تعدد المؤذنين في الأذان
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
المتيقّن من النصوص
استحباب أذان واحد لكلّ من
الإعلام والصلاة، جماعة كانت أو فرادى.وأمّا المتعدّد فقد اختلفت كلمات الفقهاء وتعابيرهم فيه، فجاءت كلمات أكثر الفقهاء مطلقة لا تعرّض فيها لنوع الأذان الإعلامي أو الصلاتي ولصلاة الجماعة أو الفرادى، وقد اختلف الفقهاء فيها على عدّة أقوال، وهي:
جواز
الأذان دفعة لمؤذّنَين اثنين في محلّ واحد، وعدم جوازه لأكثر من ذلك إلّا متفرّقين، كلّ واحد في زاوية من زوايا المسجد، وهو الذي ذهب إليه
الشيخ الطوسي في
المبسوط .
وأمّا مترتّباً بمعنى أن يؤذّن واحد بعد آخر فجوّزه في الخلاف لاثنين أيضاً،
ووصفه في المبسوط بأنّه غير مسنون ولا مستحبّ.
وقد استدلّ لجواز الاثنين دفعة في المحلّ الواحد بأنّه أذان واحد، وللأكثر من ذلك متفرّقين بعدم المانع منه، وللمنع فيما زاد على الاثنين في المحلّ الواحد
بإجماع الفرقة على رواية أنّ الأذان الثالث بدعة.قال في المبسوط: «يجوز أن يكون المؤذّنون اثنين اثنين إذا أذّنوا في موضع واحد، فإنّه أذان واحد، فأمّا إذا أذّن واحد بعد الآخر فليس ذلك بمسنون ولا مستحبّ. ولا بأس أن يؤذّن جماعة، كلّ واحد منهم في زاوية من
المسجد ، فإنّه لا مانع منه».
وقال في
الخلاف : «لا بأس أن يؤذّن اثنان واحد بعد الآخر، وإن أتيا بذلك موضعاً واحداً كان أفضل، ولا ينبغي أن يزاد على ذلك... دليلنا: إجماع الفرقة على ما رووه من أنّ الأذان الثاني بدعة، فدلّ ذلك على جواز الاثنين، والمنع عمّا زاد على ذلك».
ويستفاد من مجموع كلاميه المنع دفعة ومرتّباً عمّا زاد على الاثنين في الموضع الواحد، وهو ما نقل عن نجله الشيخ أبي عليّ ادّعاء إجماع أصحابنا على أنّه بدعة.
لكن ناقش في
الاستدلال المذكور غير واحدٍ من فقهائنا- مضافاً إلى الطعن في صحّة الخبر- بعدم دلالته على المطلوب؛ إذ لا يراد من الأذان الثالث فيه ما يأتي به المكلّفون تكراراً للأذان الموظف، بل ما يؤتى به ثانياً وثالثاً على وجه الوظيفة الشرعية،
على أنّ الخبر المزبور مشار به إلى بدعة مخصوصة من تعدّد الأذان لصلاة الجمعة وهو غير ما نحن فيه.ولو سلّم أنّ المراد بإجماع أبي علي ما نحن فيه ففيه أنّ التتبّع يشهد بخلافه؛ إذ لم نجد له موافقاً عليه سوى ما سمعته من الخلاف،
مع أنّه قال في المبسوط:«لا بأس أن يؤذّن جماعة كلّ واحد منهم في زاوية من المسجد؛ لأنّه لا مانع منه».
جواز الأذان المتعدّد لما زاد على الاثنين دفعة وترتيباً، وهو مذهب المشهور،
لكن قيّده
العلّامة الحلّي في جملة من كتبه
بإتيان كلّ واحد في زاوية،
في حين أطلق في غيرها
- هو وسائر الفقهاء- الحكم في ذلك،
مستدلّين على الجواز باستحباب عموم الأذان
وانتفاء المانع، وربّما صرّح بعضهم بجواز الزيادة على أربع،
بل باستحباب الزيادة على الاثنين مطلقاً مع الحاجة.
قال العلّامة في
التذكرة : «يجوز أن يؤذّن جماعة في وقت واحد، كلّ واحد في زاوية؛ عملًا باستحباب الأذان وانتفاء المانع».
نعم، قيّده
الشهيد الثاني بما إذا لم يخرج ذلك عن المعتاد بحيث يؤدّي إلى نفور النفس من كثرة أصواتهم، فإنّ
الإقبال أمر مطلوب شرعاً؛ لما ورد من استحباب نداوة الصوت وجودته.
