دور اكتمال الفقه الاجتهادي
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
وهذا الدور هو امتداد للدور المتقدم و
استمرار لنفس المنهج الفقهي الذي أرست وثبّتت مبانيه مدرسة
الوحيد البهبهاني وتلامذته الفقهاء العظام، إلّا انّه قد بلغ هذا المنهج عبر جيلين من فقهاء هذه المدرسة- وعلى يد أحد الأفذاذ منهم وهو
الشيخ الأنصاري قدس سره (ت/ ۱۲۸۱ ه)- القمّة في النضج والعمق والشمول بحيث يمكن اعتباره عصراً جديداً في تاريخ
الفقه واصوله، كما يتضح ذلك من المقارنة بين كتابي هذا الفقيه العظيم في الفقه والاصول المكاسب في فقه المعاملات و
فرائد الآصول مع مصنفات في نفس الموضوع لفقهاء هذه المدرسة قبل الشيخ، فإنّ الفارق بينهما يعد فارقاً كبيراً في المضمون والمنهجية وصناعة
الاستدلال ؛ حيث استطاع الشيخ الأعظم أن يوسّع من المنهج الاصولي الذي أسّسه الوحيد البهبهاني وتلامذته فيستحدث نظريات جديدة، ويضع مصطلحات حديثة، ويبرز
أصالة المنهج الاصولي ويلقي الضوء على مسائل وقواعد اصولية كانت مغفولًا عنها، أو تبحث بصورة مختصرة قبل ذلك، وقد سمّيت بمباحث الاصول العقلية في قبال الاصول اللفظية.
وبهذا قسّمت بحوث اصول الفقه إلى قسمين رئيسين:
وهي التي ترتبط بتحديد وتنقيح دلالات الدليل اللفظي، والتي ينبغي أن يرجع فيها عموماً إلى العرف واللغة.
ويقصد بها البحث عن الحجج العقلية أو الشرعية المقرّرة في موارد القطع أو الظن أو الشك في الحكم الشرعي، وفيها بحوث جليلة عميقة ورائعة أيضاً. وهذا التقسيم لا يزال متّبعاً في الدراسات الاصولية الحديثة رغم
إجراء تعديلات وتقسيمات إضافية في إطاره سوف نشير إليها. كما انّ منهج الاستدلال الفقهي لدى الشيخ الأعظم قدس سره- خصوصاً في فقه المعاملات والعقود- تميّز بتطوّر كبير في متانة العرض ومنهجيته وفصله للبحوث والقواعد العامّة للعقود عن مصاديقها وأنواعها، والأحكام الخاصّة بكل عقد.
كما انّه يمتاز بقوّة الاستدلال والصناعة الفقهية والتوجّه إلى استدلالات لم تكن معهودة قبل ذلك لدقتها وعمقها، ويمتاز أيضاً
بالالتفات إلى مراتب الاستدلال الفقهي الطولية مع ملاحظة العلاقة فيما بين الأدلّة، فالدليل الاجتهادي مقدم على
الأصل العملي وحاكم عليه، والدليل الشرعي وارد على الوظيفة المقرّرة عقلًا، كما انّ الأدلّة الاجتهادية والاصول العملية ترتبط فيما بينها بعلاقات مختلفة من التقدم والتأخر والحكومة والورود. وهذه المصطلحات قد ركّزها الشيخ، ولم تكن معروفة قبله. وكلّ هذه البحوث الاصولية الجليلة والبديعة قد وضّحت في نفس الوقت مسار الاستدلال الفقهي ومنهجه الدقيق.
وقد تخرّج على الشيخ الأعظم فقهاء كبار أمثال:
الميرزا الشيرازي الكبير (ت/ ۱۳۱۲ ه) والشيخ حبيب اللَّه الرشتي (ت/ ۱۳۱۲ ه)، و
الشيخ ملا علي الكني (ت/ ۱۳۰۶ ه)، والشيخ محمّد حسن الآشتياني (ت/ ۱۳۱۹ ه)، ومئات من المحققين والمجتهدين.
