وظيفة المستحاضة في الصوم
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
المعروف بين الفقهاء أنّ المستحاضة إذا عملت بما وجب عليها من الأغسال صحّ صومها، وأمّا إذا أخلّت بها فلا يصحّ الصوم منها إجمالًا.
وقد استظهر صاحب
المدارك من كلام
الشيخ الطوسي في
المبسوط التوقّف في المسألة حيث أسند الحكم إلى رواية الأصحاب،
ثمّ قال في ذيل كلامه: «وهو في محلّه».
وقال
السيد اليزدي : «يشترط في صحّة صوم المستحاضة على الأحوط إتيانها للأغسال النهاريّة، فلو تركتها فكما تبطل صلاتها يبطل صومها أيضاً على
الأحوط ».
وقد استدلّ على شرطيّة الأغسال لصوم المستحاضة:
أوّلًا: بالإجماع.
ويرد عليه: أنّه ليس بإجماع تعبّدي كاشف عن رأي
المعصوم عليه السلام؛ إذ من المحتمل أنّ مدرك
الإجماع والتسالم على الحكم هو صحيح
علي بن مهزيار الآتي.
وثانياً: بصحيح علي بن مهزيار قال: كتبت إليه:
امرأة طهرت من حيضها أو دم نفاسها في أوّل يوم من
شهر رمضان ، ثمّ استحاضت فصلّت وصامت شهر رمضان كلّه، من غير أن تعمل ما تعمله المستحاضة من الغسل لكلّ صلاتين، هل يجوز صومها وصلاتها أم لا؟ فكتب عليه السلام: «تقضي صومها ولا تقضي صلاتها؛ لأنّ
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمر
فاطمة عليها السلام والمؤمنات من نسائه بذلك».
فإنّه يدلّ على اشتراط
إتيان المستحاضة بما هي وظيفتها من الأغسال في صحّة صومها؛ لأنّه حكم بوجوب قضاء الصوم عند تركها الأغسال.
وقد اورد على
الاستدلال به بامور:
منها: إضماره، فلعلّ المسئول منه هو غير المعصوم فلا يكون حجّة. واجيب عنه بأنّ علي بن مهزيار من أجلّاء الأصحاب، فتأبى جلالة مقامه عن السؤال من غير المعصوم عليه السلام.
ومنها: مخالفته لما في النصوص الكثيرة المعتبرة من أنّ
السيّدة الزهراء عليها السلام لم ترَ حمرةً،
واجيب عنه:
بأنّه يمكن أن يكون المراد بفاطمة في الخبر
فاطمة بنت أبي حبيش التي اشتهرت بأنّها دامية، لا
الصديقة الطاهرة عليها السلام . ولكن نوقش فيه بأنّ اللفظة متى اطلقت تنصرف إلى الفرد المشهور والمعروف، فلا وجه لدعوى
إرادة غيره.
بأنّه ليس في الخبر ما يشعر بكون تعليم
النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إيّاها لأجل ابتلائها بذلك، فلعلّ الغرض من أمره إيّاها تعليم نساء المسلمين.
بأنّ الخبر حسب نقل الصدوق
خالٍ عن ذكر فاطمة عليها السلام، بل فيه: «لأنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمر المؤمنات من نسائه بذلك».
ومنها: أنّ الخبر مشتمل على ما هو مخالف للإجماع القطعي من عدم وجوب قضاء صلاتها بالإخلال بأغسالها، وهو عمدة
الإشكال على دلالة الخبر. واجيب عنه بأنّ ذلك يوجب طرح هذه الفقرة من الحديث الدالّة على عدم وجوب قضاء الصلاة لا جميع فقراته؛
لإمكان التفكيك في الحجّية بينها، فلا مانع من العمل بقوله عليه السلام: «تقضي صومها».
إلّا أنّ بعض الفقهاء يرى عدم صحّة هذا الجواب؛ وذلك لأنّ التفكيك في الحجّية إنّما هو فيما إذا لم يكن بين الجملتين
ارتباط و
اتّصال على نحو تعدّان جملة واحدة عرفاً، وأمّا إذا كان بينهما ارتباط واتّصال كذلك فلا مورد للتفكيك، والأمر في المقام كذلك؛ لأنّ الجملتين في الحديث إحداهما مرتبطة بالاخرى بحيث تعدّان جملة واحدة عند العرف، فلا مجال هنا للالتزام بالتفكيك بينهما في الحجّية.
