سقوط الأذان في عصر الجمعة
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
اختلف الفقهاء في سقوط الأذان عن صلاة العصر من يوم
الجمعة إذا جمع بين الفريضتين، فالأكثر بل المشهور بينهم السقوط،
من دون فرق بين أن يصلّي الجمعة أو الظهر،
بل هو مجمع عليه في صورة إقامة الجمعة.
قال
الشيخ الطوسي : «ولا يجوز الأذان لصلاة العصر يوم الجمعة، بل ينبغي إذا فرغ من
فريضة الظهر أن يقيم للعصر، ثمّ يصلّي إماماً كان أو مأموماً».
وقال العلّامة الحلّي: «فرعان: الأوّل:إذا صلّى الجمعة أقام للعصر وصلّاها بغير أذان، ذهب إليه علماؤنا أجمع. الثاني: لو صلّى الظهر لفوات أحد شرائط الجمعة بأذان وإقامة... هل يسقط الأذان الثاني عنه أم لا؟ قال الشيخ: يسقط، وقال
المفيد :... يؤذّن ويقيم للعصر... والوجه عندي الأوّل...».
وقال
السيد اليزدي : «يسقط الأذان في موارد: أحدها: أذان عصر يوم الجمعة إذا جمعت مع الجمعة أو
الظهر ».
وذهب بعض آخر إلى
اختصاص السقوط بمن صلّى الجمعة خاصّة، كما هو منقول العلّامة عن المفيد في عبارته المتقدّمة، وصريح
ابن إدريس في عبارته الآتية، وظاهر غير واحد من المتأخّرين عنه،حيث نسب القول بالسقوط فيما لو صلّى الظهر أربعاً إلى القيل.
وهو الذي مال إليه المحقّق النجفي
أيضاً.
قال ابن إدريس: «فإذا فرغ
الإمام من صلاة الجمعة صلّى
العصر بإقامة فحسب دون الأذان، فأمّا من صلّى الظهر أربعاً منفرداً أو مجمعاً في جماعة فالمستحبّ له الأذان والإقامة جميعاً لصلاة العصر مثل سائر الأيّام».
بل حمل الظهر على الجمعة- في عبارة من أطلق سقوط الأذان لعصر يوم الجمعة إذا فرغ من صلاة الظهر- مؤيّداً ذلك بورودها في باب الجمعة لا الجماعة.
وذهب السيد العاملي
والفاضل النراقي والسيد الخوئي إلى عدم سقوط الأذان في عصر يوم الجمعة كغيره من الأيّام مطلقاً.قال صاحب
المدارك - بعد ذكر ما في
السرائر -: «ونقل عن
ابن البرّاج والمفيد في الأركان أنّهما استحبّا الأذان لعصر يوم الجمعة كغيره من الأيّام... وهو المعتمد؛ لإطلاق الأمر الخالي من التقييد».
وقال الفاضل النراقي: «إنّ في سقوط أذانها مطلقاً كما عن
المبسوط والنهاية ، أو عمّن صلّى الجمعة كما عن السرائر... أو عدم السقوط مطلقاً كما عن الأركان بل
المقنعة والقاضي، أقوالًا، أصحّها الأخير؛ للعمومات والإطلاقات الخالية عن المخصّص».
وقال السيد الخوئي: «إنّ ما اختاره صاحب المدارك- تبعاً للمحقق الأردبيلي من عدم السقوط لدى الجمع مطلقاً... سواء صلّى صلاة الجمعة أم الظهر- هو الصحيح...».
وقد نسب القول بعدم السقوط إلى المحقّق الأردبيلي في مجمع الفائدة، كما هو ظاهر عبارته في مبحث صلاة الجمعة ، ولكن هذا إنّما يصحّ منه لو قلنا بأنّ السقوط عزيمة، وإلّا فقد قال في موضع آخر : لا شكّ بل لا خلاف في سقوط أذان العصر يوم الجمعة إذا جمع بينها وبين الظهر، بمعنى عدم استحبابه كما كان.
