معلومية المنفعة في الإجارة
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
يشترط في
المنفعة أن تكون معلومة، وادعى غير واحد من
الفقهاء عدم الخلاف في ذلك بل عليه
الإجماع فيجب أن لا تكون مجهولة، وجوداً وكمية وصفة مما يكون دخيلًا في
المالية وغرض المتعاملين. فالجهل بها يوجب بطلان
الإجارة .
والملاك فيه عند المشهور هو
الجهالة الموجبة
للغرر حيث قال في
الرياض :
«(يشترط) أن تكون المنفعة مقدّرة إمّا في نفسها... أو بالمدّة... بلا خلاف، بل عليه الإجماع في الغنية، لاستلزام عدم التقدير الغرر والجهالة، واحتمال أن يؤول الأمر إلى المنازعة، وجميع ذلك ضرر منفي في
الشريعة »،
والظاهر أنّ مقصودهم اشتراط المعلومية للأوصاف الدخيلة في المالية أو في الأغراض النوعية العقلائية والعرفية من ذلك المال، فليس اللازم معلومية تمام الخصوصيات والأوصاف وعدم جهالتها، وهذا الأمر في كلّ شيء بحسبه عرفاً وعقلائياً.
إلّا أنّه يظهر من آخرين
قادحية الجهالة بعنوانها في الإجارة وإن كانت عارية من الغرر لبعض
الروايات أو الوجوه الخاصة بالإجارة. وتظهر ثمرة ذلك في بعض الموارد كما في إجارة الدار كلّ شهر بدرهم.
ثمّ إنّه قد استدلّ على هذه الشرطية،
تارة بما استدلّ به على اشتراط المعلومية في العوضين بشكل عام كعمومات
النهي عن الغرر
والسيرة العقلائية الممضاة شرعاً القائمة على أساس اشتراط معلومية العوضين من ناحية ما له دخل في المالية أو الغرض العقلائي.
إلّا أنّه قد يناقش فيه بأنّ روايات النهي عن الغرر لم يتم شيء منها سنداً بل لا سند لها إلّا ما ورد بعنوان النهي عن بيع الغرر، وهو لا يشمل سائر المعاوضات إلّا بالغاء الخصوصية واستفادة كبرى كلّية كما تقدم نظيره في الشرط السابق.
نعم، يمكن الاستدلال بالسيرة العقلائية المبني على التحفّظ على اصول الأموال والتبدّل في أنواعها،
وهي ممضاة شرعاً.
مضافاً إلى
فحوى روايات اشتراطه في البيع بعد
الغاء الخصوصية ولو بمناسبات الحكم والموضوع العرفية.
واستدلّ اخرى بالروايات الخاصة الواردة في
عقد الإيجار:
منها: رواية
أبي الربيع الشامي عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: سألته عن أرض يريد رجل أن يتقبّلها، فأيّ وجوه القبالة احلّ؟
قال: «يتقبّل الأرض من أربابها بشيءٍ معلوم إلى سنين مسمّاة فيعمّر ويؤدي الخراج».
حيث ورد فيها التحديد بمعلومية الاجرة والمدة في كلام
الإمام عليه السلام ردّاً على سؤال السائل عن القبالة الصحيحة، فيكون ظاهراً في الشرطية، بناءً على أنّ المراد من القبالة هو الإجارة لا
المزارعة ؛ إذ لا يشترط المعلومية في المزارعة.
ونوقش
فيه بأنّ عنوان (تقبّل الأرض) لو لم يكن ظاهراً في إرادة المزارعة- لأنّها هي التي كانت متعارفة في باب الأراضي الزراعية والتي هي مورد السؤال، وذلك بقرينة قوله عليه السلام: «فيعمّر ويؤدي الخراج» الظاهر في كون الخراج هو ذلك الشيء المعلوم الذي يؤدى إلى أصحاب الأراضي- فلا أقل من احتمال ذلك الموجب للإجمال. على أنّ الرواية لا تدلّ على شرطية معلومية أوصاف العوضين، بل تدلّ على لزوم تحديد مدة تقبّل الأرض، وتسمية العوض- اجرة كان أو خراجاً- بمعنى تعيينه، وهذا غير شرطية معلومية أوصاف العوضين.
ومنها: الروايات الواردة في معلومية
الاجرة ،
بدعوى عدم الفرق بين الاجرة والمنفعة في ذلك كما سيأتي.
