المستثنيات في حديث لاتعاد
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
قد استثنيت في حديث «لا تعاد» امور خمسة: الطهور، والوقت، والقبلة، والركوع، والسجود، والبحث عمّا هو الواجب في كلّ واحد منها يقع في محلّه، وإنّما الكلام هنا في المقدار المستثنى منها في حديث «لا تعاد»، فنتكلّم في كلّ واحد منها حسب الترتيب.
والبحث أوّلًا في المراد من الطهور، فهل هو مطلق الطهارة- سواء كانت من الحدث أو من الخبث، فيشملهما معاً- أو أنّه يختصّ بالطهارة من الحدث؟
قد يقال بإطلاق الحديث وشموله الطهور المستثنى فيه للطهارة من الخبث أيضاً الذي هو شرط في الصلاة،
وهو مذكور في القرآن أيضاً
بقوله تعالى: «وَثِيَابَكَ فَطَهِّر»،
ولا أقل من
الإجمال واحتمال ذلك، فلا يمكن التمسّك بإطلاق المستثنى منه في الحديث للإخلال بالطهارة الخبثية، والحكم بعدم
الإعادة بالإخلال بها، باعتبار سريان إجمال المستثنى إلى المستثنى منه لا محالة.
والمشهور استظهروا من الطهور في الحديث خصوص الطهارة من الحدث.
وقد استدلّ عليه بوجوه:
أنّ من يراجع ألسنة الروايات واستعمالات كلمة (الطهور) فيها يلاحظ أنّها تطلق على الطهارة المضافة إلى المكلّف بما هو
إنسان ، لا الطهارة الخبثية التي هي صفة للثوب أو الجسد، ويعبّر عنه غالباً بالنظافة أو الطهارة لا الطهور، فلا يبعد دعوى
الاطمئنان بانصراف كلمة الطهور في استعمالات الشارع، خصوصاً في باب الصلاة إلى الطهارات الثلاث التي صرّح بها
القرآن الكريم في آيات عديدة جعلتها شرطاً للقيام إلى الصلاة، فشيوع
استعمال الطهور في الطهارة الحدثية بالخصوص- التي اعتبرت حالة باقية للإنسان، ولهذا يقال: هو على طهور- وارتكازية
أمر القرآن الكريم بذلك في آيات واضحة صريحة يوجبان
انصراف عنوان الطهور في هذه الروايات إلى خصوص الطهارة الحدثية وانسباقها منه.
أنّ الطهور مردّد بين معانٍ أقربها المطهِّر، ولهذا أطلق على الماء عنوان الطهور، قال اللَّه تعالى: «وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً»،
والتراب أحد الطهورين، وإطلاقه في باب الطهارة الحدثية ليس بلحاظ الطهارة الحاصلة، بل على الأفعال المحقّقة للطهارة من الغسل أو الوضوء أو التيمّم، حيث إنّ هذه الأفعال تكون مطهِّرة للإنسان، فمعنى الطهور والكون على طهور- كالكون على الوضوء والغسل-
اعتبار شرعي لبقاء نفس ذلك المطهّر.
وعلى هذا يقال:
إرادة الطهارة الخبثية من الطهور في هذه الروايات إن كان على أساس التمسّك بإطلاق الطهور- بمعنى استعماله في الطهارة- فقد عرفت أنّه على خلاف معناه الأصلي، وإن كان على أساس شرطية مطلق المطهِّر الأعمّ من الغسل أو الوضوء أو التيمّم في رفع الحدث والغسل في رفع الخبث، حيث إنّ فعل الغسل مطهّر أيضاً، فمن الواضح أنّ الشرط في الصلاة في باب الحدث نفس الفعل المطهّر، بخلاف الشرط في الصلاة في باب الخبث، فإنّ الشرط طهارة الثوب و
البدن لا الغسل، ولهذا لو تحقّق ذلك بأيّ سبب كان مجزياً أيضاً.
والحاصل: فعل التطهّر ليس شرطاً في باب الخبث للمصلّي، وإنّما الشرط النتيجة وهو طهارة الثوب حين الصلاة بخلاف الحدث، فإذا كان الطهور بمعنى المطهّر لم يكن شاملًا للطهارة الخبثية، وأمّا حمله على إرادة الماء كناية عن شرطية استعماله في الصلاة في رفع الحدث والخبث معاً فبعيد غايته، خصوصاً إذا لاحظنا أنّ الطهارة من الحدث قد تكون بالتراب لا الماء.