واورد على الجواب بإيراد آخر وهو: أنّ هذا الجواب لا يتمّ بالنسبة إلى استدلال
الإمام عليه السلام بفعل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال عليه السلام: «لأنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمر فاطمة والمؤمنات من نسائه بذلك»، فإنّ المشار إليه بذلك هو قضاء الصوم وعدم قضاء الصلاة وهو
إجمال ما فصّله أوّلًا، ولا يمكن الالتزام بالتفكيك في الحجّية فيه وإن أمكن فيما فصّله أوّلًا.
ومن الإشكالات الواردة على الاستدلال بالصحيح ما ذكره بعض الفقهاء من تشويش متن الحديث واضطرابه؛ وذلك لأنّ ظاهر التعليل في ذيل الحديث- لمكان لفظة (كان) - هو أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم كان مستمرّاً في أمره بذلك ولا يزال لكثرة ابتلاء النساء بذلك وسؤالهنّ عن وظيفتهنّ والنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمرهنّ بذلك.
فيستفاد من التعليل أنّ مورد السؤال يكون أمراً كثير
الابتلاء به للنساء، وليس هو إلّا الحيض والنفاس، فإنّهما أمران كثيرا التحقّق والابتلاء، ويصحّ أن يقال فيهما: إنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمر الحائض والنفساء بذلك كما يدلّ غير واحد من الأخبار، على أنّه صلى الله عليه وآله وسلم أمر الحائض بقضاء الصوم لا الصلاة، ويعلّل في بعضها بأنّ الصوم في السنة إنّما يجب مرّة واحدة بخلاف الصلاة.
وأمّا كون المرأة مستحاضة بحيث ينقطع حيضها أوّل يوم من شهر رمضان وتستحاض منه فهو أمر نادر جدّاً، فلا يصحّ في مثله أن يعلّل بأنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمر بذلك؛ لظهوره في أنّ ذلك كأنّه شغله صلى الله عليه وآله وسلم ولا يزال مستمرّاً عليه.
وهكذا يظهر أنّ لازم دلالة الحديث على شرطيّة الغسل لصوم المستحاضة أن لا تكون مناسبة بين التعليل الظاهر في أنّ مورده من المسائل العامّة البلوى وبين المعلّل به النادر جدّاً.
ومن المحتمل القويّ بل المطمئنّ به أنّ في الحديث سقطاً، وأنّ الحكم الوارد فيه هو حكم
الحائض والنفساء دون المستحاضة.
ولعلّ بعض هذه الإشكالات منعت بعض الفقهاء كالسيد اليزدي- كما تقدّم- عن الفتوى بشرطيّة الأغسال في صحّة صوم المستحاضة. نعم، ذهب بعضهم إلى
الاشتراط على سبيل
الاحتياط الوجوبي.
ثمّ إنّه على القول بالاشتراط يقع الكلام في امور:
هل اشتراط الغسل في صحّة الصوم يختصّ بالاستحاضة الكثيرة أو يعمّ المتوسّطة والقليلة أيضاً؟ صرّح جمع من الفقهاء بعدم الاشتراط في
الاستحاضة القليلة لا بالغسل ولا بالوضوء ولا بغيرهما؛
لاختصاص الدليل بالغسل، ولا غسل في القليلة.
وأمّا المتوسّطة فقد صرّح بعضهم أيضاً بعدم اشتراط الغسل فيها لصحّة الصوم، وهو ظاهر كثير منهم حيث عبّروا بالأغسال،
وليس في المتوسّطة إلّا غسل واحد. واستدلّ على ذلك بأنّ الصحيح المتقدّم مشتمل على قول السائل: (من الغسل لكلّ صلاتين).
ومن الواضح أنّه وظيفة المستحاضة الكثيرة؛ إذ لا يجب في المتوسّطة غسل لكلّ صلاتين، بل يجب فيها غسل واحد لصلاة الفجر فقط. نعم، قد تكون وظيفتها الغسل لصلاة الظهرين، كما إذا أحدثت بعد الفجر وصلاته، إلّا أنّه ليس بعنوان وجوب الغسل لكلّ صلاتين، فيختصّ
اعتبار الغسل في صحّة صوم المستحاضة بالكثيرة.