وكيف كان، فقد ذهب
المحقّق النجفي والهمداني إلى ما ذهب إليه المشهور من جواز التعدّد في الأذان بتعدّد المؤذّنين، مجتمعين في محلٍّ واحد أو محالّ متعدّدة أو مترتّبين، سواء في ذلك أذان الإعلام أو الصلاة وإن كانت جماعة، فيؤذّن كلّ واحد لصلاته جماعة.
واستدل له بإطلاق الأدلّة وظهورها في كونه مستحبّاً عينياً لا كفائياً، فلا ينافيه جواز
الاكتفاء بأذان الغير في الجماعة أو بسماعه فيها أو في غيرها في الأذان الصلاتي، ولا عدم الفائدة الزائدة في الآذان اللاحق بعد حصول
الامتثال بالأوّل في الإعلامي، مضافاً إلى ما في تكرّر الإعلامي من زيادة إقامة الشعار، وتكرير ذكر اللَّه، وتنبيه الغافلين
وايقاظ النائمين ونحو ذلك من فوائده المذكورة له في النصوص.
نعم، الأذان المتكرّر من الفرد الواحد للإعلام كان أو للصلاة لا يخلو من إشكال، بل منع في الصلاتي، إلّا مع وجود مقتضى لذلك؛ لعدم معقولية الامتثال عقيب الامتثال.
إلّا أنّه خارج عن موضوع البحث، وإن أمكن البحث عنه في الفرادى بناء على جواز نيابة جماعة عن واحد في أذان الصلاة، كما يظهر ذلك من
كاشف الغطاء ، لكنه ذهب إلى أنّ الأولى ترك ذلك.
ثمّ إن جمعاً من الفقهاء القائلين بجواز تعدّد الأذان مترتّباً قيّدوه بحال
اتّساع الوقت لذلك،
فلو ضاق الوقت عن ذلك كره.
ومرادهم من اتّساع الوقت عدم
اجتماع تمام المطلوب في الجماعة كانتظار
الإمام والمأمومين الذين يعتاد حضورهم، حيث إنّ كثرة الجماعة مطلوبة شرعاً، أو تحصيل ساتر، أو طهارة حدثية أو خبثية ونحوها،
لا المعنى المتعارف للاتّساع، فإنّ تأخير الصلاة عن وقتها المطلوب شرعاً لأمر غير موظّف مستبعد جدّاً.قال العلّامة الحلّي: «ولو أذّن واحد بعد آخر كره؛ لما فيه من تأخير الصلاة عن وقتها. نعم، لو احتيج إليه
لانتظار الإمام أو كثرة المأمومين جاز».
وعليه حمل قول الشيخ في عبارته المتقدّمة بأنّه لا مسنون ولا مستحبّ بعد استفادة الكراهة منه.
قال العلّامة الحلّي بعد نقل عبارة الشيخ: «وهو جيّد، لما فيه من تأخير الصلاة عن وقتها، نعم، لو احتيج إلى ذلك لانتظار الإمام أو كثرة المأمومين فالوجه الجواز».
لكن يظهر من بعض الفقهاء كأبي العباس
إرادة المعنى المتعارف من الاتّساع.قال
السيد جواد العاملي : «وفي
الموجز الحاوي : ومع السعة يترتّبون، وربما كره بلزوم التأخير إلّا لفائدة انتظار الإمام وكثرة المأمومين. انتهى. والسعة في كلامه مراد بها المعنى المتعارف، وهو ظاهر كلّ من أطلق».
كراهة تعدّد الأذان بتعدّد المؤذّنين مطلقاً بلا فرق بين ما إذا أذّنوا دفعة واحدة أو مترتّبين، إلّا في صورة تعدّد المحلّ وسعة الوقت فيستحبّ.وهو ما ذهب إليه صاحب
المدارك حيث قال: «والمعتمد كراهة الاجتماع في الأذان مطلقاً؛ لعدم ورود
الشرع به، وكذا أذان الواحد بعد الواحد في المحلّ الواحد، أمّا مع
اختلاف المحلّ وسعة الوقت بالمعنى المتقدّم فلا مانع منه، بل الظاهر استحبابه؛ لعموم الأدلّة الدالّة على مشروعية الأذان والترغيب فيه».