أنّه بقرينة ما ورد في ذيل القاعدة وفي الروايات الاخرى التي استدلّ بها فيما تقدّم يظهر أنّ الكبرى المقصودة هي لزوم إعادة الصلاة في
الإخلال بما يكون مفروضاً في الصلاة من قبل اللَّه سبحانه في القرآن الكريم دون ما يكون سنّة، ومن الواضح أنّ الطهارة من الخبث لا شاهد على اعتبارها في الصلاة من الكتاب الكريم عدا ما يتوهّم في مثل قوله تعالى: «وَثِيَابَكَ فَطَهِّر»،
إلّاأنّ الظاهر منه إرادة تقصير الثياب وتشميرها، كما ورد ذلك في تفسيرها في حديث الأربعمئة، كما أنّه فسّر بتزكية النفس والأفعال من الرذائل، ولو فرض إرادة الطهارة من الخبث فلا دليل على النظر فيها إلى خصوص الصلاة ليكون دليلًا على كون الطهارة من الخبث ممّا فرضه اللَّه واعتبره في الصلاة، ومجرّد ذكر التكبير للَّه قبلها لا يدلّ على إرادة الصلاة، خصوصاً وأنّ النظر لو كان إلى ذلك لكان اللازم بيان ذلك بنحو الشرطية، كما ورد في الطهارة الحدثية.
وقال
الإمام الخميني : «إنّ ما يمنعنا عن القول بعموم مستثنى (لا تعاد) للطهارة عن الخبث هو عدم وجدان من يوافقنا من الأعلام و
أهمّية الطهارة عن الحدث في الشرع، و
ارتكاز المتشرّعة، دون الطهارة عن الخبث التي يسامح فيها حتى أنّه يجوز
إيجاد ما يوجب الشكّ فيها».
واحتمل
الشيخ الأنصاري احتمالًا غير بعيد إرادة مطلق
استعمال الطهور لرفع الحدث والخبث، كما يومئ إليه قوله عليه السلام في رواية اخرى
: «لا صلاة إلّابطهور، ويجزيك من
الاستنجاء ثلاثة أحجار...وأمّا البول فلابدّ من غسله».
فبناءً على القول المشهور من أنّ المراد من الطهور هو خصوص الطهارة من الحدث، فالطهارة من الخبث يكون داخلًا في عقد المستثنى منه، فبمقتضى هذا الحديث لا تعاد الصلاة من الإخلال بها لا عن عمد.
نعم، ما ثبت من لزوم إعادة الصلاة في النجاسة الخبثية إذا كان عن نسيان يكون تقييداً لإطلاق عقد المستثنى منه.
فيفصّل بين الإخلال بها عن جهل فلا تجب الإعادة، وبين الإخلال بها عن نسيان فتجب الإعادة كما في العروة،
وتحقيقه في محلّه.
وأمّا الإخلال بالوقت فإن وقع تمام الصلاة في غير الوقت فلا إشكال في بطلانها؛
لانتفاء الشرط ولصحيحة «لا تعاد».
ولو وقع بعضها في الوقت بأن دخل الوقت في أثنائها فكذلك؛ لأنّ الوقت شرط لكلّ جزء من أجزائها على نحو
العامّ الاستغراقي ، فبانتفائه ولو في جزء واحد تبطل الصلاة على القاعدة؛ ولإطلاق عقد المستثنى في الحديث.
قال
المحقّق النجفي : «أمّا لو صلّى قبل دخول الوقت نسياناً فدخل عليه في أثنائها فالمتّجه البطلان، وفاقاً للمشهور، بل عن التذكرة
الإجماع عليه؛ لعدم ثبوت عذريّة النسيان في رفع شرطية الوقت المستفادة من نحو خبر أبي بصير
السابق وغيره، كقوله عليه السلام: «لا تعاد الصلاة»، وشبهه، فتبقى
أصالة الشغل حينئذٍ بحالها».
وقال
السيّد الحكيم - في التعليق على قول
السيّد اليزدي : «لا يجوز الصلاة قبل دخول الوقت، فلو صلّى بطلت»
-:
«بلا خلاف ولا إشكال، ويقتضيه- مضافاً إلى ما دلّ على
اعتبار الوقت- رواية
أبي بصير عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام : «من صلّى في غير وقت فلا صلاة له»،
وحديث «لا تعاد الصلاة إلّامن خمسة»
».
وكذلك تمسّك بعقد المستثنى في حديث «لا تعاد الصلاة إلّامن خمسة» في
بطلان الصلاة ووجوب إعادتها لو صلّى متيقّناً لدخول الوقت أو ظانّاً به بالظنّ المعتبر، ثمّ تبيّن وقوع الصلاة بتمامها قبل الوقت.
