عدالة الشاهدين عند القاضي
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
إن عرف
عدالة الشاهدين حكم، وان عرف فسقهما اطرح، وإن جهل الامرين، فالاصح: التوقف حتى يبحث عنهما.
إن عرف الحاكم
عدالة الشاهدين حكم، وإن عرف فسقهما أطرح شهادتهما. وإن جهل الأمرين فالأصح التوقف في الحكم بشهادتهما حتى يبحث عنهما مطلقاً ولو علم بإسلامهما، أو صرح المشهود عليه بعدالتهما، على إشكال في هذا ينشأ:
من أنّ البحث والتعديل لحقّ الله تعالى، ولذا لا يجوز الحكم بشهادة الفساق، وإن رضي به الخصم، وأنّ الحكم بشهادة
الإنسان حكم بتعديله، ولا يجوز
بخبر الواحد إجماعاً، كما حكاه في
الإيضاح.
ومن أنّ البحث لحقّ المشهود عليه، وقد أقرّ بعدالتهما، وأنّه أقرّ بوجود شرط الحكم، وكل من أقرّ بشيء نفذ عليه؛ لقوله (علیهالسّلام): «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز»
.
وبهذا أفتى
الإسكافي والفاضل المقداد في
التنقيح والفاضل في
التحرير والإرشاد والقواعد، وولده في شرحه قاطعاً به
كالإسكافي والمقداد، دون والده في القواعد، وقوّاه في
الدروس أيضاً
.
وهو كذلك؛ لما رواه في الوسائل عن مولانا
الحسن بن علي العسكري (علیهالسّلام) في تفسيره عن آبائه عن
عليّ (علیهالسّلام): قال: «كان
رسول الله (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) إذا تخاصم إليه رجلان قال للمدّعي: ألك حجة؟ فإن أقام بيّنة يرضاها ويعرفها، أنفذ الحكم على المدّعى عليه» إلى أن قال: «وإذا جاء بشهود لا يعرفهم بخير ولا شرّ، بعث رجلين من خيار أصحابه يسأل كلّ منهما من حيث لا يشعر الآخر عن حال الشهود في قبائلهم ومحلاّتهم، فإذا أثنوا عليه قضى حينئذ على المدعى عليه، وإن رجعا بخبر سيّئ وثناء قبيح، لم يفضحهم، ولكن يدعو الخصم إلى
الصلح، وإن كان الشهود من أخلاط الناس، غرباء لا يعرفون، أقبل على المدّعى عليه فقال: ما تقول فيهما؟ فإن قال: ما عرفنا إلاّ خيراً، غير أنّهما غلطا فيما شهدا عليّ، أنفذ شهادتهما، وإن جرحهما وطعن عليهما أصلح بين الخصمين، أو أحلف المدّعى عليه وقطع الخصومة بينهما»
.
والرواية طويلة ومحصّلها ما ذكرنا من دون نقيصة، وهي صريحة في وجوب البحث عن الوصفين لو جهلا، وإطلاقها يشمل صورة الجهل بإسلامهما وغيرها، بل لعلّها بحكم
التبادر وغلبة
الإسلام في المتخاصمين وشهودهم في زمانه (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) ظاهرة في الثانية جدّاً.
ولا خلاف في الحكم في الصورة الأُولى على الظاهر المصرح به في جملة من العبائر
.
وأمّا ثبوته في الثانية فهو الأشهر بين الطائفة، كما صرح به
الشهيدان وغيرهما من الجماعة
.
خلافاً للإسكافي
والمفيد في كتاب
الإشراف والشيخ في
الخلاف، فلم يوجبوا البحث، بل اكتفوا بظاهر الإسلام
، بناءً منهم على أنّ الأصل فيه العدالة، وادعى الأخير عليه إجماع الطائفة
، ومبنى الخلاف هنا على الاختلاف في تفسير العدالة، هل هي ظاهر الإسلام مع عدم ظهور
فسق، أو حسن الظاهر، أو الملكة، أي: الهيئة الراسخة في
النفس الباعثة لها على ملازمة
التقوى والمروءة؟.
وينبغي القطع بضعف القول الأوّل منها؛ لمخالفته الرواية المتقدّمة الدالّة على لزوم البحث مع المعرفة بالإسلام أيضاً، بناءً على الظهور الذي قدّمنا.