كما يظهر من
المحقّق السبزواري الميل إليه أيضاً حيث قال بعد ذكر الأدلّة على جواز التعدّد: «ولقائل أن يقول: عدم تمكين
النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك مع توفّر الداعي عليه شاهد للكراهة أو التحريم».
ثمّ إنّ جملة من القائلين بجواز التعدّد دفعة وترتيباً جعلوا
الترتيب فيه مع اتّساع الوقت له أفضل منه دفعة، واستفاد السيد جواد العاملي وغيره من عبارة الخلاف المتقدّمة العكس، حيث قال في بيان ذلك:«ولو اتّسع الوقت ترتّبوا، فيؤذّن واحد بعد الآخر كما في الخلاف
والشرائع والإرشاد والدروس والبيان والموجز الحاوي وشرحه وغيرها. وفي الأوّل الإجماع عليه، وأنّ الاجتماع أفضل. وفي الشرائع والإرشاد والروض وظاهر
مجمع البرهان أنّ الترتيب أفضل».
لكنّ أحداً منهم لم يستدلّ عليه بشيء عدا ما صرّح به
الفاضل الأصفهاني من أنّه تكرير للإعلام وإعلام لمن لم يسمع الأذان،
ولذا استشكل بعض الفقهاء في ثبوت الأفضلية المذكورة، فقال المحقّق السبزواري: «ومع ذلك
فإثبات الأفضلية المذكورة محلّ إشكال».
وقال المحدّث البحراني: «وبالجملة، فإنّ كلامهم في هذه المسألة كما سبق في سابقتها خالٍ من النصّ».
وقال المحقّق النجفي: «كما أنّه لم نعثر على ما يدلّ على ما ذكر المصنّف والفاضل وغيرهما من أفضلية الترتيب مع سعة الوقت. نعم، علّل بأنّه تكرير للإعلام أو إعلام لمن لم يسمع السابق وبنحو ذلك ممّا هو كما ترى».
التفصيل بين الأذان الإعلامي فيكره، بل لا يجوز فيه التعدّد دفعة أو ترتيباً ما لم يختلف الوقت أو المحلّ، والأذان الصلاتي، حيث قال:«والذي يقتضيه النظر هنا هو الفرق بين الأذان الإعلامي وبين أذان الصلاة جماعة، أمّا الأوّل فإنّ مقتضى
التوقيف في العبادات وأنّها مبنية على الورود عن صاحب الشريعة هو كراهة الاجتماع في الأذان مطلقاً دفعة أو ترتيباً، بل ربما احتمل عدم المشروعية. نعم، لو اختلف الوقت أو المحلّ فلا بأس، وأمّا الثاني فالظاهر أنّه لا مانع منه مع تعدّد الجماعات كما ذكره الشيخ في آخر عبارته في المبسوط من الجماعات المجتمعة في مسجد يؤذّن لكلّ منها على حيالها، وإن اتّفق في وقت واحد».
وبعد بيان الحكم في المسألة يقع البحث في امور:
ذكر بعض الفقهاء أنّ المراد باتّساع الوقت هو عدم اجتماع تمام المطلوب في الجماعة كانتظار الإمام والمأمومين الذين يعتاد حضورهم، لا المعنى المتعارف وهو اتّساع وقت الأجزاء؛ فإنّ تأخير الصلاة عن أوّل وقتها المؤكّد في الفضيلة لأمر غير موظّف مستبعد جدّاً.
قال الشيخ في المبسوط:«إذا أذّن واحد بعد الآخر فليس ذلك بمسنون، ولا مستحبّ».
وفسّره المحقق والعلّامة بأن يبني كلّ واحد على فصول الآخر،
وهو المعبّر عنه بالتراسل.
ونوقش
التفسير بأنّه بعيد؛ فإنّ
المتبادر من كلام الشيخ وقوع مجموع الأذان الثاني بعد الأوّل،
ويؤيّده ورود بعض كلمات العلّامة بكراهة
التراسل بعد تعرّضه لحكم كراهة أذان الواحد بعد الآخر.
وصرّح ببعده أيضاً السيّد العاملي، حيث قال: «وهذا (التفسير) وإن كان بعيداً... لكنّه هو المناسب لإجماع الخلاف الناطق بأنّه لا بأس بأن يؤذّن واحد بعد الآخر».