وأمّا لو دخل في الصلاة
باعتقاد دخول الوقت أو للظنّ المعتبر- كشهادة عدلين- ثمّ تبيّن أنّه قد دخل عليه الوقت في أثناء الصلاة فقد دلّت بعض الروايات الخاصّة على الصحّة و
الإجزاء .
وأمّا القبلة فمقتضى
الأصل المستفاد من
إطلاق ما دلّ على شرطية القبلة الإعادة في الوقت وخارجه بأدنى انحراف،
وقد استدلّ عليه أيضاً بإطلاق عقد المستثنى في حديث «لا تعاد». وهذا فيما إذا كان
الانحراف أكثر ممّا بين المشرق والمغرب ممّا لا إشكال فيه. وأمّا الانحراف بينهما فقد دلّت بعض الروايات الخاصة على الصحة في الجملة.
قال المحقّق النجفي: «لعلّ صحيح
زرارة الذي هو بعض الأصل المزبور كالصريح في تناول النسيان؛ ضرورة كون المراد فيه: لا تعاد الصلاة إلّامن فوات خمسة عمداً أو سهواً، وإلّا لم يكن لها خصوصية على ما يجب الإعادة بفواته عمداً، وهو جميع واجبات الصلاة».
وقال
المحقّق النائيني : «وقع الخلاف في وجوب الإعادة على الناسي لها مع تبيّن وقوع صلاته بين المشرق والمغرب، فقيل بأنّه يجب عليه الإعادة بعموم عقد المستثنى من (لا تعاد)، وظهور ما دلّ على عدم الإعادة إذا كان الخطأ فيما بين المشرق والمغرب في غير الناسي، إلّا أنّ الأقوى عدم وجوب الإعادة (عليه)؛ لإطلاق بعض الأخبار الدالّة على عدم وجوبها، مثل قوله عليه السلام: «ما بين المشرق والمغرب قبلة»،
بعد صرفه عن العالم بجهة القبلة، ومنه يظهر أنّ خروجه عن عموم (لا تعاد) إنّما يكون على وجه
الحكومة لا
التخصيص ».
وتفصيل المسألة في مصطلح (
استقبال ، قبلة).
وأمّا الركوع فلا شكّ في كونه ركناً في الصلاة، بمعنى أنّ الإخلال به عمداً أو سهواً موجب للبطلان.
وقد استدلّ على ذلك
بالمستثنى في حديث «لا تعاد».
قال
السيّد الخوئي في مسألة نسيان الركوع والتذكّر بعد السجدتين: «مقتضى حديث «لا تعاد» حينئذٍ هو البطلان أيضاً؛ للزوم الإخلال بالركن زيادة أو نقيصة على تقديري التدارك وعدمه؛
لاستلزام زيادة السجدتين على الأوّل ونقص الركوع على الثاني... فالمتعيّن هو القول بالبطلان مطلقاً كما عليه المشهور»،
بل المجمع عليه بطلان الصلاة بذلك؛ لتحقّق الركن وهو مجموع السجدتين، وعدم
إمكان تدارك الركن المنسي وهو الركوع.
وأمّا لو تذكّر بعد سجدة واحدة فيأتي قريباً.
وأمّا زيادة الركوع السهوية فقال السيّد الخوئي أيضاً: «المعروف والمشهور بطلان الصلاة بها، بل ادّعي عليه الإجماع في كلمات غير واحد، فالحكم كأنّه من المسلّمات».
وأمّا السجود فالواجب في كلّ ركعة سجدتان، وهما معاً ركن في الصلاة تبطل بالإخلال بهما من كلّ ركعة، عمداً أو سهواً،
وقد ادّعي عليه الإجماع ونفي الخلاف.
واستدلّ عليه- مضافاً إلى ذلك- بحديث «لا تعاد»؛
لأنّ السجود أحد الخمسة المذكورة في عقد
الاستثناء الدالّ على لزوم إعادة الصلاة بالإخلال بها.
وأمّا الإخلال بسجدة واحدة فإن كان عمداً فلا إشكال في بطلان الصلاة بذلك، وأمّا الإخلال بها سهواً فلا تبطل الصلاة بذلك، سواء كان من ناحية الزيادة أو النقيصة؛
لما دلّ عليه من الرويات، وقد استفيد منها قاعدة سمّوها بقاعدة (لا تعاد) الصغير، الدالّة على نفي إعادة الصلاة من الإخلال بسجدة، وهذا ما يقع الكلام فيه في العناوين التالية.
الموسوعة الفقهية، ج۱۴، ص۳۱۴- ۳۲۰.