واستصحاب عدم ثبوت المشروط بالعدالة إلاّ بعد تيقّنها، ولا
يقين هنا؛ لعدم دليل على كونها مجرد الإسلام مع عدم ظهور الفسق أصلاً، عدا
الإجماع المتقدم، والنصوص المدعى عليه دلالتها.
منها الصحيح: في أربعة شهدوا على رجل محصن
بالزنا، فعدّل منهم اثنان ولم يعدّل الآخران، قال: فقال: «إذا كانوا أربعة من المسلمين لا يعرفون بشهادة الزور أُجيزت شهادتهم جميعاً، وأُقيم
الحد على الذي شهدوا عليه، إنّما عليهم أن يشهدوا بما أبصروا به وعلموا، وعلى الوالي أن يجيز شهادتهم، إلاّ أن يكونوا معروفين بالفسق»
.
والمرسل: عن البيّنة إذا أُقيمت على الحق، أيحلّ للقاضي أن يقضي بقول البينة من غير مسألة إذا لم يعرفهم؟ قال: «خمسة أشياء يجب على الناس الأخذ بها بظاهر الحكم:
الولايات،
والتناكح،
والمواريث،
والذبائح، والشهادات، فإذا كان ظاهره ظاهراً مأموناً، جازت شهادته ولا يسأل عن باطنه»
.
والخبر: عن شهادة من يلعب بالحمام؟ فقال: «لا بأس به إذا لا يعرف بفسق»
.
وفي آخر: «كلّ من ولد على
الفطرة وعرف بصلاح في نفسه جازت شهادته»
.
وفي ثالث: «المسلمون عدول بعضهم على بعض إلاّ مجلود في حدّ لم يتب منه، أو معروف بشهادة زور، أو ظنين»
.
وفي الجميع نظر: فالإجماع بوهنه بمصير الأكثر على خلافه، مع عدم قائل بما ادّعى عليه عدا الناقل له وبعض من سَبَقَه، ومع ذلك فالمحكي عنه وعن الموافق له ما يوافق القوم، فعن
الإسكافي: إذا كان الشاهد حراً، بالغاً، مؤمناً بصيراً، معروف
النسب، مرضيّاً، غير مشهور بكذب في شهادة، ولا بارتكاب كبيرة، ولا مقام على صغيرة، حسن التيقّظ، عالماً بمعاني الأقوال، عارفاً بأحكام الشهادة، غير معروف بحيف على معامل، ولا تهاون بواجب من علم أو عمل، ولا معروف بمباشرة أهل الباطل والدخول في جملتهم، ولا
بالحرص على الدنيا، ولا بساقط المروءة، بريئاً من أهواء أهل البدع التي توجب على
المؤمنين البراءة من أهلها، فهو من أهل العدالة المقبول شهادتهم
.
وعن المفيد:
العدل من كان معروفاً بالدين والورع عن
محارم الله.
وعن
النهاية: العدل الذي تجوز شهادته للمسلمين وعليهم، هو أن يكون ظاهره ظاهر
الإيمان، ثمّ يعرف بالستر والصلاح والعفاف
، إلى آخر ما سيأتي في بعض الصحاح، وقريب منه عن
المبسوط، هذا.
مع أنّه معارض بما يظهر من الفاضل المقداد في
كنز العرفان من كون تفسير العدالة بالملكة مجمعاً عليه، حيث نسبه إلى
الفقهاء بصيغة الجمع المحلّى باللام المفيد للعموم لغة
. وإليه يشير كلام
المقدس الأردبيلي في شرح الإرشاد أيضاً، حيث قال: وقد عُرّفَتْ في الأُصول والفروع من الموافق والمخالف بالملكة التي يقتدر بها على ترك الكبائر، و (عدم) الإصرار على الصغائر، و (ملازمة) المروءات
.
وأظهر منهما في الدلالة على انعقاد الإجماع على خلاف الإجماع المتقدم كلام
الماتن في
الشرائع، حيث نسب الرواية الدالة على الاكتفاء في العدالة بظاهر الإسلام إلى الشذوذ والندرة
.
وأمّا النصوص، فبضعف سند أكثرها، وعدم جابر لها، مع عدم وضوح دلالة جملة منها، كالمرسل المشترط كون ظاهره ظاهراً مأموناً.
والخبر المشترط زيادةً على
الولادة على الفطرة كونه معروف الصلاح في نفسه، والشرطان كما يحتمل أن يكون المراد بهما عدم ظهور الفسق، كذا يحتمل أن يراد بهما ما يزيد عليه من الملكة، أو حسن الظاهر، ومعه لا يمكن الاستدلال، سيّما مع ظهوره منهما بحكم التبادر، وما سيأتي من الأخبار.