كما تخرّج على يد تلامذة
الشيخ الأعظم أجيال من الفقهاء والمجتهدين أمثال:
المحقق الخراساني صاحب كفاية الاصول (ت/ ۱۳۱۹ ه) والمحقق آغا رضا الهمداني (ت/ ۱۳۲۲ ه) و
السيد محمّد باقر الفشاركي (ت/ ۱۳۱۴ ه) والميرزا محمّد حسن الشيرازي (ت/ ۱۳۱۲ ه) و
الميرزا محمّد تقي الشيرازي (ت/ ۱۳۳۸ ه) والسيد اسماعيل الصدر (ت/ ۱۳۳۸ ه).
وتتلمذ على يد هذه الطبقة جيل آخر، أمثال: الميرزا محمّد حسين النائيني (ت/ ۱۳۵۵ ه) و
الشيخ ضياء الدين العراقي (ت/ ۱۳۶۱ ه) والشيخ محمّد حسين الاصفهاني الكمپاني (ت/ ۱۳۶۱ ه) والشيخ عبد الرحيم بن الشيخ عبد الحسين الحائري (ت/ ۱۳۶۷ ه) و
السيد آغا حسين البروجردي (ت/ ۱۳۸۰ ه)، وغيرهم.
كما وتخرّج على هذه الطبقة:
السيد محسن الطباطبائي الحكيم (ت/ ۱۳۹۰ ه) و
الامام السيد روح اللَّه الموسوي الخميني (ت/ ۱۴۰۹ ه) و
السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي (ت/ ۱۴۱۳ ه) والسيد محمّد رضا الگلپايگاني (ت/ ۱۴۱۴ ه). ومئات من العلماء والمجتهدين المعاصرين، وقد بلغت الأبحاث الفقهية والاصولية والرجالية في هذا العصر على يد هؤلاء الأعلام مرحلة من التطوّر والشمول والتفوّق العلمي لا نظير لها، لا في تاريخ هذا الفقه سابقاً، ولا في المذاهب الفقهية الاخرى.
وفيما يلي نورد أهم مميزات هذا الدور:
تطور علم اصول الفقه تطوّراً جوهرياً عمّا كانت عليه بحوثه ومسائله قبل ذلك. فأوّلًا- هذّبت مسائله عن البحوث المرتبطة بعلوم اخرى كانت قد دخلت في هذا العلم بشكل استطرادي، فاختلطت مع بحوثه وأصبحت بالتدريج من مسائله أو أدلّته، وهي بحوث كلامية أو أدبية أو فقهية أجنبية عن طبيعة البحث الاصولي.
وثانياً- اتّضحت طبيعة المسألة الاصولية وتعريفها الدقيق وميزانها الفني، ومكانة المسألة الاصولية ودورها العملي في الفقه و استنباط الحكم من أدلّته التفصيلية، حيث اتّضح انّه العلم بالأدلّة المشتركة للفقه والتي لا تختص بباب دون باب، سواء كانت الدليلية لفظية أو شرعية أو عقلية؛ فأصبح
علم الأصول بمثابة منطق الفقه الذي له طبيعته المختصة به واسلوبه المتميّز عن سائر العلوم في الموضوع والغاية، وفي منهج
الاستدلال والبحث، وليست مجموعة مسائل مقتبسة من هنا وهناك كما كان يتوهم سابقاً.
وثالثاً- قسّمت مسائل علم الاصول تقسيماً فنّياً وجامعاً، والتقسيم السائد اليوم كما يلي:
ويبحث فيها عن دلالات الألفاظ وأقسامها وبعض المواد أو الهيئات العامّة التي تقع في الخطابات الشرعية ويحتاج الفقيه إلى تحديد مدلولها كالأمر والنهي وأدوات المفهوم والعموم والخصوص و
الإطلاق والتقييد ونحو ذلك.