هل شرط صحّة الصوم خصوص الأغسال النهاريّة أو هي مع غسل العشاءين في الليلة السابقة خاصّة أو هي مع غسل الليلة اللاحقة خاصّة أو هي مع غسل الليلتين معاً أو خصوص غسل الفجر؟ هناك وجوه واحتمالات بل أقوال:
ذهب بعض الفقهاء إلى الأوّل،
وذهب بعض آخر إلى الثاني،
بينما قيّد ذلك بعض بما إذا لم تقدّم غسل
الفجر في الليل، وإلّا فهو مجزٍ عنه.
وأمّا الاحتمال الثالث فهو ظاهر كلّ من عبّر بتوقّفه على الأغسال.
وأمّا
احتمال توقّفه على غسل الفجر خاصّة فقد ذكره بعض الفقهاء،
إلّا أنّه لا قائل به.
والظاهر أنّه لا إشكال ولا خلاف في أنّ غسل الظهرين شرط لصحّة الصوم؛ لأنّه المتيقّن من مدلول الصحيح المتقدّم؛ وذلك لذكر الغسل لكلّ صلاتين في السؤال. وأمّا غسل
صلاة الفجر فقد يقال: إنّ الظاهر بل المعلوم إرادة تركها للغسل أصلًا حتى غسل الفجر.
بينما اعتمد بعضهم في عدم توقّف صحّة الصوم على غسل الفجر على ظاهر النصّ، فإنّ مقتضى الجمود على ظاهره عدم توقّف صحّة الصوم على غسل الفجر؛ لأنّ الوارد فيه: (الغسل لكلّ صلاتين)، وليس في الفجر إلّا غسل لصلاة واحدة لا لصلاتين.
وأمّا الغسل للعشاءين في الليلة السابقة فقيل: إنّه شرط لصحّة الصوم؛ لشمول الصحيح المتقدّم؛ وذلك لأنّ السائل إنّما سأل عن حكم الاستحاضة على أساس ما هو المرتكز في ذهنه من أنّ الاستحاضة كالجنابة والحيض، فكما أنّ
المرأة لا بدّ أن تكون طاهرة منهما عند طلوع الفجر فكذلك الغسل من الاستحاضة، والإمام عليه السلام لم يردعه عن هذا
الارتكاز ، بل حكم بوجوب قضاء الصوم على أساس سؤاله وما هو المرتكز في ذهن السائل.
ويمكن أن يستدلّ أيضاً على توقّف صحّة الصوم على الغسل للعشاءين في الليلة السابقة؛ بإطلاق قول السائل: (الغسل لكلّ صلاتين).
وأمّا غسل الليلة اللاحقة فلعلّ اعتباره
لإطلاق قوله: (الغسل لكلّ صلاتين)، فإنّه يشمل غسل العشاءين في الليلة اللاحقة. وعليه فاعتبار هذا الغسل يكون من باب الشرط المتأخّر. ويرد عليه: أنّ الشرط المتأخّر وإن كان معقولًا بل واقعاً في بعض الموارد أيضاً، إلّا أنّ الأذهان العرفيّة منصرفة عن مثله، فلا يستفيدونه من ظواهر الأدلّة إلّا مع نصب القرينة عليه.
صريح غير واحد عدم دخل الوضوءات في صحّة صوم المستحاضة،
كما أنّه ظاهر بعضهم،
ولكن استظهر
المحقّق النجفي من كلام بعض الفقهاء توقّف الصوم على الوضوء وغيره من وظائف المستحاضة.
وقيل في وجه توقّف صحّة الصوم على الوضوءات: إنّ الوضوء الواجب على المستحاضة قد يكون واجباً مع الغسل كالوضوء الواجب لصلاة الصبح في الاستحاضة المتوسّطة أو للصبح والظهرين والعشاءين في الكثيرة، وقد يكون واجباً للصلاة محضاً كما في القليلة، أو ما يجب لما عدا الصبح في المتوسّطة، أو لصلاة العصر والعشاء في الكثيرة.
أمّا الأوّل- وهو الوضوء الواجب مع الغسل- فتتوقّف صحّة الصوم عليه؛ لمدخليّته في رفع
الحدث الأكبر ، فلو لم تتوضّأ هذا الوضوء لم يرتفع الحدث الأكبر ولم يصحّ الصوم منها. وأمّا الثاني- وهو الوضوء الواجب لا مع الغسل- فتتوقّف صحّة الصوم عليه؛ لأنّ ما ورد في سؤال
ابن مهزيار من (الغسل لكلّ صلاتين) من باب المثال، وأنّه منساق لبيان
الإخلال بجميع وظائف المستحاضة، فالجواب فيه منزّل على عموم السؤال، فيجب القضاء مع ترك الوضوء كما يجب مع ترك الغسل.