ومع ذلك فهي معارضة بظواهر
الكتاب،
والسنّة المستفيضة، بل المتواترة المانعة عن قبول شهادة الفاسق بالمرّة، بناءً على أنّ الفاسق اسم لمن ثبت له وصف الفسق الذي هو الخروج عن الطاعة في
نفس الأمر، ولا مدخليّة لسبق المعرفة به في حقيقته ومفهومه لغة، بل ولا عرفاً.
مع أنّ المنع عن قبول شهادته في الآية
معلّل بكراهة الوقوع في الندم، وهي كالصريحة بل صريحة في اعتبار الوصف الواقعي، ومقتضى تعليق الحكم عليه لزوم مراعاته والبحث عن ثبوته وعدمه في نفس الأمر، والإسلام كما يجامع هذا الوصف ظاهراً، كذا يجامعه واقعاً، وبسببه يحتمل الوقوع في الندم، فيجب الفحص عنه.
وقريب منها الكتاب والسنّة المستفيضة، بل المتواترة الدالّة على اعتبار العدالة، بناءً على أنّ المتبادر منها عرفاً وعادةً ليس هو مجرد
الإسلام مع عدم ظهور فسق جدّاً، سيّما بملاحظة ما يستفاد من جملة وافرة من
النصوص في موارد عديدة من اعتبار الأعدليّة، ولا يتأتّى إلاّ بقبولها المراتب المرتّبة ضعفاً وقوةً، ولا يكون ذلك إلاّ بتفسيرها بغير ذلك مما يرجع إلى أمر وجوديّ، وإلاّ فالأمر العدمي ولو ركّب مع وجوديّ لا يقبل المراتب، كما هو واضح.
ومع ذلك فالنصوص بردّها بالخصوص مستفيضة، ففي
الصحيح: بم تعرف عدالة الرجل من المسلمين حتّى تقبل شهادته لهم وعليهم؟ فقال: «بأن تعرفوه بالستر والعفاف، وكفّ البطن والفرج واليد واللسان، وباجتناب الكبائر التي أوعد الله تعالى عليها النار من
شرب الخمر، والزنا،
والربا،
وعقوق الوالدين، والفرار من الزحف، وغير ذلك، والدليل عليه أن يكون ساتراً لعيوبه، حتى يحرم على المسلمين تفتيش ما وراء ذلك من عثراته وعيوبه، ويجب عليهم تزكيته وإظهار عدالته في الناس، وأن لا يتخلّف عن جماعة المسلمين في مصلاّهم إلاّ من علّة، فإذا سئل عنه في قبيلته ومحلته قالوا: ما رأينا منه إلاّ خيراً، مواظباً على الصلوات، متعاهداً لأوقاتها في مصلاّه»
.
وعن
مولانا العسكري (علیهالسّلام) في تفسير قوله تعالى «مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ»
قال: «يعني ترضون بدينه وأمانته وصلاحه وعفّته وتيقّظه فيما يشهد به وتحصيله وتمييزه، فما كلّ صالح مميّز، ولا كلّ محصّل مميّز صالح»
الحديث.
وفي الخصال عن
مولانا الرضا (علیهالسّلام)، عن آبائه، عن عليّ (علیهالسّلام): قال: «قال رسول الله (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم): من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدّثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فهو ممّن كملت مروءته، وظهرت عدالته، ووجبت اخوّته، وحرمت غيبته»
ونحوه آخر مرويّ فيه أيضاً
.
وفي
الموثق: «لا بأس بشهادة الضيف إذا كان عفيفاً صائناً»
.
وفي الخبر: في المكاري والملاّح والجمّال؟ قال: «لا بأس بهم تقبل شهادتهم إذا كانوا صلحاء»
.
وفي آخر: الرجل يشهد لابنه والابن يشهد لأبيه والرجل لامرأته، قال: «لا بأس بذلك إذا كان خيّراً»
.
والمتبادر من الخيّر فيه، والصيانة والصلاح
والعفّة في سابقه، هو الأمر الوجودي الزائد على مجرد الإسلام مع عدم ظهور الفسق قطعاً، كما في العدالة قد مضى.