ويبحث فيها عن علاقات
الاستلزام أو التمانع بين الأحكام كالملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته أو حرمة ضده، أو
امتناع اجتماع الأمر والنهي ، أو الأمر بالضدين، أو اقتضاء حرمة عبادة أو معاملة لفسادها، ونحو ذلك. وتنقيح هذه العلاقات وتحديدها يؤثر في عملية
الاستنباط كثيراً حيث يشخص الدلالات الالتزامية للخطابات الشرعية كما ينقّح مدى التنافي والتعارض فيما بينها وما يترتب على ذلك من نتائج فقهية مهمة.
ويبحث فيها عمّا يثبت الحكم الشرعي الواقعي اثباتاً وجدانياً (قطعياً) أو تعبدياً (شرعياً)، ويدخل في هذا القسم البحث عن
الإجماع والشهرة والسيرة العقلائية والمتشرعية والظنون المعتبرة شرعاً كالظهورات وخبر الواحد. ويبحث في مقدمة هذا القسم عن بحوث تمهيدية في غاية
الأهمية والخطورة كالبحث عن حجّية القطع، والفرق بين الحجّية الذاتية والحجّية التعبدية، وحكم الشك في الحجّية، وحقيقة الحجّية التعبدية المعبّر عنها بالحكم الظاهري وكيفية اجتماعه مع الحكم الواقعي، وأنواع الحجج والأدلّة، وانقسامها إلى امارات (أدلّة اجتهادية) أو اصول عملية (أدلّة فقاهتية)، والفرق بينها وأقسامها. وقد تطوّرت هذه البحوث واستحدثت فيها نظريات جديدة واصطلاحات حديثة، وعلى أساس منها ارتفع الكثير من اللبس و
الاشتباه الذي كان يقع قبل ذلك في فهم الأدلّة أو استخدامها نتيجة عدم تنقيح هذه البحوث.
ويبحث فيها عن الوظائف المقرّرة شرعاً أو عقلًا للمكلف عند الشك في التكليف من
استصحاب أو
براءة أو
احتياط أو تخيير. وقد توسّع البحث عن هذه الاصول العملية وأقسامها ومواردها وأدلّتها وشروطها والنسب والعلاقات فيما بينها من ناحية، وبينها وبين الامارات من ناحية اخرى، وهي بحوث جليلة وبديعة فتحت أبواباً جديدة وأنماطاً لم تكن معهودة سابقاً من الاستدلال الفقهي.
ويبحث فيها عن التعارض بين الأدلّة وما يفترق به عن التزاحم- وهو باب ومصطلح استحدث أخيراً في علم الاصول- وانقسامه إلى: التعارض غير المستقر الذي يمكن فيه الجمع العرفي، فيبحث عن قواعد هذا الجمع. والتعارض المستقر الذي لا يمكن فيه الجمع العرفي، ويبحث عن أقسامه، ووقوعه تارة بين دليلين قطعيين سنداً، واخرى بين دليل قطعي واخرى ظني معتبر- خبر الثقة- وثالثة بين خبرين. وأحكام كل قسم من هذه الأقسام من حيث الترجيح أو التخيير أو التساقط، وهي أيضاً بحوث مهمة يحتاج اليها
الفقيه في أكثر الفروع والأبواب الفقهية. والحق انّ ما أنجزته المدرسة الاصولية في الفقه الامامي من التطوير والتجديد قد بلغ حدّاً يمكن اعتباره ولادة جديدة لعلم الاصول في المادّة والصورة والمنهج، يختلف عمّا كان عليه قبل ذلك.