منها: النصوص الكثيرة الدالّة على
الاكتفاء بأذان وإقامتين لدى الجمع بين صلاتي الظهر والعصر أو المغرب
والعشاء المستفاد منها كبرى كلّية وهي سقوط الأذان في موارد الجمع مطلقاً، كصحيحة ابن اذينة عن رهط،
وغيرها.
ونوقش فيها:
أوّلًا: بأنّها إنّما تدلّ على جواز ترك أذان العصر والعشاء مع الجمع بين الفرضين في يوم الجمعة وغيره، وهو خلاف المدّعى.
واجيب عنه بأنّ المدّعى ليس إلّا سقوط أذان عصر الجمعة إذا أتى بها على الوجه المندوب إليه والمأمور به والموظّف فيها من الجمع بينها وبين الظهر في وقت واحد، فلا يكون خلاف المدّعى.
وثانياً: بأنّ فهم الكلّية غير ظاهر؛ إذ مجرّد فعل
النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يدلّ عليه؛ لجواز أن يكون تركه للمستحب كتركه
للنافلة ، وحكاية الإمام عليه السلام يمكن أن تكون تنبيهاً على جواز تركه كالجمع بين الصلاتين.
وقال السيد الخوئي: «إنّه لم يظهر من تلك النصوص سقوط الأذان عن الاستحباب بحيث يستوجب تخصيصاً في دليل مشروعيّته، وإنّما هو لأجل التخفيف والتوسيع... فمن الجائز بقاء الاستحباب على حاله، وإنّما لم يعمل به، لأنّ البدار
والاستعجال لصلاة العصر أفضل لمصلحة تقتضيه كالتسهيل على الامّة أو الحاجة المهمّة... فيكون من باب تقديم الأرجح على الراجح لا من باب التخصيص، فالكبرى(الكلّية) غير ثابتة».
ومنها: رواية
حفص بن غياث عن جعفر ابن محمّد عن أبيه عليهما السلام قال: «الأذان الثالث يوم الجمعة بدعة».
بدعوى أنّ الثالث في يوم الجمعة لا يكون إلّا للعصر كما فهمه بعض الفقهاء.
وقد يناقش بضعف الرواية سنداً بحفص ابن غياث؛ فإنّه عامّي، ودلالةً باحتمال
إرادة أذان ما قبل
زوال يوم الجمعة الذي أبدعه عثمان أو معاوية.
لكن ضعف الرواية سنداً منجبر بعمل الأصحاب؛ لورود (حفص) في طريق الشيخ،
فالقدح فيه من جهة المذهب في غير محلّه؛ لوثاقته، ودلالةً بحمل الثالث على ما أبدعه عثمان أو معاوية قبل ظهر الجمعة بعيد، على أنّه إذا دار الأمر بين البدعة والسنّة فالأولى تركه.
وباستقرار
سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم
والأئمة المعصومين عليهم السلام والتابعين على ترك الأذان لصلاة العصر يوم الجمعة لدى الجمع وإن خصّه بعض بصلاة الجمعة دون الظهر،
فإنّه لو لم يكن ساقطاً لصدر منهم ولنقل إلينا بطبيعة الحال.ونوقش فيها بأنّها وإن كانت مستقرّة إلّا أنّ دلالتها على عدم المشروعيّة غير واضح؛ لجواز كون الأذان مشروعاً وراجحاً في نفسه، لكنّه يترك
إسراعاً في
إتيان صلاة العصر رعاية لحال الضعفاء حيث لا نافلة يشتغلون بها، فالأرجح ترك الأذان.
واستدلّ للقول بالسقوط في صورة أداء الجمعة فقط- مضافاً إلى تحقّق السيرة في ذلك-:
۱- بالإجماع، بدعوى
انعقاد الإجماع على استحباب الأذان لكلّ صلاة من الخمس، خرج عنه المجمع عليه وهو من صلّى الجمعة فيبقى الباقي على العموم.
ونوقش فيه بمنع ذلك لتصريح بعض الفقهاء بعدم السقوط مطلقاً كما تقدّم، فادّعاؤه في موضع الخلاف باطل،
بل غايته
الشهرة الفتوائيّة التي لا
اعتبار بها.