ولكن هذا الوجه غير وجيه عند غير واحد؛ لعدم إناطة رفع الحدث الأكبر بالوضوء، وأنّ الوضوء فيما يجب مع الغسل إنّما هو لرفع الحدث الأصغر به، كما أنّ حمل (الغسل لكلّ صلاتين) في السؤال في الصحيح المذكور على السؤال من باب المثال على خلاف الظهور، وعلى هذا فالصحيح يختصّ بخصوص الغسل، فلا دليل على دخل الوضوءات في صحّة الصوم، كما لا دليل على دخل تبديل القطنة والخرقة وغسل ظاهر
البدن .
هذا، ولكن ذكر
السيد الخوئي وجهاً آخر لاعتبار الوضوء في صوم المستحاضة وهو أنّ المستحاضة لو تركت وضوءها واغتسلت وصلّت فلا إشكال في
بطلان صلاتها؛ لعدم إتيانها بما هو وظيفتها، فإذا بطلت صلاتها فتارةً تعيدها مع الصلاة من دون إخلال بالمبادرة الفوريّة فلا يجب إعادة الغسل حينئذٍ، ولا يشترط الوضوء لصومها. واخرى لا تعيدها إلّا بعد مدّة كشهر، فبما أنّ المبادرة الفوريّة غير متحقّقة في هذه الصورة، فلا بدّ عند
إعادة صلاتها من إعادة غسلها أيضاً؛ للإخلال بالمبادرة.
فمعنى اشتراط الوضوء في صحّة صومها هو أنّها لو لم تتوضّأ بطلت صلاتها، ومع بطلانها والإخلال بالمبادرة يبطل غسلها، ومع بطلانه يبطل صومها، فيشترط في صحّة صومها أن تتوضّأ، ومجرّد إتيانها الغسل من دون أن تأتي بالصلاة لا يقتضي صحّة صومها، فإنّ المأمور به إنّما هو الغسل المتعقّب بالصلاة، وحيث إنّها لم تأت بالصلاة لبطلانها بترك الوضوء فلم تأت بالغسل المعتبر في حقّها إذا لم تعده على نحو لا يخلّ بالمبادرة، ومعه يحكم بفساد صومها لا محالة. وهكذا يظهر أنّه بناءً على القول بوجوب الوضوء في الاستحاضة الكثيرة تتوقّف صحّة الصوم على الوضوء الذي كان واجباً عليها مع الغسل، وأمّا بناءً على عدم وجوبه فإنّه لا إشكال في عدم اعتباره في صحّة الصوم.
أنّه بناءً على اشتراط غسل صلاة الفجر هل يجب تقديم هذا الغسل على الفجر أو لا؟ صرّح جمع من الفقهاء
بعدم وجوب التقديم، كما هو ظاهر كثير منهم؛
وذلك لتوقّف الصوم على الغسل للصلاة على ما هو ظاهر صحيح ابن مهزيار المتقدّم، وعليه فاعتبار الغسل في الصوم مثل
اعتبار الغسل في الصلاة، فكما أنّ الغسل بعد الوقت معتبر في الصلاة لا قبله كذلك في الصوم، فلم يثبت اشتراط الزيادة على ذلك، فلا يجب تقديم الغسل على الفجر، بل لا يجوز.
بينما ذهب بعضهم إلى وجوب التقديم،
واستدلّ عليه بأنّ حدث الاستحاضة مانع عن الصوم، فالطهارة منه لها دخل في صحّة الصوم، فيجب تقديمها كالحائض المنقطع دمها قبل الفجر.
واورد عليه بمنع التلازم بين المدخليّة المذكورة ووجوب التقديم؛ إذ لا إشكال في توقّفه على غسل الظهرين مع عدم تصوّر تقديمه، وبذلك يمتاز حكم هذا الحدث عن حدث الحيض.
وببيان آخر: أنّه لا دليل على رفع الحدث بالغسل المقدّم؛ لأنّ الظاهر من صحيح علي بن مهزيار توقّف الصوم على الغسل للصلاة، وليس الغسل قبل الوقت غسلًا لها.
الموسوعة الفقهية، ج۱۱، ص۱۳۸- ۱۴۶.