ومنهج البحث في هذا العلم اليوم وإن كان فنياً ودقيقاً، إلّا انّه ليس عقلياً كما توهمه الاخباريون، وخلطوا بينه وبين
إعمال العقل في استنباط الأحكام، فضلًا عن كونه إعمالًا للرأي من قياس أو
استحسان . فإنّ الفنيّة والدقة في فهم الأدلّة الشرعية وتعريفها وتنويعها، وتشخيص العلاقة فيما بينها ولوازمها وآثارها، والتدقيق في تطبيقاتها منهج علمي متّبع في علم الفقه أيضاً، ومن دونه لا تكون عملية الاستنباط و
اكتشاف الحكم من الكتاب والسنة سليمة ولا دقيقة، بل يكون الاستنباط سطحياً وفي معرض الأخطاء والأخطار، وهذا المنهج هو الذي أمرنا به الشرع المقدّس في جملة من الروايات والتعليمات الصادرة عن أئمة
أهل البيت عليهم السلام ؛ حيث حرّضت على التدقيق والتعمق في فهم النصوص ودلالاتها، وتفريع الفروع والتشقيقات وردّها إلى اصولها وقواعدها العامّة، وهذا هو الذي يقع بشكل فنّي وعلمي دقيق في المناهج الاصولية والفقهية.
تطور صناعة الاستدلال الفقهي من حيث المضمون ومنهج الفقاهة والاستدلال، فمن ناحية اتسعت آفاق البحث في كل مسألة فشملت أدق التفريعات والشقوق والتقادير المتصورة فيها، كما شملت جميع الأقوال والوجوه التي قيلت أو يمكن أن تقال في المسألة، فتنامت البحوث الفقهية وازداد حجمها وحجم الاستدلالات فيها خلال حركة
الاجتهاد المفتوح بابها عبر مئات السنين إلى عصرنا الحاضر.
ومن ناحية اخرى: امتازت عملية الفقاهة في هذا الدور بالاستفادة من المنهج الاصولي وما انجز فيه من تطوّر وعمق، فانعكس ذلك على صعيد الفقه، فأضفى على بحوثه المتانة والمنهجية والتجديد. وأصبح لكل قسم من أقسام الفقه منهجه المتميز والخاص به، فمنهج الاستدلال والبحث في فقه العبادات يختلف عن منهج فقه المعاملات من حيث نوع الأدلّة المتوفرة في كل منهما، ففي العبادات تتوفر النصوص والروايات الخاصة، بخلاف العقود والايقاعات حيث يستند فيها غالباً إلى العمومات والقواعد الثابتة بها أو بسيرة العقلاء.
كما انّ طبيعة المناقشات والاستدلالات في فقه العبادات تختلف عنها في المعاملات، وكذلك القواعد والأحكام العامّة التي يرجع إليها في العبادات تختلف عنها في العقود والايقاعات إلى غير ذلك من الجهات التي أصبحت اليوم متمايزة ومتّبعة في مناهج الاستدلال في الأبواب الفقهية الرئيسة مما لم تكن بهذا الوضوح والتمايز والمنهجية في أي عصر مضى رغم الجهود الجبارة والفتوحات العلمية الكبيرة التي قام بها فقهاؤنا المتقدمون في تطوير علوم الشريعة.
ومن جملة ما يتميّز به منهج الاستدلال الفقهي المعاصر هو تقنين عملية الاستدلال بالأدلّة اللبية المتمثلة في الاجماعات والشهرات والسيرة العقلائية أو المتشرعية، فإنّ هذه العناوين وإن لم تكن حجة شرعية بعناوينها الذاتية ولكنها يمكن أن تكشف في بعض الأحيان عمّا هو دليل شرعي على الحكم، أو تؤثر سلباً أو ايجاباً على دليلية دليل شرعي، فيكون مؤثراً في النتيجة الفقهية المستنبطة. فبالنسبة للاجماعات والشهرات إذا كانت من قبل قدماء الأصحاب يمكن أن تكشف عن وجود موقف شرعي متسالم عليه في عصر الأئمة عند المتشرعة أو عند أصحاب
الأئمة عليهم السلام ، أو يكشف عن وجود سنّة غير واصلة الينا في تلك المسألة، كما يمكن أن تؤثّر في الكشف عن خلل ونقص في بعض شروط حجّية الرواية المعتبرة بحسب ظاهرها، أو تؤثّر في فهم أدق وقراءة أصح من النص المعتبر الذي يستند إليه. وقد نقّحت في البحوث الاصولية والفقهية الحالات والشروط التي يتم فيها أحد هذه الامور.