وهذه النصوص مع كثرتها وموافقتها الكتاب، والسنّة المستفيضة، بل
المتواترة، كما مرّ إليه الإشارة، واعتبار
سند جملة منها، وانجبار باقيها بالشهرة العظيمة بين أصحابنا التي كادت تكون إجماعاً أظهر دلالةً من الروايات الماضية. بل التعارض بينهما
تعارض المطلق والمقيد، كما صرّح به جماعة
، فإنّ الأخبار السابقة على تقدير دلالتها جملةً لا تدل إلاّ على أنّ المسلم الذي لم يظهر منه فسق مقبول الشهادة، وهو مطلق يعم ما لو كان متصفاً بالملكة، أو حسن الظاهر، أم لا وهذه النصوص كما عرفتها كالصريحة بل صريحة في اعتبار الشيء الزائد على ما في تلك، فلتكن به مقيّدة.
وبالجملة لا ريب في ضعف القول الأوّل ولا شبهة.
بقي الكلام في ترجيح أحد القولين الأخيرين، والمشهور القريب من
الإجماع، بل المجمع عليه كما يستفاد من كنز العرفان وغيره، كما مرّ الثاني، وهو الأوفق بالأُصول، وما دلّ على اعتبار العدالة ومنع قبول شهادة الفاسق، بناءً على ما مرّ قريباً من اعتبار الوصفين في نفس الأمر، ولا يمكن المعرفة بهما من دون توسط النقل والقرائن القطعيّة إلاّ بالمعاشرة الباطنيّة المطلعة على الباطن
والسريرة، وإن لم يعلمها كما هي غير الله سبحانه، لكن يتعيّن أقرب المجازات حيثما تعذرت الحقيقة.
وهذه القاعدة في غاية من المتانة، سيّما بعد الاعتضاد بالأُصول المتقدمة والشهرة العظيمة. إلاّ أنّ المستفاد من تتبع الأخبار السابقة وسيّما الصحيحين منها وغيرها بعد ضمّ بعضها إلى بعض كفاية حسن الظاهر، كما عليه من متأخّري المتأخّرين جماعة
.
والفرق بينه وبين الملكة احتياجها إلى المعاشرة الباطنيّة مدّة مديدة يحصل فيها الاطلاع على السريرة ولو في الجملة، دون حسن الظاهر؛ للاكتفاء فيه بالمعاشرة الظاهرة من نحو ما مرّ في جملة من الروايات المتقدّمة، من مثل رؤيته مواظباً على
الصلوات الخمس في جماعة، كما في الصحيح منها، أو معاملته مع الناس فلم يظلمهم، وإخبارهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، كما في جملة عديدة منها.
وهذا أوفق بما هو الظاهر من حال السلف، والمنقول عنهم، وبدونه لا يكاد ينتظم الأحكام للحكّام، خصوصاً في المدن الكبيرة، وللقاضي المنفذ إليها من بلاد بعيدة، وهو في غاية من القوة إلاّ أنّ
الاحتياط في المصير إلى الأوّل البتّة، هذا.
مع أنّ الذي يقتضيه التدبّر في حسن الظاهر المستفاد من الأخبار عدم منافاته للقول بالملكة من حيث التعبير عنه في الصحيح منها برؤيته مواظباً على الصلوات الخمس، ومعروفيّته بالستر والعفاف، وكفّ البطن والفرج عن
المحرمات. وهما سيّما الثاني تتوقفان على نوع معاشرة واختبار مطلع على باطن الأحوال، وذلك فإنّه لا يقال: فلان معروف
بالشجاعة مثلاً، إلاّ بعد أن يعرف حاله في ميدان القتال ومناضلة الأبطال، فإذا كان ممّن يقتل الرجال ولا يولّي الدبر في موضع النضال ويقاوم الشجعان ويصادم الفرسان صحّ وصفه بالشجاعة، وأنّه معروف بها، وكذلك فيما نحن فيه لا يقال: فلان معروف بالكفّ عن
الحرام، إلاّ بعد اختباره بالمعاملات والمحاورات الجارية بين الناس، كما لو وقع في يده
أمانة أو
تجارة أو نحو ذلك، أو جرى بينه وبين غيره خصومة أو نزاع، فإن كان ممّن لا يتعدى في ذلك
الحدود الشرعية فهو العادل، وإلاّ فغيره.
وأمّا من لم يحصل الاطّلاع على باطن أحواله وإن رُئي مواظباً على الصلوات والتدريس والتدرس ونحو ذلك، فهو من قبيل مجهول الحال، لا يصدق أنّه يعرف بالاجتناب عن المحرمات، بل يحتمل أن يكون كذلك وأن لا يكون.