إذا تعدّد المؤذّنون لا ينبغي أن يسبق
الراتب بل يؤذّن بعده؛ لأنّ أبا محذورة وبلالًا لم يسبقهما أحد فيه، كما ذكره العلّامة.
نعم، لو سبقه سابق اعتدّ به، واستقرب الشهيد استحباب ترتيب المؤذّنين للمسجد تأسّياً بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في
بلال وابن امّ مكتوم ، ومن أظهر فوائده أذان أحدهما قبل الصبح والآخر بعده.
لا يختصّ التأذين في صلاة الجماعة بشخص دون شخص، بل أمر الأذان مأذون فيه لمن شاء، كما صرّح بذلك الشيخ جعفر كاشف الغطاء.
ويستفاد ذلك أيضاً من عبارة العلّامة الحلّي وغيره، حيث قال في التذكرة:«لا يقيم حتى يأذن له الإمام».
فالظاهر من مفهوم هذه العبارة أنّ المؤذّن في الجماعة لا يحتاج إلى إذن الإمام؛ لما روي عن
عليّ عليه السلام أنّه قال: «المؤذّن أملك بالأذان، والإمام أملك
بالإقامة ».
نعم، لو كان المؤذّن راتباً في المسجد بالأذان فلا ينبغي أن يسبق، كما تقدّم.هذا،
وللمجتهد اختيار مؤذّن في المساجد مع عدم قيد
التولية لغيره، ولا يجوز تعدّيه. نعم، الظاهر عدم لزوم الرجوع إليه، إلّا أنّ منعه معتبر مع المصلحة.
ذكر العلّامة الحلّي أنّ وقت الأذان منوط بنظر المؤذّن لا يحتاج فيه إلى مراجعة الإمام، ووقت الإقامة منوط بنظر الإمام وحضوره فيقيم عند
إشارته ؛ استناداً إلى الرواية المتقدّمة، ولأنّ الإقامة سنّتها أن تتعقّبها الصلاة على الاتّصال والصلاة إلى الإمام، فينبغي أن يكون عازماً على الشروع عند تمامها.
نعم، لا بدّ في ذلك أن لا يفصل بين الأذان والصلاة فصلًا يوجب الخروج عن
الموالاة .
يستحبّ للإمام أن يلي
الأذان والإقامة ليحصل له ثواب الجميع،
إلّا أن يكون أمير جيش أو سرية، فالمستحبّ أن يلي الأذان والإقامة غيره،
بل يكره لُامراء السرايا الجمع بين الأذان والإمامة.
ولكن خالف الشهيد في ذلك حيث قال:«في استحباب هذا الجمع نظر؛ لأنّه لم يفعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلّا نادراً، ولا واظب عليه أمير المؤمنين عليه السلام، ولا الصحابة
والأئمة عليهم السلام بعدهم غالباً، إلّا أن نقول:هؤلاء امراء جيوش أو في معناهم».
واجيب بأنّ هذا ليس بشيء؛ لثبوت
التأسّي .
واورد عليه بأنّ التأسّي- وخصوصاً في التروك- إنّما يعتبر إذا لم تعارضه النصوص.
نعم، لو دار الأمر بين الإقامة والإمامة فالإمامة أولى؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان مواظباً على الإمامة، ولا يؤذّن ولا يقيم، بل يقوم بهما غيره، ولا يجوز أن يترك الأفضل لغيره دائماً، وكذلك عليّ عليه السلام.
ذهب العلّامة إلى استحباب اتّحاد المؤذّن والمقيم في قوله:«الأفضل أن يتولّى الإقامة المؤذّن»؛
محتجّاً بما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه أمر
زياد بن الحارث الصيداوي في صلاة الفجر فأراد بلال أن يقيم فقال عليه السلام: «إنّ أخاك قد أذّن، ومن أذّن فهو يقيم».
وخالفه الشهيد فذهب إلى عدم ثبوت استحباب ذلك،
بل صرّح بعض آخر باستحباب المغايرة بين المؤذّن والمقيم؛
تأسّياً بما حكي عن عليّ
والصادق عليهما السلام.ففي مرسل
الفقيه قال الصادق عليه السلام:«كان عليّ عليه السلام يؤذّن ويقيم غيره، وكان يقيم وقد أذّن غيره».
ومثله خبر
إسماعيل بن جابر عن أبي عبد اللَّه عليه السلام.
الموسوعة الفقهية، ج۸، ص۲۳۴-۲۴۲.