وبالنسبة للسيرة العقلائية أو المتشرعية تعرض الفقهاء إلى توضيح أنحاء الاستدلال بها سواء في مجال
استكشاف كبرى الحكم الشرعي- وقد بحثوا شروط ذلك مفصلًا في اصول الفقه- أو استكشاف دلالة بالسيرة في دليل لفظي أو غير لفظي. أو تشخيص شرط ارتكازي منها يحقق موضوعاً لقاعدة اخرى وحكم شرعي ثابت كما في اكتشاف الشروط الضمنية كشرط السلامة وعدم الغبن في عقود المعاوضة أو استكشاف ما هو المضمون الانشائي المقرر في كل عقد بالسيرة والارتكازات العرفية والعقلائية إلى غير ذلك من الامور.
فهذه أنحاء من الاستدلال و
الاستعانة بالسيرة دخلت في مناهج البحث والاستدلال الفقهي المعاصر، ولم تكن بهذه المثابة سابقاً.
وظهور نظريات جديدة فيه للتوثيق أو التأكد من وثاقة الراوي وبالتالي صحة أسانيد الروايات؛ وقد تبلورت من خلال ذلك قواعد رجالية عامّة للتوثيق لم تكن معروفة سابقاً، كما انّه حصلت دراسات متقنة وموسعة استقرائية لتتبع قرائن وشواهد تاريخية أو رجالية لم تطرح في المدونات الرجالية السابقة، يمكن على أساسها توثيق جملة من الرواة أو تشخيصهم أو تشخيص طبقتهم أو مذهبهم وحالهم، أو غير ذلك من الامور التي تفيد في مجال الأخذ برواية أو طرحها، وقد صنّفت في ذلك مؤلّفات ومعاجم حديثية تفوق في حجم المعلومات ودقتها ما في المصنفات الرجالية السابقة.
انفتح الفقه الاستدلالي على الأفكار والنظريات الحديثة في الفقه الوضعي وغيره، فاستجدت موضوعات فقهية مستحدثة عالجها الفقه الامامي معالجة استدلالية وعلمية، وقد يستلزم ذلك
استعراض النظريات الاخرى والتعرّض لمبانيها وأدلّتها من أجل نقدها ومناقشتها أو تخريج ما يمكن قبوله منها على أساس المنهج الفقهي، فنجمت عن ذلك بحوث فقهية مقارنة حديثة. وقد ساعد على ذلك
انفتاح باب الاجتهاد لدى الشيعة واستمرار حركة التجديد فيه حيث تحدّد وتأصّل المنهج الفقهي الصحيح وتشخّصت معالمه الثابتة والمتغيرة، مما وفّر للفقه الشيعي القدرة على
استيعاب كل المسائل المستحدثة ومعالجتها و
استخراج أحكامها من الأدلّة الشرعية، ثمّ وضع النظريات والنظُم الاسلامية من خلالها دون
انسداد في الاجتهاد والاستنباط ودون تجاوز للمنهج الفقهي السليم.
اهتمام الفقهاء بشئون الامّة وحاجات الناس الدينية والفقهية وتطبيق الشريعة فيها، فمن ناحية اهتم الفقهاء بربط الامّة بالشريعة عن طريق التقليد و
إرجاع الناس إلى الفقهاء والمراجع العظام، وتنظيم جهاز المرجعية الدينية وتقويته وتشييد الحوزات العلمية وتربية العلماء والمبلّغين فيها، ونشرهم في أرجاء البلاد ونصب الوكلاء فيها وجباية الأموال والحقوق الشرعية وإيصالها للمرجعية الدينية، والتصدي لما يمكن حلّه من مشكلاتهم وفصل خصوماتهم وتيسير امورهم بالطرق الشرعية، فكان ذلك تطوّراً اجتماعياً خطيراً وتجسيداً بديعاً لفكرة النيابة العامّة عن الامام المعصوم عليه السلام في عصر الغيبة.