وأظهر من هذه الصحيحة الأخبار الأخيرة المعبّرة عنه بمعاملته مع الناس فلم يظلمهم، إلى آخر الأُمور المعدودة فيها، وهي لا تقصر عن المعاشرة الباطنيّة، بل لعلّها عينها، كما يظهر من المسالك حيث قال: يعتبر في المزكّي أن يكون خبيراً بباطن من يعدّله، إمّا بصحبة أو جوار أو معاملة أو نحوها
.
ونحوها باقي الأخبار الدالّة على اعتبار الخير والصلاح في العادل؛ إذ مقتضاها اعتبار العلم بوجودهما في
نفس الأمر، كما مضى، ولا يحصل إلاّ بالخبرة الباطنيّة.
ونحو هذه الأخبار كلمة القدماء المعبّرة عنه بالمعروف
بالدين والورع، كما في كلام
المفيد، أو بالستر والعفاف، إلى آخر ما في الصحيحة، كما في كلام النهاية
، أو بحصوله على ظاهر الإيمان والستر والعفاف، واجتناب القبائح أجمع، ونفي التهمة والظنة
والحسد والعداوة، كما في كلام
القاضي، ونحوه كلام الحلبي
، بل وأظهر حيث إنّه اعتبر ثبوته على هذه الصفات، لا حصوله على ظاهرها، ومعرفة ثبوته عليها لا تحصل إلاّ بالمعاشرة الباطنيّة، كما عرفته.
وليس في اعتبار القاضي الظهور دون الثبوت منافاة لذلك؛ لأنّ الظاهر أنّ مقصوده من التعبير به التنبيه على عدم إمكان العلم بالثبوت في نفس الأمر، لأنّه من خصائص الله سبحانه وتعالى، لا أنّه لا يحتاج إلى المعاشرة الباطنيّة، كيف لا؟! وظهور اجتنابه المحرّمات لا يحصل إلاّ برؤيته متمكّناً منها فاجتنب عنها، كأن عومل فاجتنب
الكذب والظلم، وأتُمِنَ فردّ الأمانة، ووعد فوفى، ونحو ذلك، فإنّه إذا رُئي كذلك صدق ظهور اجتنابه الكبائر، لا أنّه إذا رُئي في الظاهر مجتنباً عنها مع عدم العلم بتمكّنه منها، يصدق عليه أنّه على ظاهر الاجتناب؛ إذ هو لا يصدق حقيقةً إلاّ بعد التمكّن من فعل المجتَنَب.
ونحو عبارة هؤلاء عبارة الإسكافي المتقدمة وغيرها، ممّا هو ظاهر في اعتبار المعاشرة الباطنيّة، كما في النصوص المتقدمة.
وحينئذ فلا منافاة بين القول بحسن الظاهر بهذا المعنى مع القول بالملكة، فإنّ القائلين بها لم يذكروا في معرفتها زيادة على المعاشرة الباطنيّة، حيث قالوا: لا بُدّ من الخبرة الباطنيّة والمعرفة المتقادمة. وحينئذ فلا نزاع بين من لا يعتبر ظاهر الإسلام في اشتراط المخالطة الباطنيّة في المعرفة بالعدالة.
نعم ربما يستفاد من جمع وجود قول بالاكتفاء بحسن الظاهر، فإن أُريد به ما مرّ من حسن الظاهر بعد الاختبار بالخبرة الباطنيّة فلا منازعة.
وإن أُريد به حسن الظاهر بدونه، بل حسنه من حيث عدم رؤية خلل منه مع عدم العلم بتمكّنه منه وعدمه، فلا دليل عليه، مع قيام الأدلّة
فتوًى وروايةً كما عرفته على خلافه.
مع أنّ حسن الظاهر بهذا المعنى لا يكاد يظهر فرق بينه وبين ظاهر الإسلام، وحسن الظاهر بالمعنى الذي ذكرناه لا يكاد ينفك عن
الملكة؛ إذ مع عدمها يبعد غاية البعد أن لا يظهر منه خلل أصلاً لأحد ممّن يختبره باطناً، كما لا يخفى، ولعلّه لذا لم ينقلوا في تعريف العدالة بالملكة خلافاً.
رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدّلائل، الطباطبائي، السيد علي، ج۱۵، ص۳۵-۴۷.