تقدّم لزوم معلومية المنفعة بما يرتفع به الغرر والجهالة، وذلك من خلال تقدير المنفعة وتحديد مقدارها وزمانها وموردها كما يلي:
لا إشكال في لزوم تعيين مورد المنفعة- أي العين المستأجرة- إذا كانت الإجارة خارجية لا كلية، فلا تصح إجارة أحد الدارين مثلًا،
بلا خلاف
بل في
الغنية دعوى
الإجماع عليه.
مضافاً إلى أنّ بعض أنحاء
الترديد وعدم
التعيين ينافي خارجية الإجارة فيكون تناقضاً، فإنّ الفرد المردد لا وجود له في الخارج؛ إذ الخارجية تساوق التشخّص.
ومن هنا ذهب بعض الفقهاء إلى أنّ البطلان في مثل ذلك ليس من جهة لزوم الغرر بل للزوم الترديد
والإبهام في متعلّق الإجارة كما تقدم.
نعم، لو كان ذلك بنحو الكلّي في المعيّن فقد صرّح
السيد الخوئي بنفي البعد عن صحة ذلك مع تساويهما في الأوصاف بحيث لا موجب لاختلاف الرغبات المؤدي بالطبع إلى جهالة المنفعة،
ولذا حمل إطلاق كلام الفقهاء على غير هذا المورد.
وكذا يلزم تعيين مورد الإجارة بأن يعلم بأوصافه ونوعه، إمّا بالمشاهدة أو التوصيف بما يرفع الجهالة والغرر.
لا إشكال أيضاً في لزوم تعيين مقدار العين المستأجرة إذا كان دخيلًا في تعيين المنفعة، فلا يصح قوله: آجرتك بعض الدار بكذا؛ لما تقدم من لزوم الترديد والإبهام أو الغرر.
يلزم تعيين نوع المنفعة المقصودة إن كان للعين منافع متعددة ولم يرد
الانتفاع بالجميع أو بأي منها شاء، وبه صرّح
العلّامة والشهيد الثاني وغيرهما.
وإن استأجرها لجميع منافعها سواء كان المستأجر قاصداً جميع المنافع أو منفعة خاصة صحّت الإجارة بلا إشكال كما هو صريح كلام غير واحد من الفقهاء،
وحينئذٍ يملك جميع منافعها، ويكون مخيّراً في
استيفاء أي منفعة منها وإن لم يكن له الاستيفاء إلّا على جهة البدل،
إلّا أنّ
السيد الحكيم استشكل فيه بأنّ
الملكية العرضية للمنافع المتضادة غير معقولة؛ لعدم
القدرة عليها، والقدرة على المنفعة شرط في مملوكيتها عند العقلاء، فإذا كانت مقدّرة قدرة بدلية كانت مملوكة ملكية بدلية لا عرضية.
وأجاب عنه
السيد الخوئي بعدم سراية التضاد في المنافع إلى نفس الملكية؛ لأنّها اعتبار شرعي عقلائي، ولا محذور في تعلّقها بكل من المتضادين.
وسيأتي تفصيل ذلك.
وإذا تعدّدت المنافع واستأجرها من دون تصريح بمنفعة خاصة انصرف إطلاق العقد إلى المعتاد والغالب منها، سواء كان هو الجميع أو البعض المعيّن فيملك بالعقد تلك المنفعة الغالبة والمتعارفة كما قال العلّامة في الاستئجار للخدمة: «إن ذكر وقتها من الليل والنهار وفصّل في أنواعها فذاك، وإن أطلق حمل على المعتاد»،
فإن تعدّدت المنفعة الغالبة انصرف الإطلاق إلى الجميع، ولم يدخل في الإجارة غيرها من المنافع النادرة.
وإن أطلق ولم تكن هناك عادة مضبوطة فقد قوّى العلّامة
الانصراف إلى الجميع،
وتبعه على ذلك
المحقق النجفي ،
إلّا أنّ ظاهر بعض العبارات وصريح آخرين
بطلان الإجارة للجهالة وعدم المعلومية حينئذٍ.
نعم، إن لم يكن للعين إلّا منفعة خاصة لم تكن حاجة إلى تعيين نوع المنفعة.
ولا إشكال أيضاً في لزوم تعيين مقدار المنفعة، إمّا بتقدير المدة
كما في:
آجرتك سكنى الدار شهراً أو ركوب الدابة يوماً، وإمّا بتقدير مقدار العمل كاستئجار الدابة لحمل متاع معيّن أو لمسافة معيّنة من غير تعرّض للزمان، وليس
التخيير بينهما كلّياً، بل يختلف بحسب اختلاف الموارد.