ومن ناحية ثانية تصدّى الفقهاء في هذا العصر لمواجهة الحضارة الغربية ومعطياتها، التي بدأت تغزو العالم الاسلامي وتستعمر بلاد المسلمين وتسيطر على ثرواتهم ونفوسهم وتفسد أنظمتهم وحكوماتهم. فكان لا بد للفكر الديني والفقهي أن يواجه هذا المدّ الحضاري الكافر وأن ينفتح على قضايا ومشاكل جديدة فكرية وقانونية وسياسية بدأت تدخل بلاد
الإسلام فيعطي فيها موقفاً شرعياً واضحاً وعلاجاً عملياً مقنعاً. وقد تصدّى جملة من الفقهاء العظام في هذا العصر لأداء هذا الدور الرسالي، فظهرت دراسات علمية ومؤلفات معمّقة وبديعة في
الاقتصاد الاسلامي والفلسفة الاسلامية والفقه السياسي ونظرية الحكم في
الإسلام وغير ذلك.
كما صدرت ممارسات ميدانية من قبل المرجعية الدينية للتصدّي للكفار، ومواجهة النفوذ الاستعماري الغربي وتعبئة طاقات الامّة ضد المستعمرين، كما نجد ذلك في فتوى الميرزا الشيرازي الكبير (ت/ ۱۳۱۲ ه) بتحريم التنباك ضد مطامح
الاستعمار البريطاني في
ايران في
العهد القاجاري ، ونجد أيضاً في فتوى الشيخ محمّد تقي الشيرازي (ت/ ۱۳۳۸ ه)- تلميذ الميرزا الكبير- بالجهاد في العراق ضد
الاحتلال البريطاني والذي اشترك فيه الفقهاء مع الشعب في الجهاد ضد الانجليز، وموقف المحقق الخراساني (ت/ ۱۳۲۹ ه) والميرزا النائيني قدس سره (ت/ ۱۳۵۵ ه) وأفكارهم ضد
الاستبداد القاجاري وطرح نظرية الحكم الدستوري الشرعي.
وكان آخر حلقات هذه الجهود الفقهية والسياسية المباركة موقف المرجعية العليا في ايران وعلى رأسهم الإمام الخميني قدس سره (ت/ ۱۴۰۹ ه) من الحكم البهلوي الغاشم العميل للشيطان الأكبر أمريكا حيث استطاع
الإمام أن يستنهض الامّة ويعبّئ طاقاتها ضده حتى سقوطه و
إقامة حكم إسلامي يعتمد النظرية الفقهية طبقاً لمذهب أهل البيت عليهم السلام في الحكم وهي نظرية (
ولاية الفقيه ) التي كان قد شرحها وهذّبها وأوضح معالمها في بحوثه الفقهية التي ألقاها على تلامذته في النجف الأشرف ثمّ وفّقه اللَّه سبحانه وتعالى لتطبيقها وتجسيدها واخراجها إلى النور في إيران الإسلام. فكانت
الجمهورية الاسلامية اليوم وما فيها من دستور وقوانين مستمدّة من
الفقه الاسلامي حصيلتها وثمرة من ثمرات فكر وجهاد هذا الإمام الذي كان من أبرز فقهاء ومراجع هذا العصر الفقهي الزاهر، فسلام اللَّه عليه يوم ولد، ويوم حقّق هذا الانجاز العظيم، ويوم ارتحل عنّا، ويوم يبعث حيّاً. وبهذا نختم البحث عن تاريخ فقه أهل البيت عليهم السلام والمراحل التي مرّ بها وآخر دعوانا أن الحمد للَّه ربّ العالمين.
الموسوعة الفقهية، ج۱، ص۶۹- ۷۷.