وجوب مراعاة الشأن في الراحلة.
واجيب عنه بأنّه لا يمكن
الالتزام بأنّهم عليهم السلام كانوا يوقعون أنفسهم في المهانة والمذلّة، فلعلّه لم يكن نقص ومهانة في ذلك الزمان في ركوب مثل ذلك. على أنّه لم يعلم وقوع ذلك منهم في حجّة الإسلام بحيث لم يكونوا مستطيعين إلّا بذلك.
كما استدلّ على لزوم مراعاة الشأن في الراحلة- كما تقدّم- أوّلًا: بأنّ المنصرف من آية الحجّ
المباركة والأخبار
المفسّرة للاستطاعة هو أن يكون للمكلّف- زائداً على نفقته وإعاشته الاعتيادية- مال يحجّ به ولراحلته وزاده المناسبين لشأنه، فإذا لم تكن الراحلة مناسبة لشأنه ولو لم يكن الركوب عليها حرجيّاً عليه لم يجب عليه الحجّ.
بقاعدة نفي الحرج، فإنّ مقتضى جريانها هو أنّه إذا استلزم عدم مراعاة الشأن العسر والحرج فلا يكون الحجّ واجباً، وإلّا فيجب.
بما في موثّق
أبي بصير قال: سمعت أبا عبد اللَّه عليه السلام يقول: «من مات وهو صحيح موسر لم يحجّ فهو ممّن قال اللَّه عزّ وجلّ: «وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى»
»،
فإنّ المستفاد منه أنّه لو كان معسراً لا يكون مشمولًا للآية الكريمة المذكورة أعلاه. ومن الواضح أنّ مقتضى الدليل الأوّل- بخلاف الدليلين الأخيرين- وجوب مراعاة الشأن في الراحلة ولو لم يكن عدم مراعاة الشأن موجباً للعسر والحرج.
الموسوعة الفقهية، ج۱۱، ص۴۱۳-۴۱۷.