۲-
وبقاعدة التسامح المصحّحة لرواية احتمال الاستحباب في صورة عدم الجمع بالجمعة والتي لا يعارضها احتمال التحريم بعد أن كان منشؤه التشريع.
وأمّا القول بعدم السقوط فاستدلّ له بعموم الأخبار الصحيحة وإطلاقاتها المتضمّنة لمشروعيّة الأذان في الصلوات الخمس وعدم نهوض ما دلّ على السقوط؛ لمعارضته بما تقدّم، مع ضعفه سنداً ودلالة.
ثمّ إنّه على القول بالسقوط ظاهر النصوص
والفتاوى
اختصاص ذلك بالجمع من دون أن يفرّق بينهما ولو بنافلة أو نحوها، وإلّا فلا يسقط الأذان؛ إذ المقتضي للسقوط- كما تقدّم- إمّا
الإجماع أو السيرة المتيقّن منهما صورة الجمع.
ومرجوحيّة التفريق لا تنافي استحباب الأذان الثابت بالاستصحاب وإطلاق الأدلّة وعموماتها.
واستدلّ له بخصوص خبر
رزيق عن الصادق عليه السلام.
نعم، يظهر من الشيخ الطوسي في النهاية
والشهيد في البيان
سقوط أذان عصر الجمعة ولو مع التفريق بينهما بالنوافل، حيث جوّزا التنفّل بستّ بين الفرضين وأطلقا سقوط أذان العصر. قال الفاضل الاصفهاني- بعد
استظهار ذلك-:«ويقوّيه النظر إلى أنّ الأذان للإعلام والناس مجتمعون مع ضيق الوقت لئلّا تنفضّ الجماعة».
ولكن حمل صاحب الجواهر إطلاق بعض الفقهاء- بقرينة التعليل الموجود منهم في كتبهم الاستدلالية- على غير صورة التفريق بالنوافل هذه.
وهل السقوط في المقام لخصوصيّة في الزمان أو أنّه مقتضى الجمع بين الفرضين؟المستفاد من ظاهر كلمات الفقهاء وتعليلهم السقوط بالجمع
والاستشهاد بصحيح فضيل وزرارة- المتقدّمين- أنّ السقوط ليس لخصوصيّة في الجمعة، بل كلّ ذلك يشهد على أنّ الغرض هو
إثبات سقوطه يوم الجمعة حين الإتيان بما هو وظيفته من الجمع بين الصلاتين في أوّل الوقت من حيث الجمع. نعم، لمّا كان يومها مختصّاً باستحباب الجمع ذكر فيه ذلك.
وخالف ذلك
الميرزا القمّي حيث قال:«إنّ
رجحان الترك هنا لخصوصيّة الزمان... لا لمطلق الجمع، وإلّا فلا ريب في استحباب الجمع في الجمعة، ومع الجمع يجوز الترك رخصة».
ثمّ إنّ صاحب
الجواهر ناقش في كون الجمع هو العلّة للسقوط بأنّه ليس في شيء من النصوص
إشارة إلى العلّة المذكورة كي يصحّ الاستناد إليها، ولا شهرة محقّقة عليها، بل لو كان الجمع هو العلّة ما اختلف معلولها رخصة وحرمة أو كراهة.
ثمّ اختلف الفقهاء في أنّ السقوط هنا رخصة أو عزيمة.فذهب بعضهم إلى أنّ السقوط عزيمة؛
لأنّ العبادة توقيفيّة مبنيّة على التوظيف من الشارع، ولم يعلم منه الأذان للثانية في صورة الجمع مطلقاً، بل المعلوم من الأخبار المتقدّمة الدالّة على حكاية فعله صلى الله عليه وآله وسلم وفعل الأئمة عليهم السلام خلافه، ولصحيحة عبد اللَّه بن سنان
الدالّة على سقوط أذان عصر عرفة وعشاء المزدلفة، بدعوى أنّ الظاهر إنّ ترك الأذان في الصورتين ليس إلّا لخصوص الجمع لا للبقعة، وقد دلّت على أنّ السنة هو ترك الأذان فيكون الإتيان به بدعة وضلالة؛ لمخالفته للسنّة حيثما كان.