والمراد- كما طفحت بذلك عبارات الفقهاء
- أنّ كلّ منفعة يمكن ضبطها بالعمل أو بالزمان كفى التقدير بذلك، وما لا يمكن ضبطه إلّا بالزمان- كإجارة العقارات
والإرضاع الطفل- فلا بد من تقديره به، وفي كلّ مورد لا يمكن ضبطه بالعمل ولا بالمدة يجب تعيينه بوجه آخر كالمرة والدفعة كما في استئجار الفحل للقاح أو الميزان للوزن فيقدّر بالمرات.
فالمدار على العلم بمقدار المنفعة بحيث يرتفع به الغرر والجهالة، وهو في كلّ شيء بحسبه.
وإذا كانت المنفعة أمراً مضبوطاً ومعلوماً عرفاً فلا حاجة إلى تعيينها وتقديرها بالعمل أو المدة أو المرة، بل تكفي حينئذٍ مشاهدة العين أو وصفها بما يرفع الجهالة ويرجع في المنفعة ومقدارها إلى ما هو المعتاد في المقدار عرفاً.
ولا تتقدّر مدة الإجارة قلّة وكثرة
إجماعاً .
فيجوز إجارة الدار ساعة أو أقلّ بشرط الضبط، كما يجوز إلى مائة سنة أو إلى مدة جرت العادة ببقائه.
ولو قدّرت المنفعة بالعمل والمدة معاً كما إذا آجر الدابة أو المركب على أن يسافر إلى
كربلاء لزيارة الأربعين- أي يصل إليه في يوم
الأربعين أو خلال ثلاثة أيّام مثلًا- فلم يتحقق العمل في تلك المدة فهنا شقوق وتفصيلات سيأتي البحث عنها عند التعرض لشرطية تعيين المدة للعمل في إجارة الأعمال؛ إذ من المناسب البحث عنها هناك؛ والمنفعة المطلوبة في هذه الموارد من إجارة الأعيان بحسب الحقيقة هي النتيجة والعمل المتحقق خارجاً كالسفر، فمن هذه الناحية تشبه إجارة الأعمال.
وقع البحث في لزوم تعيين مبدأ الزمان ومنتهاه أي الزمان الواقع فيه المنفعة إذا كانت المنفعة تقدّر بالزمان كايجار الدار سنة أو شهراً أو إيجار الفحل كذلك، فهل يلزم تعيين مبدأ المدة أي الزمان الواقع فيه المنفعة أو يمكن إطلاقه من هذه الناحية؟
ظاهر كلام
الفقهاء لزوم تعيين المبدأ، فإذا أطلق ولم يعيّن ولم يكن مقتضى الإطلاق
التعجيل بطلت الإجارة؛
للغرر والجهالة؛
لأنّ للزمان دخلًا في مالية العمل لدى العقلاء، فتكون الجهالة به وعدم تعيينه غرراً قادحاً في صحة الإجارة؛ لاشتراط المعلومية في مثل هذه الأوصاف والخصوصيات كما تقدم.
وبهذا تبيّن الفرق بين الأفراد العرضية للطبيعي والأفراد الطولية بلحاظ عمود الزمان.
نعم، في صورة عدم دخل الزمان في المالية لا يلزم التعيين، فيملك المستأجر على الأجير كلّي المنفعة في أحد الزمانين، ومع الإطلاق يجب عليه تسليمه حين
المطالبة .
ولكن قد يقال
بعدم لزوم تعيين مبدأ الزمان مطلقاً، ولا يضرّ عدم التصريح فيه فيجب طبيعي العمل في ذمة الأجير؛ لأنّه يكون متعلّق الإجارة عندئذٍ من حيث الزمان كالكلّي في المعيّن. غاية الأمر يجب على المؤجر تسليمه بتطبيقه في الزمان الأوّل، فيكون التعجيل من باب وجوب
التسليم والتسلّم على الطرفين، وهذا لا ربط له بلزوم تعيين العوضين وعدم
الجهالة فيها.
وكذا الكلام من جهة انتهاء المدة، فيلزم معلوميتها إذا كان الملاك عدم الجهالة
والإبهام في المنفعة، فلا تصح إذا قال:
آجرتك الدار كلّ شهر بدرهم
ولو لم يلزم غرر؛ لوجود الجهالة بالنسبة إلى انتهاء الإجارة. وأمّا إذا كان المدار على نفي الغرر فقط فتصح؛ لعدم الغرر في البين.
ولا دليل على اشتراط العلم بأزيد مما يوجب رفع الغرر.
وقد تقدّم
كلّ ذلك فراجع.
الموسوعة الفقهية، ج۴، ص۹۰-۹۷.