هذا مع
اعتقاد التشريع كما نصّ عليه الشهيد،
وبالتقييد يندفع
التهافت الظاهر بين كلامه هنا وما قاله عند البحث في صلاة الجمعة من قوله: «والأقرب كراهة أذان العصر هنا (يوم الجمعة) مطلقاً». واحتمله المقدّس الأردبيلي مع احتماله تحريم القصد فقط.
واورد على ذلك:
۱- بأنّ عدم فعلهم عليهم السلام وعدم
النقل عنهم عليهم السلام لا يدلّ على التحريم.
۲- وبأنّ تركهم عليهم السلام له مع الجمع منتقض بترك التطوّع في بعض الموارد المعلوم استحبابه.
۳- وبأنّهم عليهم السلام لم يكونوا يأمرون بالجمع إلّا في الموارد التي يناسبها التوسعة والتسهيل. كما أنّه لم يصدر منهم عليهم السلام الجمع أحياناً إلّا لبعض الامور المقتضية له من
الاستعجال أو بيان الرخصة أو غير ذلك ممّا يناسبه الاكتفاء بأذان واحد للفرضين.
۴- وبأنّ الروايات المتمسّك بها لإثبات التحريم أيضاً ضعيفة سنداً ودلالةً.
واجيب بأنّه- على تقدير الخدشة في كلّ واحد واحد من الأدلّة بقصوره إلّا عن إفادة الرخصة في الترك الغير المنافية لاستحباب فعله- أمكن أن يقال: إنّ هذا بالنظر إلى كلّ واحد واحد منها، وأمّا بملاحظة المجموع فربما يحصل منها- خصوصاً بعد شهرة القول بالمنع ونقل الإجماع أو السيرة عليه- الظنّ القوي بكون السقوط مع الجمع مطلقاً عزيمة لا رخصة.
وذهب بعض آخر إلى أنّ السقوط رخصة إمّا بمعنى عدم التأكيد في استحبابه- كما في غيره- من دون كراهة ذلك، وهو ظاهر
الشهيد في
الدروس ،
واختيار بعض المتأخّرين،
وقال بعد ذلك: «وإن كان الأحوط الترك». ونفى عنه البعد المحقق الأردبيلي أيضاً؛
استناداً إلى إطلاق أوامر الأذان أو عموماته، بدعوى أنّ عمدة المستند في السقوط هو الإجماع والسيرة، ولم يثبت الإجماع على واحد من الحرمة أو
الكراهة بعينه، والسيرة أعمّ من كلّ منهما، ومع إجمالهما تكون إطلاقات التشريع الدالّة على وجود المصلحة المصحّحة للتعبّد به والتقرّب بفعله بلا مقيّد لها.
أو بمعنى كراهة الإتيان به، وهو اختيار بعض آخر،
ونفى عنه البعد في
الكفاية .لكنّ الكراهة في الأذان لا يتصوّر لها معنى سوى ترك الأولى،
أو أنّه أقلّ ثواباً بالنسبة إلى غيره.
وذهب المحقّق العاملي إلى الكراهة، بمعنى أنّه أقلّ ثواباً بالنسبة إلى نفس الطبيعة، لا أنّه أقلّ ثواباً من فرد آخر، بدعوى أنّ الإذن في تركه مع تركه دائماً يرشد إلى أنّ المرجوحيّة فيه بالنسبة إلى العدم لا بسبب نقصان ثوابه عن ثواب فردٍ آخر في موضع آخر.
ونوقش فيه بأنّ ذلك لا يقتضي مرجوحيّة الفعل بالنسبة إلى الترك المستفادة من المداومة والمواظبة عليه.اللهمّ إلّا أن يكون منشأ تلك القلّة مفسدة في ذلك الفرد يرجّح مراعاتها على
مراعاة الثواب الحاصل بسبب الفعل، ولا ينافي ذلك
العبادة .
الموسوعة الفقهية، ج۸، ص۱۸۲-۱۹۰.